اشتهرت مصر على مدار تاريخها بحركات ثقافية وحضارية
كبيرة، لها تأثير كبير، ليس على مصر فقط، وإنما على العالم أجمع.

والثقافة حسبما تُعرِّفها

منظمة الألكسو

(المنظمة العربية للعلوم والثقافة) فهي مجموع النشاط الفكري والفني بمعناهما الواسع وما يتصل بهما من وسائل، فهي موصولة الروابط بأوجه النشاط الاجتماعي الأخرى، متأثرة بها، معينة عليها مستعينة بها.

وليس المقصود بالثقافة أنها القدرة على إجابة الأسئلة، فهذا يُطلق عليه ثقافة الكلمات المتقاطعة، فإنما الثقافة هي القدرة على وضع رؤية واضحة والتعامل بإطار عقلي ينم عن خبرات واسعة في قراءة ونقد الأحداث.

وحركة الثقافة والمثقفين في مصر ليست وليدة اليوم أو الماضي القريب، فهي تضرب بجذورها إلى أبعد نقطة مضيئة في التاريخ، وهنا محاولة لإلقاء الضوء على حركة الثقافة والمثقفين في مصر القديمة.

الثقافة والمثقفون

ازدهرت الحركة الثقافية طوال العصور المصرية القديمة في مجالات الشعر، والنقد، والحكمة، والأساطير التي تُعدّ نوعاً من الحكايات بشكل أو بآخر. واحتل المثقفون مكانة بارزة، وتناقل العامة تعاليم الحكماء على مدار قرون شفهياً وعلى برديات أو شقافات، ومن هذه التعاليم ما يزال صالحاً حتى يومنا هذا للاستشهاد والعمل به أيضاً.

وكان لكل مثقف إنتاج مميز، يتعلّمه التلاميذ في المدارس لأمرين: أولهما، تعلم الكتابة، وثانيهما، تعلم الحكمة من تلك التعاليم، فعلى لوح لأحد التلاميذ في مدرسة من عصر الأسرة الـ18 (في الفترة بين 1543-1292 ق.م) وُجد نقش للحكيم «خع خبر رع سنب»:

ليتني أعرف جُملاً لم يعرفها أحد، وكلمات لم يعرفها أحد من لغة جديدة لم تُستخدم من قبل، ولم يُكررها الناس، بدلاً من التعابير التي شاخت وقالها القدماء.[1]

يظهر من هذه التعاليم شغف التجدد لمواكبة الأحداث المتلاحقة، والتطور اللغوي الذي مرت به البلاد طوال فتراتها، فتُهمَل كلمات وتستَجِد أخرى من نفس اللغة أو من لغات أجنبية، فنجد من خلال النص السابق نقداً بارعاً للحراك الأدبي الذي يبدو أنه أصابه بعض الوهن، لأن «خع خبر رع سنب» استخدم لفظة «شاخت» –بمفهومنا الحالي يُطلق عليها كليشيه.

وفي أوقات الأزمات، عبّر المثقفون عما دار في البلاد من أحداث، بنقد يصل إلى حد الشك بسبب الأوضاع السائدة نتيجة صدمات هزت المجتمع مثل الثورة الاجتماعية، فنجد في حديث سوداوي للرجل الذي سأم الحياة وهو يتحدث إلى نفسه:

إن الموت أصبح كعطر زهرة اللوتس ومثل حقيقة الوقوف عند شاطئ السكارى.[2]

كما يقول الحكيم إيبور:

لو أنني أعرف أين يوجد المعبود لأديت (الطقوس) له، والعدالة ما زالت تُمارس في البلاد ولكن اسماً فقط، ويفعل الرجال الشر مع انتسابهم للخير، واختفى النظام القديم… ويقول الصغار والكبار آه لو أننا نستطيع الموت، ويقول الأطفال الصغار: ليت آباءنا لم يهبونا الحياة على الإطلاق… وفي المحاكم أُلقيت كتب القانون خارجاً ووطئها الناس بالأقدام في الميادين العامة… وفقدت بالتأكيد كل الأشياء الجميلة.

ويزيد من هجومه على الأوضاع فيصبّ سخطه على الملك ليكون
أول مثال لحركة ثقافية ضد الفوضى فيقول:

إن السبب في الفوضى هو الملك… لقد تجمعت في يديك السلطة لكنك لا تنشر في البلاد غير الفوضى، انظر، فكل شخص يطعن في الآخر لأن الناس لا يرضخون لما تأمر به.[3]

وقد خلقت هذه الأحداث وعياً جديداً لدى المفكرين، الذين عزّ عليهم أن يعجزوا عن دفع البلاء عن البلاد، وتنبههم إلى بوادر الخطر وأن تُنتهك حرمات البلاد، وهو ما يظهر جلياً في قول إيبور «ليتني جهرت بالقول من قبل لأُنقْذ من عذاب ما زلت أعانيه».

وقد أسهمت هذه الكتابات النقدية في نشأة طبقة جديدة لا تعتز بحسب أو نسب، بل يفخر فيها الفرد بأنه مواطن قادر على أن يتكلم بوحيٍ من نفسه.

الكتب والمكتبات والكتابة

كان للكتب في مصر القديمة شأنٌ عظيم، وكانت تُكتب بالحبر الأسود والأحمر، فكان اللون الأسود للنص كاملاً، أما اللون الأحمر فكان للعناوين الفرعية والنقاط المهمة جداً، وكانت تكُتب على أوراق البردي وتُحفظ في المكتبات.

وقد ازدهرت حركة الكتابة والنسخ في مصر القديمة، وانتشرت ورش الكتابة في أنحاء متفرقة وخاصة في طيبة في فترة العصر المتأخر[4]، وألتحق الأطفال الذين يستطيع آباؤهم إرسالهم إلى المدارس بها لتعلم الكتابة، فيقول والدٌ إلى ابنه:

ليتني أستطيع أن أجعلك تحب الكتب أكثر من أمك، وليت جمالها يظهر على وجهك… فالجميع يُحَيُّون الكاتب حتى لو كان طفلاً.

ويُظهِر له مزايا الكاتب عن طريق ذكر عيوب الوظائف الأخرى فيقول:

الحداد يمارس عمله أمام فرنه وأصابعه مثل جلد التمساح ورائحته أكثر كراهية من بيض السمك… والنجار يعمل فوق ما يقوي ذراعيه (أي فوق طاقته)… أما قاطع الأحجار عندما ينتهي من عمله يكون يداه قد هلكا ويكون منهكاً وقدماه وظهره منحيان… أما الفلاح في الحقول فيشكو أكثر من شكوى الدجاج وصيحاته أقوى من نعيق الغربان، أصابعه متورمة، تحمل رائحة كريهة، والآلام من نصيبه.

ويُظهِر لنا هذا النص بوضح بلاغة الوالد في توضيح مزايا الكاتب إلى ولده، بإبراز مساوئ المهن الأخرى.

ويُبرِز المثقفون والملوك أهمية الكتابة، فيقول الحكيم «كاجمني»:

فَرِحٌ هو قلب الكاتب؛ يزداد شباباً كل يوم بما يُعطي للناس، فغذاء العقل الذي تقدمه للناس باق.

ويقول الملك إخناتون: «تعلموا لتتعلموا كيف تعملون، فإتقان العمل عبادة تقربكم إلى المعبود، وعين المعبود تعرف ما تفعلون». وفي موضع آخر يقول: «إذا أردت أن تورث ابنك ميراثاً لا يفنى، فورّثه المعرفة، فهي الثروة التي تزداد كلما أخذت منها».[5]

حركة الترجمة

لم تكن مصر منفصلة عن جيرانها في العالم القديم، فقد تعاملت دبلوماسياً وعسكرياً وتجارياً مع العالم، ووصلت حتى حدود قبرص وكريت شمالاً، وبرقة غرباً، والصومال جنوباً، وسوريا ولبنان شرقاً. ولما كانت اللغات المستخدمة في تلك البلدان مختلفة عن اللغة المصرية القديمة والتي تُسمى اصطلاحاً هيروغليفية (وتعني الخط المقدس)، فكان لا بد من إيجاد وسيلة للتعامل مع الشعوب الأخرى، فظهرت وظيفة الترجمة، وأصبحت البعثات أياً كان تمثيلها تصطحب معها مترجمين.

نجد – على سبيل المثال- معاهدة السلام بين رمسيس الثاني وملك الحيثيين مكتوبة بعدة نسخ باللغتين الهيروغليفية والمسمارية، وكان من الطبيعي وجود مترجمين للاتفاق على شروط المعاهدة بين الملكين وضوابطها بين الملكين.

ثم نجد «سنوحي»، الموظف الكبير الذي خدم في عهد الملك أمنمحات الأول، والذي غادر إلى سوريا خوفاً من التقلبات السياسية بعد وفاة الملك، فوصل إلى بيبلوس في بيروت، ثم وصل إلى بلاد رتنو (فلسطين وسوريا في ذلك الوقت)، فأرسل الأمير «عامو ننشي»، أمير رتنو، ليستقبله ويعرف عن أحوال المصريين، لوجود مصريين كثيرين يعيشون في رتنو، فذهب إليه وحدثه عن أحوال البلاد.[6]

وفي هذا إشارة إلى اختلاف اللغتين، وهذا يعطينا ثلاثة احتمالات، أولها: أن سنوحي كان يعرف لغة أهل رتنو، والثاني، وجود مترجم بينهم، والثالث، أن أمير رتنو يعرف اللغة المصرية القديمة، ومهما كان الاحتمال الأرجح، فهو يدل على حركة ترجمة وإتقان للغات أجنبية.

التأثير الثقافي المصري على العالم القديم

تعرضت مصر على مدار تاريخها إلى فترات احتلال كثيرة، لكن الغريب في الأمر أن المحتل كان «يتمصَّر»، على عكس ما قد يسبّبه الاحتلال من تغيير في الهوية والثقافة، فنجد الهكسوس الذين احتلوا مصر قد تمصَّروا، وتسمّوا بأسماء مصرية، وعبدوا معبودات مصرية[7]، ثم من بعدهم الليبيون والنوبيون وغيرهم طوال التاريخ، وهذا دليل على أن الثقل الثقافي والحضاري في مصر آنذاك كان أكبر من هؤلاء المحتلين، الذين تفوقوا عسكرياً فقط في لحظات الضعف، فاتخذوا من مصر منبعاً ثقافياً وحضارياً لهم.

وعندما دخل الإسكندر الأكبر مصر تمصَّر، فذهب إلى واحة سيوة وأنشأ معبداً لـ«أمون رع»، مُعلناً أنه ابنه[8]، هذا على الرغم من أنه جاء من حضارة كبيرة، ولكن التأثير الحضاري والثقافي المصري كان أكبر من الحضارة الهلينستية.

وعقب وفاة الإسكندر، وإعلان بطلميوس الأول قيام الدولة البطلمية في مصر، ومن بعدها الدولة الرومانية بقيادة أغسطس، استمر تشييد المعابد البطلمية والرومانية على الطراز المصري القديم، حيث سُجل آخر نص باللغة المصرية القديمة –الهيروغليفية- في القرن الرابع الميلادي، تحديداً في 24 أغسطس/آب عام 394م، بينما ظلت عبادة إيزيس قائمة حتى القرن الخامس الميلادي.

وعند دخول المسيحية مصر والاعتراف بها كدين رسمي، كانت اللغة القبطية هي المستخدمة، باعتبارها التطور الأخير لشكل الكتابة المصرية، التي بدأت بالهيروغليفية مروراً بالهيراطيقية ثم الديموطيقية، وظلت مُستخدَمة في الدواوين الحكومية حتى عرّب عبدالملك بن مروان الدواوين، مُستبدِلاً القبطية بالعربية، بينما ظلت القبطية مُستخدَمة حتى الآن في الكنائس.

ما ذكرناه آنفاً لمحات من التأثير الثقافي المصري، فالحضارة المصرية هي الحرف الأبهى والأجمل في هذا التاريخ.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.


المراجع



  1. مصطفى حسن النشار، «الفكر النقدي في مصر القديمة: قراءة في بريدة إيبور»، القاهرة، مركز دراسات الوحدة العربية والجمعية الفلسفية المصرية، 2003، ص 227.
  2. المرجع السابق، ص230.
  3. رمضان عبده علي، «تاريخ مصر القديمة»، الجزء الأول، القاهرة، دار نهضة الشرق، 2001، ص ص 605-607.
  4. Malcolm Mosher Jr., «Transmission of Funerary Literature», OIMP 39, P.87.
  5. مصطفى حسن النشار، «الفكر النقدي في مصر القديمة»، مرجع سابق، ص ص232-233.
  6. سليم حسن، «الأدب المصري القديم: القصة والحكم والأمثال والتأملات والرسائل الأدبية»، الجزء السابع عشر، القاهرة، مؤسسة هنداوي، ص 52.
  7. رمضان عبده علي، «تاريخ مصر القديمة»، الجزء الثاني، القاهرة، دار نهضة الشرق، 2001، ص 24.
  8. أبو اليسر فرج، «تاريخ مصر في عصر البطالمة والرومان»، الطبعة الأولى، القاهرة، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 2002، ص 28.