انتشر فيروس كورونا؛ الذي ظهر في أحد أسواق مدينة ووهان الصينية في ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى كل بلد تقريبًا، قلب الحياة رأسًا على عقب وعطّل الاقتصاد العالمي؛ لتعلن منظمة الصحة أن

الوضع أصبح وباءً عالميًا

، وبدأت أصابع الاتهام تتجه إلى الصين؛ حيث تبنى كثير من الخبراء نظرية تسرب الفيروس من المختبرات الصينية، وحتى رؤساء بعض الدول مثل جو بايدن الذي أمر هيئات الاستخبارات، في يونيو/حزيران 2021، بتقديم تقرير في غضون

90 يومًا حول أصل فيروس كورونا

.

لكن بعد تبني الخبراء لهذه الفرضية سرعان ما عادوا ليعدلوا عنها؛ إذ يمكن للفيروس أن يتطور بشكل طبيعي وعشوائي من خلال الطفرات، فكونه مُصنَّع هو طرح مُستبعَد، فتُرى ما الأسباب التي أدت لهذه الجائحة؟

لماذا جاء الفيروس من الصين تحديدًا؟

في العدد الأربعين من سلسلة سافاري للكاتب «أحمد خالد توفيق» -رحمه الله- بعنوان «عن الطيور نحكي»، فيقول:

كل فلاح صيني يخفي في حظيرته مختبرًا خطيرًا للتجارب البيولوجية، وفي هذه الحظيرة تنشأ أنواع فيروسات فريدة لم نسمع عنها من قبل، ولهذا لا نسمع عن أوبئة الإنفلونزا المريعة إلا من جنوب شرقي آسيا، حتى صار للفظة (إنفلونزا آسيوية) رنين يُذكِّرنا بلفظة طاعون.

أغلب الأوبئة التي اجتاحت العالم على مر التاريخ

جاءت من أفريقيا وآسيا

، حاليًا أصبحت الصين هي مصدر

الأوبئة الجديدة في العالم

؛ الإنفلونزا الإسبانية والطاعون وإنفلوانزا الطيور ووباء سارس وفيروس كورونا؛ كلها جاءت من الصين، ومن هنا يمكن أن نستنتج أن الوباء المقبل

قد يأتي من الصين

؛ وهذا ما فعله د. أحمد خالد توفيق قبل ظهور فيروس كورونا وكان محقًا في توقعه حين كتب في نهاية العدد:

الوباء الحقيقي المرعب قادم لا شك فيه. سيبدأ من مكان ما في الصين أو (هونغ كونغ)، ساعتها لن يكون لنا أمل إلا في رحمة الله، ثم البيولوجيا الجزيئية وسرعة تركيب اللقاح.

أغلب هذه الفيروسات جاءت لنا عن

طريق الحيوانات والطيور

؛ تتطور داخل أجسام الحيوانات ثم يحدث أن تتطور داخل جسم الإنسان وتنتقل من شخص لآخر، وطالما أنها تأتي عن طريق الحيوانات فإن هذه الأوبئة لن تنعم بمكان أفضل من الأسواق الصينية، التي تعتبر بيئة مثالية لها، فبخلاف الحيوانات التقليدية توجد أيضًا الثعابين والضفادع والفئران بجانب الكلاب وأكل النمل الحرشفي والقطط والخفافيش، وحتى أنها لا تستبعد الحشرات ومنها الصراصير والديدان.

هناك قول شائع إن الصينيين يأكلون كل ما يسير على الأرض باستثناء السيارات، وكل ما يحلق في السماء باستثناء الطائرات، وكل ما يسبح ما عدا الغواصات، تلك المقولة وإن كانت تُستخدم لأغراض عنصرية؛ إلا أنها صحيحة نوعًا ما، فمائدة الصينيين تتسع لكل الكائنات تقريبًا، وتتزين بأطباق قد تبدو غريبة لأغلب الثقافات الأخرى؛ وسبب ذلك يعود لحادثة بدأت جذورها بقرار عام 1958، وامتد أثرها إلى الآن، ليظهر في الثقافة الغذائية والمطبخ الصيني.

القرار الذي تسبب في السنوات العجاف

بعد قيادة «ماو تسي تونج» للثورة الشيوعية وبعد أن اعتلى السلطة، أراد تحويل الصين إلى دولة صناعية؛ والقيام بتنمية شاملة في خطوة تُعرَف باسم «القفزة العظيمة للأمام»، وفي واحدة من مشروعات هذه القفزة بدأت عام 1958، طلب «ماو تسي تونج» من المواطنين الخروج والقيام بحملة لإبادة البعوض لأنه ينقل الملاريا، والجرذان لأنها تنقل الطاعون، وأخيرًا العصافير التي كانت تسرق الحبوب؛ حيث قدّر العلماء الصينيون أن كل عصفور يستهلك 4.5 كيلوجرام من الحبوب كل عام، وأنه مقابل كل مليون عصفور يُقتل،

سيكون هناك طعام لـ60 ألف شخص

.

في أول حملة إبادة من نوعها؛ نزل الصينيون إلى الشوارع وهم يقرعون القدور ويدقون الطبول لترويع الطيور؛ ومنعها من الهبوط حتى تسقط من الإرهاق، تم هدم الأعشاش، وتكسير البيض، حتى أن القرى كانت تتنافس على من يصطاد ويقتل عدد أكبر، العصافير لم تجد ملجأ لها سوى في تلك الأشجار الموجودة في ساحة السفارة البولندية؛ فاحتشدوا أمامها ليطالبوهم بتسليم العصافير، ورفض السفير البولندي أن يشاركهم في هذا الجنون؛ وأخبرهم أن العصافير تتمتع بحق اللجوء، فأخذ المتظاهرون يدقون الطبول ونجحوا في ترويع العصافير التي لم تنعم بالهدوء حتى بدأت تسقط من الأشجار بسبب الإعياء؛ الأمر الذي دفع عمال السفارة

لإخراج الطيور بالجرافات

.

بعد انتهاء حملة الإبادة؛ وموت مئات الملايين من العصافير، بحسب تقديرات العلماء، وحتى أصبحت شبه منقرضة من البلاد تقريبًا، اكتشف الصينيون أن العصافير لم تكن تتغذى على القمح والحبوب فحسب؛ وإنما تتغذى على الحشرات والديدان التي تحرّرت من ألد أعدائها، وفي خلال عام واحد انتشر الجراد وتكاثرت الآفات الزراعية عام 1959.

خلال تلك الفترة أرسلت الصين في استيراد العصافير من الاتحاد السوفيتي لاستعادة التوازن البيئي، لكن هذا كان متأخرًا، لأن القفزة العظيمة للأمام كانت قد تسبّبت في أسوأ مجاعة في القرن العشرين… مجاعة الصين العظمى التي راح ضحيتها نحو 40 مليون إنسان.

حين قرر
ماو تسي تونج التخلص من العصافير؛ تسبّب بشكل غير مقصود في أكبر مجاعة في تاريخ
الصين، المجاعة التي أثّرت على ثقافة المطبخ الصيني وعلى العادات الغذائية للصينين
حتى يومنا هذا.

تلك
الثقافة الغذائية المختلفة التي أدت إلى زيادة الطلب على كائنات لم تكن تؤكل من
قبل، وزيادة الاستهلاك خلقت بدورها أسواق تحتوي على مئات الأصناف من الحيوانات؛
التي تختلط بقاياها وفضلاتها في أجواء رطبة وأرض ملوثة بالدماء، لتكوِّن بيئة
مثالية للفيروسات، وتنتقل العدوى من حيوان لحيوان، ثم يحدث أن تنتقل للإنسان ويبدأ
الوباء.

لنتذكر مقولة الدكتور أحمد خالد توفيق:

لن يكون لنا أمل إلا في رحمة الله، ثم البيولوجيا الجزيئية وسرعة تركيب اللقاح.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.