كنَّا في أوائل مارس/أذار من عام 1945 في إحدى معسكرات الاعتقال النازي إبَّان الحرب العالمية الثانية، حين أفضى إليَّ أحد الزملاء، وبالمناسبة كان مؤلفًا ومُلحِّنًا ذائع الصيت، أفضى إليَّ بفحوى حلمه الغريب، قائلًا: يا دكتور، منذ شهر راودني حلمٌ غريب، سمعت صوتًا يطلب مني أن أتمنى أي شيء، ولم أكذِّب خبرًا وسألته: متى ستنتهي الحرب بالنسبة إليَّ؟ ويُفرج عني من بين براثن الموت تلك؟ وأجاب الصوت بنبرة خفيضة بأنَّها ستنتهي في الثلاثين من مارس.

مرَّت الأيام وزميلي يُصدِّق نبوءة الحلم وينتظر النهاية بفارغ الصبر، غير أن الأخبار التي كانت تصل إلى المعسكر كانت أبعد ما تكون عن تحقق رجائه. أقبل يوم 29 ومرض على حين غفلة واشتد به المرض حتى وصلت الحمى لذروتها في يوم 30 وفقد الوعي على إثرها، وفي اليوم التالي مات مُشخَّصًا بالتيفوئيد. ثم جاءت بوادر هزيمة ألمانيا وانتهاء الحرب في بدايات أبريل/نيسان. خَلَصَت الحربُ بعد أن خلصت من صديقي.

كانت تلك قصة سردها عالم الطب النفسي النمساوي الدكتور «فيكتور فرانكل»، في رائعته «

الإنسان يبحث عن المعنى

»، ليشير فيها إلى سر الوجود الذي اكتشفه، الشيء الذي لا تقوم للحياة قائمة بدونه، نعم – بلا شكٍّ – إنه «المعنى».

لا ريب أن زميل فرانكل لم يمُت متأثرًا بحمَّى التيفوئيد وحسب، بل مات لأنَّه فَقَد المعنى في الحياة، بخفوت آخر شعلة نجاة من المعسكر، تحتَّم أن ينتصر لصوت حلمه، أن تنتهي معاناته بأية وسيلة، حتى ولو كانت تلك الوسيلة هي انتهاء حياته نفسها.

في معنى «المعنى»

من يمتلك سببًا يعيش من أجله، يستطيع تحمُّل العيش بأي طريقةٍ كانت.





فريدريك نيتشه.

هل علينا حقًّا أن نستكشف

السبب الذي من أجله نعيش الحياة

؟ أم ننسى الأمر برمته ونجنِّب أنفسنا عناء هذا السؤال؟

هناك تاريخ ممتد يقف خلف سعي الإنسان لاستكشاف جوهر الحياة، وذلك منذ فجر التاريخ، فهذا «

أرسطو

» يرى أن سعي الإنسان نحو الأبدية يدفعه أن يبني لحياته نظامًا من القيم ويسطر مجموعة من الأهداف يقيس من خلال تحقيقها مدى جدوى حياته، وهو ينظر إلى البحث عن المعنى باعتباره رحلة كونية يجب أن يخوض غمارها أي فرد، ثم نجد «سبينوزا» الذي اعتبر البحث عن غرض الإنسان من الحياة جزءًا لا يتجزأ من بحثه عن هويته، وخطوة أساسية في طريقه لتقصِّي مصيره، وأخيرًا نجد العالم والطبيب النفسي «

كارل يونغ

» الذي كتب أنَّ ما يُقارب من ثلث الحالات السريرية التي شخَّصها لم تملك أيَّ اضطراب عصبي يمكن تشخصيه إكلينيكيًّا، وإنما استحالت حياتهم جحيمًا وصاروا يهيمون بين أروقة المصحَّات النفسية لسبب أبسط، وهو عبثية حياتهم وعدم وجود هدف ومعنًى لها.

بيد أنَّ معظمنا – إن لم نكن جميعً ا- يميل إلى الاعتقاد أنَّ «المعنى» هو تعبيرٌ عن الذات، وفي هذا حصر مهين له، فالمعنى ليس انبثاقًا من الوجود بل هو شيءٌ يواجه الوجود ويضاهيه، وفي حالاتٍ كُثر قد ينقذ المعنى وجود الإنسان وينتشله من المعاناة، كما حدث تمامًا مع أصدقاء فرانكل … ولكن كيف؟

المعنى في المعاناة

يجب أن يُفهم الاضطراب النفسي العصبي، في نهاية المطاف، على أنه معاناة الروح التي لم تكتشف معناها بعد.





كارل يونغ.

ذات مرة لجأ طبيبٌ مُسنٌّ إلى فرانكل يطلب المساعدة في التغلب على الاكتئاب الذي أصابه العامين الماضيين إثر فقدانه لزوجته، ولم يجد فرانكل سوى أن يسأله ماذا لو مِت أنت وعاشت زوجتك؟ كيف كانت لتشعر وتتألم؟ في لحظة واحدة خلق فرانكل معنًى – وهو التضحية – في معاناة هذا الطبيب، الذي لم ينبس ببنت شفة وانصرف مُصافحًا وراضيًا.

إنَّ إيجاد المعنى ذاتيٌّ في المقام الأول، لأنَّ المعنى هو خلاصة تجارب الإنسان وبه وعلى أساسه يصوغ حياته، فمعنى الحياة أبعد ما يكون عن مصطلح فلسفي ذي قوالب جامدة، بل هو متفرِّد تفرد الإنسان نفسه، هكذا سرد فرانكل قصده موضحًا أن حياته في المعتقل مع زملائه رغم أنَّها مثَّلت مرجعًا للمعاناة إلا أنَّهم بتقبُّلهم لهذا المصير رفضوا مع مرور الوقت التحايل على الأمر وبدأوا في مجابهة المعاناة وجهًا لوجه، لأنَّهم وفي هذه الحالة ملأت المعاناة عليهم حيواتهم ومثَّلت لهم المعنى وتحوَّلت من شيء يصعب التخلُّص منه إلى هدفٍ يجب اجتيازه.

ففي الاعتراف بفجاعة الحياة في المعسكر خلق فرانكل وزملاؤه معنًى لحياتهم، وتحوَّل الأمر من اليأس إلى التحدي، هل يستحيل الخروج من هنا على قيد الحياة؟ إذن سأحاول أن أفعل وليكن هدفي من الحياة هو البقاء على قيد الحياة، طالما استحالت الحياة إلى معاناة، فسنضطر أن نعيش المعاناة.

إن ما هو متوقع من الحياة ليس في واقع الأمر هو موضع الأهمية، بل إن ما يعنينا هو ما الذي تتوقعه الحياة منَّا.

كان الانتحار في المعسكر أمرًا شائعًا، وكان يُحرَّم إنقاذ أي شخص من الانتحار، لذا وجب ردعهم قبل محاولة إقبالهم على ذلك، يحكي فرانكل عن شخصين نجحا في ليِّ عزمهما على الانتحار بعد أن اعترف كلاهما أن لا شيء يستحق الحياة لأجله، ذكَّر الزملاء الأول بابنه الذي ينتظر خروجه ولا يستطيع غيره أن يحلَّ محل أُبوَّته، وذكَّروا الآخر الذي كان عالمًا له عدة مؤلفات، بأنَّه لو انتحر فلن ينوب عنه أحدهم في إتمام سلسلة الكتب التي بدأها، هكذا لكلٍّ منهما هدف في حياته، و

شيء تنتظره الحياة منه

ولا يستطيع أي شخص آخر القيام به.

المعنى: نخلقه أم يخلقنا؟

إذا أردت أن تجعل حياتك سعيدة، فاربطها بأهداف ليس بأشخاصٍ أو أشياء.

لا تُنسب المقولة إلى فيلسوف أو عالم نفس كما توقعت، لا بل إلى عالم الفيزياء الشهير «ألبرت أينشتاين». ربما قالها أينشتاين في لحظةٍ ما دون أن يدرك ولو لوهلة أنَّه لخَّص كل أسباب المعنى.

وهذا خير دليل أنَّه لا يقتصر التفكُّر في معنى الحياة على المفكرين والفلاسفة فقط، بل هي قوة أولية في لُبِّ تكوين الفرد، ولعل كل الآراء التي ترنو إلى تفسير معنى الحياة بأنَّه حيل دفاعية ليست فقط تنتقص من قدر الحياة، ولكن أيضًا من عقلية الإنسان. لم نسمع من قبل أن أحدهم قد ضحَّى بحياته من أجل رد فعل أو ميكانيزم دفاعي، ولكن يمكن للجندي على أرض المعركة أن يهب حياته لمعنى أسمى كالفداء.

في استفتاءٍ أُجري في فرنسا على آلاف المشاركين، أقرَّ 89% أن الإنسان يحتاج شيئًا ما لكي يعيش من أجله، وذكر 61% منهم أنهم في فترة ما في حياتهم امتلكوا شيئًا أو شخصًا كانوا على أتم الاستعداد لتقديم حياتهم لأجله.

كرَّر فرانكل الاستطلاع هذا على مرضاه والعاملين معه في عيادته في فيينا، وجاءت النتائج مقاربة جدًّا، وكل هذا يذهب إلى خطأ آراء كثير من المفكرين الوجوديين، الذين رأوا في المعنى مجرد شيء يختلقه الإنسان فحسب، فمثلًا قال «سارتر»: «يخترع الإنسان نفسه ويُصمِّم جوهره، وفي ذلك ما يمكن أن يصير عليه». ولم تتفق مدرسة المعنى لفرانكل على هذا المبدأ، بل ترى أنَّنا نعيش لنبحث عن المعنى.

ليت الأمر كان سهلًا، كأن يعيش الإنسان ليختلق معنًى لحياته وحسب، وقتها لم يكن ليُصاب أحدٌ بالإحباط الوجودي الذي يتمخض عن أزمة وجودية.

اكتئابٌ أم أزمة وجودية؟

لطالما شغل علماء النفس فكرة الغريزة الأصلية التي تنبثق من جذورها رغبة الإنسان في الحياة، وتحمله على المضي قدمًا فيما يفعل، اعتقد «فرويد» أنَّها الغريزة الجنسية، بينما رأى «ألفريد أدلر» أنها الرغبة في التميز والتفوق، على أن أحدهما لم تتجاوز نظرته ظروف العصر التي نشأ فيه، وبالرجوع إلى بعض الاعتبارات، يمكننا أن نعزي كلا السبيين، وأسباب أخرى – فسرت الوجود – إلى عاملٍ مشترك وهو الخوف.

يُولد الإنسان ولا يملك سوى غريزة الخوف: الخوف من السقوط … الخوف من الهجر … يبحث الطفل عن الانتماء في حياته كممثلٍ لمعنى تلك الحياة، فيلجأ إلى نَيل رضا أبويه، لأنَّ بقاءه مرهونٌ بوجودهما، وأي رفض منهما يهدد هذا الوجود.

يكبر الطفل وتكبر معه دائرة الانتماء، فيتودَّد إلى أقرانه، وفي تلك المرحلة يكون معنى وجوده متمثلًا في قدر تكيُّفه في بيئته وسط زملائه، ويخشى وقتها أن يكون منبوذًا. ثمَّ حين يكبر كفاية ليتحتم عليه مواجهة الحياة، يشكِّل الإنسان من شخصيته ليخلق نسخة قادرة على الانتماء للعالم ككل، ويذهب لمسافات أبعد في تحقيق ذلك، ربما وظيفة لا تلائمه أو علاقة غير جديرة به. يصنع كل هذا فقط كي يُمثِّل جزءًا من كيان هذا العالم، حتى يجد لحياته معنًى.

حُكم على الإنسانية بشكلٍ واضح أن تتأرجح إلى الأبد بين طرفين، أحدهما الضِيق، وثانيهما الملل.





آرثر شوبنهاور.

اتسع العالم وتعدَّدت الخيارات المتاحة أمام الفرد للتعبير عن ذاته متوهمًا أنَّه تخلَّص من طبيعته البدائية، غير أنَّ العالم الجديد قد فتح له جناحاته عن ساحة تفوق قدرة الإنسان على استكشافه، وتُرجم هذا التخبُّط إلى مصطلح «الأزمة الوجودية».

ربما نعتقد أن «الأزمة الوجودية» وفقدان الجيل الناشئ لإيجاد معنًى في حياته شيئًا مستحدثًا، ومرتبطًا بحركة العولمة التي أنشأتها الشبكة العنكبوتية، لكنه موجود منذ عهد فرانكل الذي رأى أن انسلاخ الإنسان من غرائزه الأولية أفقده النبراس الذي يرشده في أفعاله وسلوكياته، وأوقفه عاجزًا أمام تحديد ما يرغب وما يريد، وأوقعه فريسة سائغة للمسايرة والامتثال.

هل سمعت من قبل عن عُصاب يوم الراحة الأسبوعية؟ إنه نوع من الاكتئاب يصيب الفرد فور أن ينهي أسبوعه المثقل بالأعمال ويجلس ليتفكر في معنى وجوده. ربما مشاكل كالانتحار، والاكتئاب، والإدمان يمكن تفاديها إذا أوجد الإنسان لحياته معنًى.

المعنى في الرحلة وليس الوصول

لا يُشترَط أن يكون المعنى عظيمًا، كأن تغيِّر العالم أو تحرر وطنًا، ربما يمثل مجرد وجودك فارقًا في حياة أحدٍ ساعدته ذات مرة ونسيت الموقف برمته، ربما يحبك حيوانك الأليف، ربما أعطيت أحدهم مرة معنًى لحياته دون أن تدري، وربما بالفعل حياتك ذات معنًى وأنت لا تدرك، أو أنك تستنقص هذا المعنى. أتعلم قصة السمكة الصغيرة التي أرادت الذهاب للمحيط فأخبرتها السمكة الأكبر أنَّها بالفعل في المحيط فقالت لا هذا ماء أنا أريد المحيط.

لا يُشترَط أن تعلم الهدف حتى تشعر بقيمتك، يُمكن أن يكون وجودك وحده كافيًا، ربما تستيقظ كل يوم وتُقدِّم – على غيرِ درايةٍ منك – معنًى للحياة، ربما يكون معنى حياتك في استمتاعك بالحياة، ربما تجد ضالتك في مراقبة النجوم المصطفة أو تلمُّس بذور الأشجار. لا يُشترط أن تملك هدفًا محددًا أو مهنةً بعينها، قد يكون معنى الحياة بالنسبة إليك كامنٌ فقط في حب الحياة.

يكمن جمال الحياة في الاستمتاع بكل لحظة فيها ما دمت قادرًا على ذلك، الحياة ليست محطات للأهداف نصلها لكي نقف في النهاية قائلين: ماذا بعدُ؟ في مرحلةٍ ما علينا أن ندرك أن المعنى شيءٌ نعيشه، والسعادة شيءٌ نشعر به، وأن وقوفنا منتظرين لحظةً بعينها توفيرًا لعناء البحث، سيُفوِّت علينا كل المحطات.