في فبراير من العام الحالي توفي الشاعر مريد البرغوثي، وكان مريد البرغوثي في حياته آخر شعراء فلسطين من الجيل الأول الذي عايش القضية الفلسطينية منذ النكبة وما مر عليها من تحولات في الصراع والسلام، وأيضاً كان من الشعراء الذين يكفي أن يتصدر اسمهم ديواناً ليحقق مبيعات تصل إلى قطاع كبير من القراء في أنحاء الوطن العربي. كانت وفاة مريد في أعين الكثيرين خسارة وضربة كبرى لشعر المقاومة والثورة الذي قد بدا أنه ينحصر مؤخراً في أسماء معينة، في الوقت الذي تشتد فيه قبضة الحصار الثقافي الإسرائيلي على الأقلام الفلسطينية.

تناولت العديد من الأعمال النقدية ظاهرة شعر المقاومة وأدب المقاومة، منها دراسة الدكتور عادل الأسطة في كتابه «أدب المقاومة»، الذي أحصى فيه عدداً من وجهات النظر النقدية التي تناولت الظاهرة، فكان غسان كنفاني هو رائد دراسة الأدب الفلسطيني المقاوم وتعريفه بوصفه ظاهرة أدبية فريدة داخل الأدب العربي، والشاعر يوسف الخطيب كان ممن اهتموا بمحاكمة موقف أصحاب النصوص سياسياً، أما رجاء النقاش في كتابه عن محمود درويش فقد اهتم بدراسة الأبعاد الاجتماعية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وقبله، وعلاقتها بالإرث الأدبي الذي ينتجه، انتهاءً إلى أدونيس وتعريفه شعر المقاومة بأنه شعر احتجاج لا مقاومة، وكانت محاولة أدونيس في هذا الصدد محاولة جريئة، في نزع قدسية أدب المقاومة كأدب فريد، وتصنيفه كامتداد للرافد الأول كنوع من أنواع شعر التحرر الوطني في الوطن العربي الذي بدأ منذ القرن العشرين. العديد من الدراسات كانت منتشرة في أواسط الستينيات والسبعينيات عن أدب المقاومة، تناولت أدب المقاومة وشعره خاصة من زوايا عدة، إلا أن أحدها لم يضع شعراء المقاومة في موضع تجريح وشكوك.

وبشغبه المعتاد، وإيمانه المطلق بالشك في كل شيء، اخترق نجيب سرور أراضي ومساحات شائكة كناقد، كان أخصبها وأجرأها قضية شعر المقاومة، التي ناقشها في كتابه «هموم الأدب والفن».

في الوقت الذي كتب فيه نجيب سرور مقالته النقدية في شعر المقاومة، كان حاضراً للزخم الذي صاحب اغتيال الشاعر الفلسطيني السياسي البارز كمال ناصر في بيروت، الذي اغتاله الموساد بطلقة في فمه كدلالة على تدميره مرتين، كشخص وككلمة، وكان في الوقت نفسه قد بزغ نجم الشاعر معين بسيسو، وقد تميزت مقاومة بسيسو لإسرائيل بأنها لم تكن مقاومة كلمة فقط، بل مقاومة كلمة وسلاح، عانى فيها كثيراً، وعانى فيها زملاؤه ممن انتهجوا ذلك النهج.

كل تلك الأحداث المتعاقبة لتكميم الأفواه الفلسطينية، وفي نفس الوقت ترك أفواه أخرى حرة في القول والحركة، أثارت الريبة في فكر نجيب سرور، الذي ترك لنا نظرة نقدية في شعر المقاومة نستطيع أن نطرق من خلالها الباب، لنتعرف على انهيار تلك الظاهرة الشعرية.

علامات استفهام

كان العائق الذي رآه نجيب سرور في محاولة نقد شعر المقاومة نقداً جريئاً أن هناك الكثير من الاعتبارات التي تجعل الشعر وشاعره فوق مستوى النقد وفوق مستوى الشبهات، وتجعل من فروسيتهم ونتاجهم الشعري نموذجاً شعرياً يقاس عليه وإليه، ويحذى حذوه.

وهو ما يعرض الناقد لاحتمالات الخيانة والطعن في الظهر، والتحالف الضمني مع أعداء المقاومة والعروبة والتحرر وفلسطين، أي أن من يتعرض لشعر المقاومة سيوصم بالصهينة، وتلك الوصمة هي التي عدها نجيب سرور سياجاً كهربائياً يحول دون قلم الناقد وشعر المقاومة وشعرائه.

وبحديثه في هذا الموضوع كان سرور من الانتحاريين الذين يفضلون قول الكلمة في أي وقت حتى لو لم يكن مناسباً، ومهما حاوطته عوامل الحرج والحساسية، وقد طرح العديد من الأسئلة في هذا الصدد التي شككت في البيئة التي أنتجت تلك الظاهرة الشعرية، جاءت أسئلة سرور كالتالي:

– هل من إمكانية لازدهار الأدب العربي والشعر خاصة في أحضان الكيان الصهيوني؟

– وكيف يمكن لشعر المقاومة في ظل فاشية وعنصرية النظام الصهيوني أن يكون علنياً؟ أم أنه بمواصفاته العامة الحالية وحدوده ونوعيته وانتشاره في الداخل والخارج لا يتعارض جوهرياً مع ما يريده الأعداء أن يكون عليه، ولا يتجاوز حدود المراد له أن يتحرك فيه؟

– وما تلك النوعية وحدودها التي يسمح بها العدو ويريدها ويتسامح معها ويرحب بها، وهل تعود عليه بكسب أم خسارة؟

– ما الموقع الحقيقي لشعر المقاومة على أرض الشعر؟

– ما خطورة شعر المقاومة في الأساس على العدو الصهيوني؟ ولماذا يتسامح مع هذا الخطر إن كانت ثمة خطورة عليه منه؟

– وإن كان شعر المقاومة لا يشكل أي درجة من الخطورة على العدو؟ فما وجه المقاومة فيه؟

– لماذا تضطهد السلطات الصهيونية بعض شعراء المقاومة في داخل فلسطين، وتدلل البعض الآخر، وتفتح لهم آفاق النشر والانتشار؟

إعادة النظر في شعر المقاومة

إن أنماطاً من شعر المقاومة كما يراها سرور هي حجر رائع في ضرب عصفورين للكيان الصهيوني، فمن خلال احتضانه لبعض الشعراء وسماحه لهم بالتكلم يظهر نفسه للعالم بمظهر ديمقراطي سمح على الصعيد الداخلي والخارجي، بينما في الخفاء يفتك بكل وحشيته بأي بادرة حقيقية من بوادر المقاومة الشعرية وغير الشعرية، في السر والعلن، خارج الأرض المحتلة وداخلها.

كما أنه يستقطب الطاقات الثورية الشعرية وغير الشعرية، في الداخل والخارج، حول قطب شعر المقاومة بهدف اصطيادها، وفرزها وغربلتها، واختبار صلابتها بشتى الوسائل، ثم تصفية الحقيقي منها، وترك الزائف لينمو، وليكون شعر المقاومة الذي ترعاه اسرائيل ذراعاً أخرى تمتد لتستأصل الحقيقي من شعراء المقاومة، وهذا ما يحققه تحريض الشعراء داخل وخارج الأرض المحتلة من أجل أن يحاكوا شعراء المقاومة، وأن يحذوا حذوهم في التعبير والصياغة، وأن يتحركوا داخل حدودهم النموذجية، التي جعلت من شعرهم منهجاً.

إن تلك المقدمات تدفع بنجيب سرور إلى محاولة توصيف وتحديد خصائص وحدود ما يسمى بشعر المقاومة كما هو عليه، الذي يحرص الكيان الصهيوني على أن يحصر داخله شعراء المقاومة.

يذهب نجيب سرور إلى إدراج شعر المقاومة كلاً وتفصيلاً تحت المصطلح الشعري المعروف بالشعر الغنائي، وهو مصطلح قديم، عبارة عن شكل أو إناء شعري محدود السعة والإمكانيات التعبيرية ونطاق التأثير والفعالية، حيث لا يتسع بطبيعته النوعية للتعبير الشامل والعميق عما يغلي في الواقع من صراعات تتشابك وتتداخل كما هي الحال دائماً في كل عصر ومكان، كما أن الشعر الغنائي بطبيعته نوع لا يتسع لأكثر من الشكوى والأنين، والتشنج، والتعبير الطفولي، كآلام الشعور باليتم، وعذابات الغربة والاغتراب والظلم، ومختلف المشاعر الإنسانية التظلمية، كما أنه لا يتسع لأكثر من الصراخ الهتافي الشعري، والفروسية الجوفاء والخطابية، التي تتفاوت بين شاعر وآخر.

هكذا رأى نجيب سرور شعر المقاومة، وهو ما دعاه إلى الادعاء بأن مثل هذه النوعية من الشعر وحدودها، مهما اتسعت في نطاق الشعر الغنائي، لا تشكل خطراً حقيقياً على الكيان الصهيوني، فضلاً عن كونها النوعية التي يفضلها من نوعيات الشعر المختلفة، والحدود التي يريد للمقاومة أن تنحصر بداخلها وتدور في فلكها.

القياس بمسطرة أرسطو

رأى سرور أن الجواب على أسئلته يتضمنه كتاب “فن الشعر” لأرسطو، الذي يبرر فيه أسباب استبعاده للشعر الغنائي من دائرة الشعر، فدائرة الشعر الأرسطية تنطوي على شعر الملاحم والمأساة والملهاة والمحاورات، وتلك أنواع من الشعر تختلف كلياً عن الشعر الغنائي من حيث السعة والحدود والإمكانيات والطاقات والوسائل التعبيرية والتأثيرية، وهي أنواع تندرج تحت مصطلح “الدراما الشعرية”.

ولا يُفهم من مصطلح الشعر الغنائي قابلية الشعر للغناء أو التلحين أو المصاحبة الموسيقية، فالمصطلح رغم ارتداده للموسيقى من حيث الأصل والنشأة، يتجاوز الغناء بهذا المعنى إلى معنى فني آخر يحدد مكانه من أنواع الشعر المختلفة، ويجعله مخالفاً للشعر الدرامي على التحديد.

إن ذلك التحديد يدفع نجيب سرور لطرح السؤال حول أسباب امتلاء الواقع العربي بالشعر الغنائي في مقابل ندرة ملحوظة للشعر الدرامي، أي أنه واقع مليء بالخطب الجوفاء، وخالٍ من أعمال المقاومة الحقيقية.

لذلك يرى سرور أن إسرائيل تتسامح إزاء أطنان الدواوين الشعرية الملقاة على الأرصفة، ولكنها تصاب بالسعار والجنون إزاء المجموعات التي تتوافر فيها خصائص الجدل الدرامي والمسرحيات الشعرية الأكثر ندرة، فبينما تتسامح مع الشعراء الغنائيين في الداخل والخارج، لا تترك متنفساً لشاعر مسرحي واحد، فالطبل والزمر ونفخ الأبواق للشعر الغنائي هو نوع من الحصار المضروب حول جدل الدراما الشعرية المرعب والشديد الخطورة، وهو ما دعا أرسطو لإخراج الشعر الغنائي من دائرة الموسيقى، وحرمه ماهيته وهويته الشعرية.

إن ذلك الاحتفاء النقدي بالقصيدة الغنائية يثير استفزاز نجيب سرور، ويدفعه للاشتباك مع النقاد العرب، فيهاجم ضيق نظرتهم لحصرهم الشعر في نطاق القصيدة الغنائية، ومبالغتهم في تقدير قيمتها، وتضليلهم الطاقات الشعرية واختزال فعاليتها، وإقصائها خارج ساحة النضال الشعري الحقيقية، ساحة الدراما.

كان المأخذ الأهم لنجيب سرور على شعر المقاومة أنه لا يتخطى كونه كلاماً، فهو يتضمن لحظات خطابية وحماسية وفروسية إلى جانب التمزق والأنين والشكوى والبكاء على الأطلال، ولم يعد يحمل إمكانية التأثير الحقيقي في نفس متلقيه، وفي حركة الواقع الفلسطيني والعربي، وفي إطار الواقع العالمي عموماً، وإن كان لهذا الشعر ثمة أي تأثير أو فعالية فإنها وقتية محدودة وعابرة، تستدعي الإشفاق والترحم، أكثر من استفزازها القارئ للنضال والاعتراك.

إذن فكيف لتلك الكلمات الرنانة الجوفاء أن تقلق راحة وأمن وطمأنينة الصهاينة؟ فهل هي توصل إلى الرأي العام العالمي صورة حقيقية عن طبيعة المعركة وأبعاد الصراع، وهل يمكن لتلك القصائد أن تكسب من العدو شبراً على الأرض؟ فلو كانت لها الفعالية حقاً، فلمَ سمح العدو الصهيوني بنموها على أراضيه، وما أجرأه على التبجح أمام العالم في قتل المناضلين المسلحين؟ فما أسهل عليه من قتل شاعر يتسلح بقلم.

من أجل التذكر والبكاء.. لا الفعل

إن تلك الدائرة التي رسمها نجيب سرور ليدور فيها نقده الموجه لشعر المقاومة تحيله إلى سؤال آخر، فإن كان الشاعر يستطيع أن يتنفس ويتمتع بالهواء الطلق على نطاق الوطن المحتل وغير المحتل، فكيف يمكن لشعره أن يكون شعراً للمقاومة؟ أم أنه نوع من الشعر يعبر عن نوع من المقاومة في حدود ما يسمح به العدو؟ كمقاومة لا تلحق به ضرراً حقيقياً، رغم سعة انتشارها عربياً، أم أن ذلك الانتشار العلني كمقاومة علنية هكذا؟ موجهة ضد مَن وفي ظل أي ظروف محلية أو عالمية إن كانت لا تؤثر؟ وماذا يمكنها أن تكون غير مصائد للقوى الثورية، التي هي قوى المقاومة نفسها، وأقطاب لجذبها، فكشفها، فالإيقاع بها، واستنزاف عروق المقاومة جيلاً بعد جيل؟ ولماذا يُغتال أبطال المقاومة واحداً بعد الآخر، ويتجول أبطال زائفون في العالم، آمنين متمتعين بطمأنينة غريبة ومريبة في السفر والترحال والإقامة.

يرى سرور أن مثل هذا النوع من شعر المقاومة هو إفراز طبيعي ونتاج طبيعي لهذا النوع من المقاومة، فهي مقاومة تقاوم المقاومة، ولا تلد غير الشعر الذي يقاوم الشعر، الشعر الغنائي بخاصة، والحماسي على أقصى تقدير.

لقد صنع سرور علاقة منفعة متبادلة بين شعر المقاومة في قالبه الغنائي ومصالح الاحتلال الإسرائيلي، يتكسب منه الشاعر والكيان الصهيوني معاً كلٌّ منهما يغذي مصلحته المادية والمعنوية، وتلك المصلحة تزول بطبيعتها بانقضاء أسبابها التي ولدتها، وهو ما يجعلنا نسأل إن كان سرور محقاً فيما قال؟ ولماذا تراجع شعر المقاومة تماماً في السنوات الأخيرة خاصة بعد اتفاقية أوسلو؟

ما نفع القصيدة؟

هكذا الشاعر زلزال وإعصار مياه، ورياح إن زأر

همس الشارع للشارع: قد مرت خطاه، فتطاير يا حجر





الشاعر الفلسطيني محمود درويش

تلك كلمات كتبها محمود درويش عن قوة الكلمة والقصيدة، وعاد ليناقض نفسه فيما بعد حين كتب:

ستقول طالبة: وما نفع القصيدة؟ شاعر يستخرج الأزهار والبارود من حرفين. والعمال مسحوقون تحت الزهر والبارود في حربين. ما نفع القصيدة في الظهيرة والظلال.

إن تلك المعضلة التي أرقت محمود درويش في شعره هي نفسها التي دفعت سرور لتوجيه سهام النقد لأنماط شعر المقاومة، وهي ما جعله يتبنأ بأنها كلمات زائلة، مهما بلغت قوتها، فهي مجرد كلمات، ما لم تستند إلى حراك وفعل حقيقي.

وفي القرن الحالي هناك العديد من التحديات التي تواجه الشعر المقاوم والشعراء الحاليين، فالاحتلال الإسرائيلي يواصل فرض الحصار على الأراضي الفلسطينية، التي تمنع انتقال الشعر المقاوم من نطاقه المحلي إلى نطاقه العالمي، بالإضافة إلى حالة التباطؤ من النقاد والدارسين في استقبال شعر المقاومة في القرن الواحد والعشرين واتهامه بالضعف، وشعر المقاومة في إطاره كفرع أدبي من الأدب الفلسطيني ليس بمعزل عن ارتفاع درجة الإحباط الذي تسبب به الاحتلال، وقصور المؤسسات التعليمية عن الاهتمام بقضية الشعر المقاوم، والسلطة الفلسطينية التي لا تقدم دعماً مالياً يذكر في المجال الثقافي لاستثمار طاقات وعقول الشباب في ترسيخ وتدوين التاريخ الفلسطيني في شعره الفلسطيني.

إن أي نوع من المقاومة التي تتخذ نمطاً فنياً له طابع الرفض يحتاج إلى أرضية صلبة يقف عليها، وإلى مجتمع ثابت لا يتعرض إلى كثير من التجرفات، لذلك كان من البديهي أن تنهار تحت سيل التجريف الذي يصنعه الاحتلال الإسرائيلي بالواقع الفلسطيني كل أنواع البيئة الجمالية والتراثية للمجتمع الفلسطيني، فأصبح الشعر مقطع الأوصال في وطنه غير قادر على نشر نفسه.

كما أن الحركة النقدية في نهاية القرن العشرين قد تعرضت لانتكاسة كبرى فيما يخص استقبال الأدب الفلسطيني والاحتفاء به في ظل انحسار مفهوم القومية العربية، فبدأت التفككات التي حدثت للمجتمعات العربية التي خاضت العديد من الحروب بعيداً عن حلبة الصراع في فلسطين، وتبع تلك الحروب عديد من الاتفاقيات التي أجبرت تلك المجتمعات العربية على الانكفاء على ذاتها وقطع رابطها بالقضية الفلسطينية، والذي تبعه قطع التواصل الثقافي بين الجامعات والمنتديات الثقافية العربية الكبرى، مما نزع قضية فلسطين وشعرها المقاوم من مركزها المهم إلى مركز هامشي في الحركة الثقافية العربية، ففقد الأدب الفلسطيني قدرة اتصاله مع الشعوب الأخرى.

كما أن شعر المقاومة نفسه قد وصل إلى مرحلة من التشبع، ما جعله مكرراً، وحصره في نماذج معينة تشكلت في أسماء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وتلك القولبة هي نفسها التي حذر منها نجيب سرور بأنها قاتلة وخانقة للإبداع، وتمارس سلطة على المبدعين.

لم يكن نجيب سرور يتهم شعراء المقاومة في عصره بالخيانة، بل كان يتهم ذلك النمط الشعري الذي ينتجونه في حدود المسموح، وهو ما من شأنه أن يفيد سلطة الاحتلال، ويجعل القضية الفلسطينية جثة خامدة من الكلمات، ويجعل أجيالاً مبدعة تنتهج ذلك النمط المنتشر لشعر المقاومة، ما سيقتل قدرتهم الإبداعية عند حد ما، فما الذي يستطيعون إضافته للقضية؟ لذلك تجمدت قضية شعر المقاومة في زمن ما بمعطياته، وهامش الحرية الذي سمح به الاحتلال الإسرائيلي في هذا الزمن حين كان تحت حكم اليسار العمالي، وهو العصر الذهبي لأدب المقاومة في فلسطين.

وقد كان لإنشاء دولة فلسطينية في أعقاب مباحثات أوسلو أثره على قضية الشعر المقاوم، فقد أصابت الخيبة شعراء المقاومة، وأصبح الحصار الثقافي وتكميم الأفواه ممارساً من الناحيتين، وما نراه من الواقع اليوم في إسرائيل وفلسطين تحت سلطة فتح على حد سواء، من التعامل مع أي محاولة فنية خارجة عن النطاق المحدد، يجعلنا نرى في كلام سرور أنه كان على قدر كبير من الصواب.

فنجد مثالاً في كبت الطاقات الفنية العملية في إطار المقاومة من خلال مسرح الحكواتي في القدس الذي تأسس للحفاظ على الهوية الفلسطينية في وجه التهويد عام 1984، وما يتعرض له هذا المسرح الآن من تضييق للخناق على قدرته العملية، وملاحقاته من خلال مضاعفة الضرائب المستحقة عليه للحكومة الإسرائيلية، ستعرضه في النهاية للإغلاق، وما تقوم به على الناحية الأخرى السلطة الفلسطينية من اعتقال للفنانين المعارضين للسلام مع إسرائيل كالمخرج عبد الرحمن الظاهر.


خيبة النهايات

إن زيادة المجازر والدماء التي ملأت فلسطين في أعقاب اتفاقية أوسلو حتى حصار غزة كانت من الغزارة بمكان جعل استيعابها في الأنماط الفنية شيئاً يستحيل على المبدع، ففي وجه ذلك التبجح الصهيوني فقد شعر المقاومة قدرته وأصبح لا يمنع مكروهاً ولا يكسب أرضاً في قضية الصراع، مجرد نقوش خالية من الحياة.

في الوقت الذي تفجرت فيه ثورة الفضائيات، وأصبح العالم يرى بشاعة الاحتلال وممارساته يومياً، تراجعت قوة شعر المقاومة التجسيدية التي كانت تخول له فرصة نقل ما يحدث داخل فلسطين في الخفاء، فقد أصبح كل شيء مُعلن، وأصبحت جثث الأطفال معروضة للراغب في النظر، ففي تلك الحالة ما الذي يمكن أن يُقال غير كلام رثائي مكرر من الشعراء عن الانتهاك، لا يستطيع مهما بلغت قوته البلاغية أن يتفوق على الصورة الحية المنقولة عبر الفضائيات.

والأوضاع السياسية في الأراضي الفلسطينية لعبت دوراً مهماً في الحد من تطور الأدب الفلسطيني ككل، فمن ناحية فرض الحصار من الاحتلال الإسرائيلي، ومن ناحية أخرى انقسام القضية الفلسطينية على نفسها، جعل الطاقات الأدبية مستنزفة في حرب دائرة داخلياً بين فتح وحماس وغيرهما من المتنافسين على احتكار النضال الفلسطيني، مما حد من الالتقاء بين التقاء الشعر والشعراء من أنحاء الوطن الفلسطيني ككل.

وأصبح الشعر المقاوم يكرر في دوائر مغلقة، لا تمتلك القدرة على إحداث شيء صاخب، لأنها لا تمتلك فرصة لاختراق سقف تلك البيئة المفروضة، فانتهت المقاومة لغياب الروح الشعرية والفكرة الشعرية، فبيئة الحصار قد قتلت الشعر بسبب غياب المدارس النقدية والاتصال بالآخرين، والقدرة الاطلاعية على الأدب في مختلف أنحاء العالم، بسبب ضعف حركة الترجمة داخل فلسطين، وحركة النشر، فلا شيء ينشر إلا في حدود ما يسمح به الاحتلال والسلطة الفلسطينية.

وذلك الواقع المأساوي لأدب المقاومة كان قد وافق تنبؤات سرور، فالاحتلال اتبع خطة ممنهجة لاحتواء شعر المقاومة منذ البداية حتى القضاء عليه الآن، غير أنه في احتوائه لتلك الظاهرة صنع ظاهرة شعرية أخرى في المجتمع الفلسطيني، وهي ظاهرة شعر الأسر، الذي يكتب من الأسراء في السجون الإسرائيلية، ولكنها لم تقابل باحتفاء كبير حتى اللحظة، ولكن انهيار الشعر المقاوم لم يتبعه انهيار في فعل المقاومة نفسه في المجتمع الفلسطيني، فما نراه هذه الأيام من حراك حقيقي في وجه الاحتلال، قد أكد أن السيف أصدق أنباءً من الكتب، ولكنها بطولات ستخلدها الصورة والفيديو عوضاً عن الكلمة.