في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017 أعلن ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» عن خطته الطموحة لإنشاء «

نيوم

». يُفترض أن تكون نيوم عبارة عن مدينة استثمارية وتجارية وصناعية ضخمة، تقع على الشمال الغربي للبحر الأحمر. هدف المدينة الأساسي المُعلن هو أن تكون مصدرًا قويًّا للدخل القومي كمحاولة لتخفيف الاعتماد على النفط كمصدر وحيد لدخل المملكة.

تُقدر تكلفة المشروع بـ 500 مليار دولار، بدأ تجميعهم بإشراف لجنة يرأسها ولي العهد وتعتمد على صندوق الاستثمارات العامة السعودي، واستثمارات من رجال أعمال محليين ودوليين. نيوم سوف تُنشأ على مساحة 26.5 ألف كيلومتر مربع. المساحة الضخمة تعني أن المشروع سوف يبدأ من الأراضي السعودية لكنه سيدخل الحدود المصرية والأردنية في مرحلةٍ ما. لذلك أنشأت المملكة ومصر صندوقًا مشتركًا بقيمة 10 مليارات دولار لتطوير أراضٍ مصرية في جنوب سيناء. الأراضي المزمع ضمها من مصر سوف تزيد عن مساحة ألف كيلومتر مربع.

صرَّح سعوديون لوكالة «رويترز» أن السعودية سوف تضخ الأموال في الصندوق، بينما الجانب المصري سوف يستقبلها لتهيئة الأراضي كي تصبح صالحةً للمشروع. التصريحات ذكرت أيضًا أن المشروع سوف يعتمد على مصادر الطاقة المتجددة فقط لتشغيل 50 منتجعًا و4 مدن صغيرة كمشروع سياحي منفصل، أما مصر فسوف تطور منتجعي شرم الشيخ والغردقة ليدخلا في المشروع.

من المتوقع أن ينتهي المشروع في فترة تترواح بين 30 و50 عامًا، على أن تنتهي المرحلة الأولى منه عام 2025. عند انتهائه سوف يكون المشروع منطقةً استثمارية خاصة مستثناة من كل القواعد والقوانين التقليدية للدول، مثل الضرائب والجمارك وقوانين العمل المعروفة وأي قوانين أخرى. المنطقة سوف تخضع فقط للقرارات السيادية للدول المشاركة في إنشائها، وبصفة خاصة سوف تخضع للسعودية.

الاستثناء

من القيود القانونية هدفه المعلن تخفيض تكلفة التصنيع بالمنطقة ما يتيح لها توفير منتجاتها بأسعار تنافسية.

كما

أعلن

الأمير أن هناك نسبة 2% من القوانين الأوروبية التي تحكم المشابهة لنيوم في دول العالم لن يتم تطبيقها في نيوم. تلك النسبة تمثل القوانين المتعلقة بحرية شرب الخمور، لكن الأمير صرَّح أنه إذا أراد السائح أو المستثمر أن يشرب خمرًا فيمكنه الذهاب لمصر حيث جزيرة تيران التي تبعد 3.5 كيلومتر، أو يذهب للأردن حيث جزيرة الشيخ حميد التي تبعد 15 كيلومترًا. الأمير قال أيضًا إنه إذا كان السائح في الطرف القريب من المدينة فسوف يستغرق دقيقتين فقط بالسيارة ليصل إلى المكانين السابقين، أما إذا كان في طرفها البعيد فسوف يستغرق 20 دقيقة فقط.

خير البدء: تهجير السكان


يبدو المشروع سلسًا وبسيطًا، لكن المرحلة الأولى المتوقع نهايتها بعد 4 سنوات لا تزال قيد التنفيذ وتقابلها عراقيل عدة. أبرز تلك العراقيل وأحدثها زمنيًّا، هى قبيلة الحويطات. في أواخر يناير/ كانون الثاني 2020 تكثفت الأخبار التي تتحدث عن نية المملكة تهجير قبيلة الحويطات من أراضيهم التي سوف يشملها المشروع. قابل تلك الأخبار حملات على مواقع التواصل الاجتماعي من بعض أفراد القبيلة ترفض التهجير وترك أرض الأجداد، على حد وصفهم.

حديث

أفراد الحويطات

عن ذكرياتهم المتأصلة في بيوتهم يمكن فهمه من معرفة أن الحويطات من قبائل السعودية القديمة والعريقة. وتنتشر القبيلة في مساحات شاسعة ومختلفة في غربي السعودية، بجانب أن لها فروعًا تمتد في الأردن وفلسطين ومصر. لكن المملكة تسعى لنقل 20 ألفًا من أفراد القبيلة خارج أراضيهم. اللهجة التي استخدمها أصحاب مقاطع الفيديو والتغريدات كانت في بدايتها لهجةً استعطافية، كما حرصوا دائمًا على التأكيد أنهم موافقون على مشروع نيوم وعلى رؤية «المملكة 2030»، لكنهم فقط يرفضون تهجيرهم من أراضي أجدادهم.

لكن تغيَّرت اللهجة في أبريل/ نيسان 2020 على لسان «عبد الرحيم الحويطي» الذي حذَّر من أن السعودية ماضية في سياسة الترحيل القسري للقبيلة، سواء بالإغراء المادي للبعض أو بالإرهاب والإجبار للرافضين. أيام قليلة بعد نشره عدة مقاطع فيديو تحققت نبوءته حين قال إنه يمكن للمملكة أن تقتله وتضع بعض الأسلحة بجانبه لتزعم أنه إرهابي. في 15 أبريل/ نيسان أعلنت قوات الأمن السعودية مقتل عبد الرحيم في تبادل لإطلاق النار، كما أعلنت عثورها على كميات ضخمة من الأسلحة في منزله. الحقيقة الواضحة الآن أن عبد الرحيم قتله الأمن السعودي، لكن الكواليس الأخرى لا تظل غير واضحة.

كذلك يعتبر مقتله بمثابة الإعلان المرتقب من المهندس نظمي النصر، الرئيس التنفيذي للمشروع، الذي صرَّح في 29 يناير/ كانون الأول 2020 أنَّه في خلال الشهور القادمة سوف يتم نشر المخطط العام لمشروع نيوم. مضت الأيام ولم يتم الإعلان عن شيء، لكن مقتل الحويطي كشف عن أن العمل في المشروع قائم وأولى خطوات الخطة هي إجلاء السكان. تأخر النصر في إعلان تصريحاته كان لم يكن مفاجئًا، بل المفاجأة إعلانه بأنه سينشر المخطط العام. لأن العمل في مشروع نيوم قد توقف نوعًا ما منذ أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018، إثر مقتل الصحفي السعودي المُعارض جمال خاشقجي.

فبعد مقتل خاشقجي نشرت صحيفة « فايننشال تايمز» البريطانية تقريرًا عن وفد تجاري التقى ابن سلمان للحديث عن مشروع نيوم، ففاجأهم اعتراف صريح من ولي العهد «لا أحد سيستثمر في المشروع لسنوات»، لذا كان الإعلان عن بدء العمل مجددًا مفاجئًا.

«نيوم»؟


تصريح ولي العهد أن لا أحد سوف يستثمر في المشروع يُعد صدمةً هو الآخر، فقبل ذلك التصريح بعام كان الأمير متفائلًا للغاية في

حوار

أجراه مع «بلومبيرج» على هامش «مبادرة مستقبل الاستثمار» التي عُقدت في الرياض في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017. في تلك المقابلة قال ولي العهد إنه لم يكن ليُعلن عن مشروع نيوم أبدًا إذا لم يكن بالفعل يمتلك المال الكافي لإنشائه، ويجد الشركاء والمستثمرين الراغبين في العمل معه. حتى أنه أعلن عن تدشين مطار خاص للموظفين وللعاملين في المشروع فحسب.

في المقابلة نفسها تحدث الأمير لأول مرة عن معنى «نيوم»، صرح ابن سلمان أن الاسم الأول للمدينة كان «نبض»، لكنه كان اسمًا مؤقتًا لتحرير الوثائق فحسب. أما الاسم الدائم فقد عُقدت عدة ورش عمل للتوصل إليه، وكان القائمون حريصين على ألا ينتمي الاسم لحضارة معينة؛ لأن المشروع، كما يُعبر عنه الأمير، سيكون قفزة للإنسانية بالكامل. في النهاية استقروا على نيو-مستقبل، «نيو» مقطع لاتيني يعني جديد. لكن لأن اسم «نيو–مستقبل» يُعتبر ثقيلًا في مجال التسويق، فأخذوا من المستقبل حرف «م» العربي لتصبح النتيجة النهائية «نيو-م».

كذلك

ألمح

الأمير للرواية الأشهر للتسمية وهى أن نيوم آتية من «NEOM»، والتي تُعد اختصارًا لجملة أجنبية معناها «عصر جديد للحياة المعاصرة». أيًّا كان السبب فقد أصبح نيوم هو الاسم الرسمي الذي أُعجب به الأمير لأنه يمنحه شعورًا أنها مدينة قادمة من الفضاء، على حد قوله في مقابلةٍ له. مدينة الفضاء المرتقبة من المتوقع أن تُدر دخلًا للمملكة يقدر بـ 100 مليار دولار سنويًّا بحلول عام 2030، كما تقول التقارير السعودية إن الناتج المحلي للفرد في نيوم سيكون الأعلى في العالم.

وللإشراف على تحقيق ذلك فقد أمرت القيادة السعودية ببناء 5 قصور ملكية فخمة على ساحل البحر الأحمر. القصور الخمسة خُصصت بالفعل لولي العهد و4 شخصيات بارزة من العائلة المالكة لم يُعلن عن أسمائهم، ما أعلن عنه فقط أن أحد تلك القصور قد مُنح قرار تشييده لمجموعة «بن لادن» السعودية أكبر شركة إنشاءات في السعودية.

بوابة إسرائيل الجديدة


بالتأكيد سوف يزدان البحر الأحمر بالقصور الجديدة، كما أن المدينة تعني نقلةً نوعيةً للاقتصاد والسياحة، فإنها قد تعني نقلة جديدة في قيمة البحر الأحمر الاقتصادية، وكذلك في سياسات الدول المحيطة به. البحر الأحمر حاضر بقوة في سياسات ولي العهد السعودي، ففي أواخر عام 2018

أعلن

ولي العهد عن إنشاء «شركة تطوير البحر الأحمر» من المفترض أن تنتهي من أعمالها عام 2022 بتكوين مشروع سياحي عملاق يهدف لجذب 22 مليار ريال للمملكة سنويًّا. كما التقى في وقت لاحق بعدة وزراء للخارجية لإنشاء كيان موحد يضم الدول العربية والأفريقية التي تطل على البحر الأحمر مثل مصر وجيبوتي والصومال والسودان واليمن والأردن.

إصرار الأمير الشاب على التواجد في البحر الأحمر سببه سعي المملكة للظفر بمعركة تنافسية حامية مع خصومها الإقليميين مثل تركيا وقطر وإيران. الوجود في البحر الأحمر بالقوة التي يطمح لها ابن سلمان سوف يزيح خصومه من المنافسة، والأهم أنه

سيقربه

من كيانٍ قوي عالميًّا ويكره نفس الدول التي يكرهها ابن سلمان، إسرائيل.

فمن أجل إنشاء «جسر الملك سلمان» الذي يربط آسيا وأفريقيا لا بد من

موافقة

إسرائيل. فبموجب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية على مصر ضمان حرية التجارة الإسرائيلية التي تمر بمضيق جزيرة تيران، وبما أن مصر قد تنازلت رسميًّا للمملكة عن جزيرتي تيران وصنافير، فقد أصبح

التنسيق

الإسرائيلي السعودي ضرورة لأن الجسر سوف يمر بتيران. فقد تكون نيوم هى البوابة الكبرى لدمج إسرائيل مع جيرانها العرب.

إذن مشروع نيوم سيُقرب الجميع من الجميع، لكن ماذا عن قناة السويس المصرية، ألا تخشى السلطات المصرية أن تسلب المدينة الوليدة بجسورها وموانيها الأضواء من قناة السويس المصرية. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي

أعلن

أنه لا يخشى على قناة السويس من أي تأثير سلبي مُحتمل. على النقيض من عدم التأثير السلبي فقد طمأن ولي العهد الجانب المصري من أن نيوم سوف تعني

انتعاشًا

إضافيًّا لقناة السويس، إذ تقضي الخطة السعودية بشحن المنتجات إلى مصر، ومن مصر تخرج عبر قناة السويس إلى مختلف دول العالم.

كل مخاوف الدول المجاورة يعالجها ابن سلمان برسائل طمأنة، ويبدو أيضًا أن كل العقبات التي تقف في طريق حلم الأمير الشاب سوف تُذلل، لكن ربما يقابل ولي العهد عقبات لا حل معها إلا تأجيل مشروعه الطموح. من تلك

العقبات

ما تواجه السعودية في أبريل/ نيسان عام 2020 بهبوط أسعار النفط لأدنى مستوياتها في التاريخ. هبوط أسعار النفط جعل المملكة تخفض ميزانيتها لعام 2020 بنسبة 5%، كما يُتوقع صدور مزيد من القرارات التقشفية. إلا أن الأمير الشاب من الصعب توقع قراراته، فقد يختار ولي العهد خفض ميزانية كل شيء، إلا مدينته الحلم «نيوم».