رواية «

دفاتر الوراق

» هي آخر روايات الكاتب الأردني «جلال برجس»، والتي حصلت على جائزة البوكر العربية لعام 2021. وفي هذه الرواية نجد أنفسنا في مواجهة سؤال واضح: ما هو مصير منْ لفظتهم المدينة الكبرى ومنْ همَّشتهم الحياة بلا ذنب منهم؟ نُبِذوا واستبعدوا كما كانت البنات تُقتل في زمن الجاهلية دون أن تعرف أي منهم بأي ذنب قُتلت.

قرأتُ من قبل كتاب الأستاذة «رضوى عاشور» – رحمها الله – «لكل المقهورين أجنحة». ذكرَت في المقدمة أن هذا الاسم يرجع إلى أسطورة قديمة مفادها أنه في زمن استعباد البشر كانت كلما اشتدت وطأة الظلم على العبيد تخيَّلوا أن لهم أجنحة يطيرون بها ويُحلقون فوق الحقول التي شربت من دمائهم حتى كادت تنزف، كانوا يطلقون على أنفسهم اسم أبناء الرب كنوع من التعزية والمواساة، ليكون الاسم الحقيقي للأسطورة «لكل أبناء الرب أجنحة». هكذا صوَّرتهم الأستاذة وجاء جلال برجس في هذه الرواية ليُدخلهم عالمه الروائي الساحر.

المتاهة

في بادئ الأمر يشعر القارئ أنه في متاهة من الشخصيات والأحداث ولا يعرف الرابط بينها، بيد أنه يظل مجذوبًا إلى النهاية مهما تشعَّبت الطرق، مُستمتعًا باللغة الشعرية والبلاغة التي تُزيِّن النص على الرغم من المرارة النابضة بين السطور.

من خلال فقد إبراهيم الوراق (الشخصية الرئيسية) لدكانه الذي كان كل حياته، بل إرثه من أبيه «جاد الله»، ومن خلال مأساة ليلى بسبب حياتها داخل الملجأ والأمل الزائف الذي كانت تُمنِّي نفسها به إذ تخرج منه، ولكنها عرفت فيما بعد أن الحياة خارج الملجأ لا تقل ضراوة عن العيش بداخله، وأن الحياة تدَّخر لها ولأمثالها قسوة أكبر مما رأته حتى في أسوأ أحلامها، توصم هي وزميلاتها وزملاؤها بأبناء وبنات الحرام، دون أن يرتكبوا أي جُرمٍ أو حرام.

وصمة المجتمع

«يوسف السمَّاك» هو الطبيب النفسي الذي لجأ له إبراهيم الوراق ليُعالج فصامه، ومرضه الذي يكمن في بطنه، ليجد أن الطبيب بدوره له عقدته الخاصة، نبذه المجتمع بسبب الأصل أو انعدامه إذا جاز التعبير، فقد رفض أبوه الاعتراف به فبات بلا أصل، كشجرة نبتت في الفراغ، الشيء الذي هو من ضروب المستحيل.

لم تُفلح محاولات يوسف في أن يصنع لنفسه نسبًا خاصًّا، وأن يجعل المجتمع يعترف به حتى بعد أن درس الطب النفسي وبرع فيه، فوصمة المجتمع كانت أقوى وأعمق، كندبة في الوجه لا يمكن علاجها أو مواراتها.

رن هاتفي؛ إذ كانت رسالة من الدكتور يوسف السمَّاك: عزيزي إبراهيم حديثك حول الجذور دفعني لكتابة هذه الرسالة فأفكر معك بصوت عالٍ: هل يمكنني العيش بلا انتماء لعائلة كبيرة في زمن يهرع فيه الجميع إلى تجمعات مثل تلك، أعلم أن هناك انتماءً مكتسبًا، وانتماءً فطريًّا، وآخر تكونه جماعة ما، وأعلم أن ذلك يغدو ضربًا من العبث ما دمنا ننتمي إلى عقولنا، تعلمتُ في أعرق جامعات أمريكا ولديَّ من المال ما يكفيني إلى الشيخوخة، لكنني أشعر أنني أنقص شيئًا.





جزء من النص.

كذلك السيدة نون؛ كانت لها وصمة هي الأخرى باعتبارها امرأة وحيدة لا تعيش في كنف أب أو أخ أو زوج، ففي المجتمعات العربية إذا لم تكن المرأة تابعة لرجل، عاشت في مهب الريح، مهما برهنت للمجتمع على حسن سلوكها واستقامتها، دفعتها هذه الاعتبارات إلى محاولة الانتحار بالتزامن مع ميعاد محاولة إبراهيم إنهاء حياته، وفي نفس المكان أيضًا، ولكن لقاءهما الخاطف هذا على شفا حفرة الموت أعادهما للحياة.

إبراهيم الآخر

كان إبراهيم مثقفًا مستضعفًا، يكره ضعفه، يكره سلطة أبيه عليه وقهره له، الناجميْن عن خوفه المتضخم بسبب سنين قضاها في المعتقل، بدَّلت شخصيته، جعلته يتوجس من جميع الأشخاص وجميع الأشياء، كان طرد إبراهيم من دكانه بمثابة آخر ضربة يمكن أن يتلقاها صامتًا، فأتت صرخة اعتراضه من داخله، تمثل له شخص آخر يتحدث إليه ويأمره، ويبدو أنه على دراية كاملة بحياته السابقة ومشكلاته مع الجميع، وكذلك عزلته الاجتماعية التي فرضها عليه أبوه ثم باتت جزءًا من تكوينه.

كانت بطن إبراهيم الوراق تتضخم إذا خلا إلى نفسه كبطن امرأة حُبلى، ولكن حمل إبراهيم كان من نوع خاص، يأتي صوت من تلك البطن يُعنِّفه ويقسو عليه ويدفعه لفعل أشياء ما كان ليفعلها لولاه، بعضها وهو في كامل وعيه والبعض الآخر وُجد فيما بعد في دفتر مذكراته وقد كُتب عليها «كوابيس».

كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة منتصف الليل عندما صحوت من نومي أتصبب عرقًا، ويستبد بي اللهاث جراء كابوس مرعب، إنه واحد من كوابيس أخذت تطاردني منذ اكتملت عزلتي بموت أبي، استحالت نقرات عقارب الساعة إلى مطارق تضرب رأسي، وصار صوت ماء الصنبور كأصوات انفجارات متتالية، وتحول الصوت إلى دوي قنابل، فتحت الباب ووقفت خارج البيت، نفسي ضيق، إذ بقيت أشهق الهواء إلى أن تراجع جزء كبير من ذلك الرعب، كانت نافذة جارتي مضاءة وثمة من يراقبني من وراء ستارتها.






جزء من النص.


فصامٌ مبكِّر

كانت لإبراهيم هواية منذ طفولته وهي تقليد شخصيات الروايات التي كان يقرؤها في دكان أبيه، كان يبرع في التقليد إلى الحد الذي تتغير فيه هيئته ونبرة صوته، بل ملامح وجهه، الهواية التي نهاه عنها أبوه بدافع الخوف والاحتياط من المجهول الذي يحمل خطرًا بالضرورة في نظر الأب «جاد الله» بالطبع، ثم بات الأمر أخطر حيث كان يأمره قرينه أو رفيقه في نفس الجسد بالسرقة والقتل لأسباب نبيلة على حد تبريره.

سمح لنفسه بتحقيق العدالة بدلًا من القانون، بل رأى أن من حقه أن يسبق القانون إذا شعر هو أنه تأخر في القصاص، سرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، قتل الظالمين، رفض إبراهيم كل ذلك في أول الأمر ولجأ إلى الانتحار حتى يتخلص من تضخم بطنه والصوت الذي يصدر عنها، ولكنه لم يُفلح. توالت الأحداث القاسية في حياته وأبرزت له كم هو ضعيف في مواجهة العالم الغاشم، الذي سلبه كل شيء: قريته وعائلته وبيته ودكانه، فاستمع إلى الصوت وانصاع لجميع أوامره في النهاية.

صرخة المُهمَّشين

استطاع جلال برجس من خلال «دفاتر الوراق» أن يرسم خريطة كاملة ليست لأقطار بل لأشخاص لفظتهم الحياة من جوفها وحرمتهم نعيمها فاستقروا على الهامش، لأن أي محاولة منهم للاندماج داخلها كانت تنتهي بفشل جديد وخيبة أمل جديدة.

يحاول كل منهم إشهار سيف من ورق في وجه الحياة، ربما كان إبراهيم هو منْ ازدرد من الإهانة على مر الأيام، ما جعله يصنع لنفسه سيفًا قاطعًا في وجه الظلم بجميع صوره.

سار الشموسي على الأرض الجرداء، ثم جلس على صخرة، وفك لثامه ونظر إلى الشمس وقد أطلت من أعلى التلال المقفرة كعيني ولد خجول وراء أمه، وراحت دموعه تسح على وجهه الضامر، وتتعلق بلحيته المدببة. بكى لشعور يخنلط فيه الحزن بالفرح في ليلة اصطف بردها جنبًا إلى جنب مع الجوع، وقلق العائلة على ولديها خازر وسليم اللذين جُندا في الجيش، في وقت تدق فيه طبول الحرب ضد العصابات اليهودية في فلسطين.





جزء من النص.

تتقاطع الأحداث في هذه الخارطة الأدبية بين الشخصيات على مر الفصول، وبين حياة عائلة جاد الله الشموسي من بدايتها، وما تكبدته من آلام أثقلت كاهل أبنائها وأورثهم غصة في الحلق لم ينجُ منها أحد من نسلهم أبدًا، تاريخٌ من الظلم والاستغلال للمحتاجين من غير المحتاجين، أبناءٌ أخذتهم الحروب ولم يَعُد منهم إلا معونة مالية، لا يمكن حتى الترفُّع عنها بسبب الفقر والحاجة.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.