في مسرح الشعب، مدينة ( قارص ) التركية، يجلس مشاهدون من جميع فئات الشعب، شباب إسلاميين في الصفوف الخلفية، ممثلون عن الدولة التركية العلمانية في الصفوف الأمامية، أكراد يساريون، تنوع ثقافي وعرقي كبير يجلس في مسرح الشعب، حيث يبث التلفزيون المحلي على الهواء لأول مرة تلك المسرحية المعادة والمكررة التي كتبها أحد (الأتاتوركيين) المخلصين لأتاتورك في الثلاثينيات ليستمر عرضها حتى التسعينيات في ظل المواجهة الحادة بين الدولة العلمانية والإسلام السياسي في تركيا.

تبدو المسرحية دعائية من الدرجة الأولى وتفتقد لأدنى مقومات الإبداع الأدبي حيث تسير في سيناريو يتمحور حول:

1. امرأة مغطاة كلها بغطاء أسود تسير في الشوارع وتحدث نفسها مفكرة. وهي تبدو تعيسة لسبب ما.

2. تكشف المرأة غطاءها وتعلن تحررها. والآن هي سعيدة لسبب ما.

3. لأسباب متنوعة تعارض هذه الحرية أسرتها وخطيبها وأقربائها وبعض الرجال المسلمين الملتحين، ويريدون إعادة تغطيتها، إثر هذا وفي لحظة غضب تحرق المرأة غطاءها.

4. يعارض المشعوذون ذووا اللحى المدورة حاملو المسابح بأيديهم هذا التصرف المعاند، وفي لحظة شدهم لتلك المرأة لقتلها.

5. ينقذها جنود الجمهورية الشباب.



يندرج سؤال الهوية على خيالات كثيرة من الطرفين المدعين لامتلاكهما الحقيقة المطلقة، وهو ما يعبر في تماس شديد عن أزمة المجتمعات الإسلامية مع الحداثة

تصور الرواية كما المسرحية هذا الصراع الدائر منذ منتصف السبعينات بين العلمانيين الأتراك من جهة وبين الإسلام السياسي الذي استطاع أن يستدرج شرائح كبيرة من المجتمع التركي وخاصة الشباب العاطلين عن العمل نحو مواجهة واسعة مع الدولة التركية، لحظة المواجهة تلك تستدعي الانسياق والإحالات الكثيرة لأسئلة مختلفة حول الهوية الحقيقة للمجتمع التركي، والتي – في رأيي – تنسحب على سؤال الهوية عند المجتمعات الإسلامية خاصة تلك التي عاشت تجارب التحديث القسري فيما تلا التحرر الوطني.

يندرج سؤال الهوية هذا على خيالات كثيرة من الطرفين المدعين لامتلاكهما الحقيقة المطلقة والإجابة الشافية على السؤال، وهو ما يعبر في تماس شديد عن أزمة المجتمعات الإسلامية عموما مع الحداثة، فالنقد الذي يوجهه الإسلاميون للحداثة لا يعدو نقدًا منهجيًا للحداثة كبنية، بل لأنها بنية اغترابية على الجسد الاجتماعي للمجتمع الإسلامي المتخيل أيضًا هو الآخر.

فالخيال هنا هو محرك مركزي للنظرة للمجتمع من المنظور الإسلامي والذي يحيل كل شيء لثنائية شديدة التعقيد تربط بين التراث العظيم، والحاضر الموغل في بؤسه، ومن هنا يتم استدعاء الحل العقائدي وهو أن التقرب من الله والتمسك بالدين هو الحل لكل شيء، يبقى هذا الحل مبتذلا ليس فقط لاستناده على خيالات تاريخية للإسلاميين فقط، لكن لأن آلية طرح هذا التصور تفتقد لأدنى قواعد المنطق في الطرح، على غرار (ينتهى الغلاء إذا تحجبت النساء)، فلا يبدو أن الحل الإسلامي قائم بذاته على بنية معرفية سليمة، أو كما يقولون بنية تراثية عظيمة.

ربما تبدو الإحالة هنا للعقل والمنطق كبنية حاكمة للإجابة على الأسئلة التي يفرضها المجتمع في طور تطوره هامة ومركزية في وجهة نظري، ليس فقط لأن تلك الإحالة سبق أن أجابت على تلك الأسئلة في النموذج المركزي الأوروبي للتحديث، لكن لأن العقل والمنطق هنا يشكلان بنية سليمة للتفكير في المجتمع كمجموع مادي تتعارض نظرات أفراده وهوياتهم الشخصية، فيبقى العقل والمنطق كأساس حاكم لأي عملية تحديث اجتماعي غير قسرية.


لكل منا شيء أساسي يريده من الحياة

يطرح «باموق» في سياق روايته سؤال الهوية هذا باعتباره سؤالا مركزيًا لدى الطرفين المتصارعين، فبين الحوارات الكثيرة التي يجريها البطل «كا» (الشاعر العلماني ابن البرجوازية المركزية في إسطنبول) والذي تربى كليًا على النمط الغربي، وعاش في فرانكفورت، والذي يضطر لأن يقابل في رحلته لقارص المدينة التي ترتع بالإسلاميين، ويتحاور معهم محاولًا الحفاظ على قدر ما من التماهي مع أسئلتهم المتكررة وشكوكهم حول كونه ملحدًا أم لا؟! من هنا ينطلق باموق لأن يعرف القارئ على صراع نفسي لدى البطل نفسه في الإجابة على سؤال الهوية.

رغم أن سؤال الهوية في الرواية يصوره الكاتب على أنه مركزي إلا أنه يميل في أحيان كثيرة في تصوير الصراع الحقيقي للأشخاص الفرديين في الرواية، فالحب والجنس والتسلط هو شيء هام بالنسبة للجميع على تنوع انتماءاتهم الأيدلوجية. ويهمش سؤال الهوية هذا في حوارات تبدو كوميدية في أحيان كثيرة، وكأنه يريد أن يقول أن هذا السؤال هو سؤال خاطئ من الأساس، وليست مهمة الحداثة أن تجيب عليه في كليته، فهوية المجتمع هو مجموع هويات الأشخاص الفرديين فيه، ومن ثم لا إجابة واحدة على السؤال، وتبدو الإجابة الواحدة تلك هي درب من الخيال، والسعي لاستبطان الحقيقة هنا هو كما صورها نيتشه (كمحاولة مغازلة امرأة جميلة بطريقة غير لبقة).

ومن هنا يمكن صياغة المفهوم الاجتماعي الأكثر عقلانية للحداثة على أنها مسئولية الأشخاص الفرديين عن اختيار مصائرهم الخاصة، وهذا هو الوعد الخلاصي الذي لم تقدمه الحداثة لأي المجتمعات التي سعت نحوها، حتى في الدول الأوروبية كان هذا الوعد الخلاصي منقوصًا حين هبط على أرض الواقع.

ظهر هذا الوعد الخلاصي، وأعني بالخلاصي هنا التخلص من سطوة الدين كمسيطر على اختيارات الناس، وتقديم وعد أكثر دنيوية، فالدين يجعل الوعد مؤجلا في حياة أخرى، لكن الحداثة جعلت الوعد دنيويًا برفاهة وعدالة وإنسانية للجميع. وهذا بالضبط ما شكل الأزمة حين هبطت الحداثة لتنفذ وعدها الدنيوي، يظهر هذا الالتباس المجنون بين الحداثة كنسق مفتوح يتيح للجميع كأفراد اختيار مصائرهم الخاصة في الدنيا وبين الحداثة كوعد جمعي كبير في النموذج التركي، «الأتاتوركية» التي تعد مزيجًا خاصًا بين القومية والتحديث القسري على النمط الغربي، جعلت هذه الحداثة جحيمًا على الجميع بمن فيهم الحداثيين أنفسهم، فغدت شعارات مثل (إما الوطن أو الإشارب) أو (تركيا واحدة علمانية تنويرية) في التسعينيات مبتذلة أكثر من شعارات الإسلاميين أنفسهم. فغدا الخيار المتاح أمام المجتمع هو إما دكتاتورية علمانية، أو دكتاتورية إسلامية.

كانت الإجابات المغلقة التي طرحتها القومية على سؤال الحداثة، والتي اعتبرتها القومية بنية جيدة لتجديد خطابات السلطة على الشعوب في مداها الجغرافي، إجابات غير شافية وغير مجدية على المستويين التجريبي والنظري، فلم تسمح بتطور عملية ديمقراطية قاعدية تشاركية، بل ظلت فريسة لانقلابات عسكرية دعمت من خطاب المركز في مواجهة الهامش.


عن الخيالات التي شكلت خطاب التسلط



كانت الإجابات المغلقة التي طرحتها القومية على سؤال الحداثة، إجابات غير شافية وغير مجدية على المستويين التجريبي والنظري

على الجانب الآخر من الصراع يبقى العلمانيون الأتراك، هؤلاء البرجوازيين من المركز الذين آمنوا بالغرب كمنقذ لهم من جحيم العثمانيين، رغم هذا ظلوا على افتخارهم بالقومية التركية كأساس وقاعدة قبل حداثية،لذلك لم يدينوا مذابح الدولة العثمانية ضد الأرمن وارتكبوا مذابح لاحقة ضد الأقليات والإثنيات الأخرى تحت شعارات التنوير والقومية التركية. جميع هؤلاء قوميين أو إسلاميين يرتكزون على سردية شكلت خيالات وعقول وألبان تابعيهم، وتلك السردية هي واحدة عند الاثنين، وإن اختلفت المكونات الخطابية لطرح السردية، فالقوميين والإسلاميين يرتكزون على خيال استعلائي على الشعب، وحكم مطلق على ما يريده، بل وعلى ما كان عليه في الماضي القريب، ولا فرق إن كان المجتمع كله في نظر الإسلاميين هو مجتمع مسلم يريد أن يعيش تحت شرع الله، أو مجتمع علماني بأصله يريد أن يرى نور الحداثة.

فكلا السرديتين هما فوقيتان تفرضان رؤية واقعية وتاريخية خيالية غير صحيحة حول المجتمع كمجموع عقلاني يمكن تطويعه ودمجه تحت السردية الخاصة بكل طرف.

بل وقد يمتد هذا الخيال التاريخي ليشمل إصدار أحكام مختلفة على مجتمعات أخرى، فمثلا في حديث لأحد الشباب الإسلاميين يقول: «لم تكن إليزابيث تايلور لتدخل في حالة الاكتئاب التي دخلت فيها بسبب فقدانها لجمالها وزيادة وزنها لو كانت من الأساس محجبة لا تكشف عن جسدها».

تستمر الرواية في رصد الخيالات التي تستدعي الدماء كمبرر للتواجد على الساحة من الطرفين المتصارعين، ويستمر باموق في رصده لتلك الخيالات محاولا أن يذيب هذا الثلج، الثلج الذي شكل عازلا للمجتمع عن جذوره، الذي جعل أفلاطون ينظر للسماء ويتجاهل الأرض، والذي حول تلك الهلاوس الميتافيزيقية حول الدين والعلمانية لمتجسدات مادية قمعية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.