عرفت اسمي الحقيقي في فصل «أولى رابع» بمدرسة عمرو بن العاص الابتدائية المُشتركة عندما نادت عليه أبلة «إيمان» ولم يرد أحد. كنت وقتها في بيت العائلة على الجهتين «أحمد مجدي» لأكتشف في يومي الدراسي الأول أني «أحمد عبد المجيد».

أحاول تخيُّل المشهد؛ وقع هذه المفاجأة، التي جاءت بلا تمهيد، على طفل في السابعة، كيف فات هذا على والديّ؟ وأين ذهبت هذه اللحظات السعيدة التي ينطق الطفل فيها اسمه كاملاً للمرة الأولى؟

لو حدثت معي سأكون قلت اسماً مختلفاً تماماً، كله أسماء بديلة باستثناء الاسم الأول فقط. أظن أنه كان يوماً مُدهشاً، سمعت اسمي الثلاثي الحقيقي، وعرفت أن «نسرين» التي نظرنا لبعضنا البعض في الطريق للفصل ستجلس جواري طول العام. من هذا اليوم وأنا في البيت «أحمد مجدي» وفي كل ما خارجه «أحمد عبد المجيد»، وصار لدي ارتباك بخصوص اسمي، بخصوص كل شيء في الحقيقة، عبر هذه الهُويّة المقسومة دائماً على اثنين، ارتباك اكتشفت مصدره مؤخراً.

كان الاسم جزءاً من مكونات الروح الخمسة في الحضارة المصرية، يُعطَى للشخص عند الولادة، ويصبح من حينها جزءاً من روحه. نَقَشَ المصريون أسماءهم على المقابر حتى إذا قام الميت يجد اسمه ويعرفه ويكون دليل هذه الروح للعالم الآخر، وكان الحرمان من هذا الاسم يعني أنها ستظل عالقة بين العَالمَين، لذا كان أكبر عقاب للخارجين عن القانون والمتمردين على السُلطة هو محو أسمائهم من المقابر، أن يبقوا هكذا عالقين إلى الأبد. أظن لهذا السبب لا يزال المصريون ينقشون أسماءهم في كل مكان حتى لو لم يعرفوا من أين جاءت هذه العادة.

في الحضارة العربية للاسم مكانة أكثر فرادة، ليس جزءاً من مكونات الروح، وإنما هو حياتك ذاتها، يتخيّر الوالدان اسماً يليق بأمنياتهم لحياة هذا الابن، للإنسان من اسمه نصيب كما تقول الحكمة العربية، لذا يختارون اسماً لشخص يحبونه، يرجون أن يُشبهه، أو صفة يتمنون أن يُولد بها، تتوزع الاختيارات بين أسماء الأحبّة والعظماء وصفات النجابة والكرم والقوة والحلم والجمال وغيرها، لا يجد الوالدان اسماً واحداً يكفي أمنياتهم للوليد فيصبح له عدة أسماء، وكلما كثرت الأسماء دلت على مكانة الشخص وقيمته، ويكون علينا في النهاية أن نناديه بأحب أسمائه إليه.

في عائلتي مات رأس العائلة مبكرًا، «عبد المجيد» الكبير، هذا ليست له حكاية سوى أنه كان ولداً وحيداً، تزوج ومات شاباً وترك خلفه ولدين وبنتاً في كفالة خالهم وعدداً من الفدادين، واختفى ذكره بعدها إلا من اسمه في شهادات الميلاد.

سمّى جدي ابنه الأكبر (أبي) «عبد المجيد»، محاولة نبيلة لإعادة هذا الأب الغائب للحياة، وكعادة الفلاحين صارت هناك ضرورة ليكون لهذا الولد اسم آخر حتى لا يتم تدنيس اسم الجد مع أي توبيخ لهذا الصغير، فاختاروا له «مجدي»، لماذا هذا الاسم تحديداً؟

لا أعرف، ربما حيلة لُغوية لتصغير الاسم الأصلي وترقيقه. كبر «مجدي» وتزوج، وكنت الثاني بين أبنائه وأول الذكور، ماذا سيسميني، شخص يكتب الشِعْر ويختار لأسماء أبنائه ما يجعلها مميزة ولها حكاية؟ أحمد! كان لاسمي حكاية فعلاً، لكنها ليست لأبي، حكاية بسيطة جداً، لكنها تبقى حكاية على أي حال.

رأت إحدى عمّاتي رؤيا قبل حَمْل أمي أنها ستُرزق «أحمد»، ومع طفلين سبقوني للميلاد وللقبر كذلك، وفي عائلة لها جذور ريفية حتى لو انتقلت للقاهرة وتعلّم أبناؤها في الجامعة، لم تكن هذه الرؤيا شيئاً يمكن المجازفة بتجاهله.

طفولة جدي ويُتْمِه، وكونه بلا أقارب من جهة الأب كذلك، جعلته يحاول تعويض هذه العائلة التي افتقدها في طفولته بكثرة الأبناء في شبابه، فكان له منهم ثمانية، سمّى أكبر الذكور باسم أبيه وآخر على اسم أخيه الوحيد والبقية كذلك كانت أسماء أشخاص يرغب في وجودهم حوله ليشعر بالونس، وهكذا بلا ترتيب صار في العائلة ثلاثة أحمدات، عم أبي الوحيد، وعمي، وأنا، اثنان منهم «أحمد عبد المجيد»، لكن عكس المتوقع، خصوصاً مع إضافة الأحمدات من جهة عائلة أمي، لم يكن لي اسم بديل للتمييز بين كل هذه الأحمدات، صار اسمي «أحمد مجدي»، لا يناديني أحد بـ «أحمد» منفرداً وإنما «أحمد مجدي»، لذا كان اكتشافي لاسمي يومها في المدرسة شيئاً أشبه باكتشاف متأخر أن اسمك «عبد الرحمن» وليس «أحمد مجدي».

بخصوص الأسماء لم أكن أحب اسم «أحمد»؛ في مراهقتي كنت أُفضّل «عبد الرحمن» أو «عُمَر» أو «كريم»، أسماء لها وقع أجمل في نفسي، ويمكن أن تُعجِب الفتيات كذلك، حتى الحل المُتعارف عليه بالمناداة باسم الأب أو لقب العائلة كان يجعل الموضوع أصعب، «عبد المجيد» و«نُصير» لم يكن لهما وقع أفضل وليست أسماءً مناسبة في موضوع إثارة إعجاب الفتيات بالتأكيد، كان الحل وقتها لي، ولغيري، هو البحث عن أسماء تناسب هذه الذوات الجديدة الآخذة في التشكل خارج البيت، نختاره، أو يُفرض علينا من الأصدقاء لا يهم، المهم هو ألا ننادي بعضنا بأسمائنا الرسمية كنوع من إثبات هذه الذات الجديدة، لذا كنّا في الفُسْحَة نغرِق وسط نداءات على أسماء «ميدو»، «بوجي»، «شيكو»، «دودة»، «نملة»، «جودزيلا»، وتنويعات من هذا القبيل.

رغم رواج الاسم ووجود قائمة منه في كل فصل، كنت دائماً، بشكل مثير للدهشة، الأحمد الوحيد بين المجموعة، ما جعل مسألة اختيار اسم بديل تقع عليّ وحدي، ولأني لم أجد اسماً يُشبهني وقتها ارتضيت أن أكون «أحمد عبد المجيد».

لم أجد حاجة لي لاختيار اسم بديل أصلاً، كنت أريد أن أبتعد عن البيت وقتها قدر استطاعتي، وكان هذا الاسم يمثل لي كل ما هو خارجه، كان الاسم نفسه مسافة خارج البيت، ذات أخرى غير «أحمد مجدي» الذي يخص العائلة، اسماً يخصني. حذفت كل الأسماء التالية، ولقب العائلة الذي لم أرغب فيه وصرت «أحمد عبد المجيد».

كان أبي يميل للبيت والعائلة أكثر من رغبته في حياة بديلة خارجهم، لذا كان يميل لاسم العائلة على حساب الاسم الرسمي. كان «مجدي» أكثر منه «عبد المجيد»، وكنت مراهقاً لا يرغب في الانتساب لهذا الـ«مجدي» تحديداً، تعلّقت بهذه النسخة المُتخيّلة من أبي، نسخته خارج البيت والعائلة، نسخة كنت أعرف بوجودها من دفاتر شعره القديمة وصوره في الجامعة، نسخة خسرت لصالح هذه النسخة العائلية في مرحلة ما من حياتها. كان «أحمد عبد المجيد» تعبيراً عن رفضي لهذه النسخة العائلية، عن هذا التوق لنسخة خارج أسوار البيت وتقاليد العائلة، اسماً ربما لا يعرفه كثير منهم حتى الآن.

بعد التخرج عندما كانت تأتيني خطابات باسم «أحمد عبد المجيد» لبيت العائلة ويردوها لأنه «محدش هنا بالاسم دا»، لم أكن أغضب، ولم أحاول أبداً تصحيح الأمر، كنت أعتبر هذا انتصاراً صغيراً لهذه الذات التي صارت لها حياة منفصلة كما تمنيت، حياة لا يعرفها أحد، نسخة عرفت طريقها خارج البيت من دون إرشادات، ببعض الخسائر الفادحة صحيح، لكن لا بأس، هذا ما اخترته لنفسي على الأقل.

في تجمعات العائلة التي صرت أحضرها بانتظام مؤخراً بعد سنوات من الانقطاع، صرت أسمع «أحمد مجدي» يتردد في زحام أحاديث الأقارب. «أحمد مجدي قال جاي واتأخر برضه»، أسأل في بالي: أحمد مجدي مين؟ أه أنا، أندهش أحياناً من وقع الاسم، ولكني أتفهّم وجوده، خصوصاً مع وجود أحمدات جديدة في العائلة التي تتوارث الأسماء مثلما تتوارث الأرض والحكايات، وأبتسم أغلب الوقت.

لم يعد الاسم يحمل لي ذاتاً قديمة أحاول الابتعاد عنها، صار اسماً يعني ونس العائلة وتجمعاتها الصاخبة، اسماً يحمل لي طفولتي كلها، لم أعد أكرهه، بالعكس صار له وقعاً مُحبّباً، ربما التمرد على الأشياء ثم العودة إليها مُختاراً في النهاية هو ما شكّلني، صرت أنا، وأصبح كل شيء آخر ذكريات لا يسعنا معها سوى الابتسام حتى لو كان فيها شيء حزين، حتى.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.