تثير الخيال دائمًا تلك النظرية٬ نظرية تأثير الفراشة٬ فكيف لحدث بسيط وعادي٬ يحدث آلاف المرات٬ وقد يكون بدون أي مجهود يذكر من مصدره٬ أن يكون له هذا التأثير العميق (سلبي أو إيجابي)؟ وبغض النظر عن الخيال والمبالغات الناتجة عن تلك النظرية٬ فالمثبت علميًا أنه في الأنظمة المعقدة والمترابطة قد يكون التغير البسيط المحدود في بعض الشروط٬ خاصة في بعض النقاط المحورية مثل الشروط الابتدائية٬ له تأثير عميق على الناتج النهائي؛ أي أن بعض الأنظمة حساسة جدًا للشروط المكونة لها، وفي الأنظمة المستقرة قد يكون هذا في نقاط البداية وفي النقاط المفصلية٬ ولكن في الأنظمة أو الأحداث السائلة فإن الغالب هو الاتجاه للفوضى، وبالتالي فإن بعض الأحداث على اعتياديتها تكون لها في تلك الحالة قدرة أكبر على التأثير، وبالتالي فإن نسبة الأحداث القادرة على إيقاع تغيير في المكان الذي تنتهي إليه الأمور قد تصل إلى درجة عالية للغاية.

دعونا نعود للتاريخ قليلًا٬ فهناك نظرية أخرى مثيرة للخيال٬ ففي العام 1961 حضرت المفكرة السياسية حنا أرندت المحاكمة الشهيرة «Eichmann Trial»، والتي خرجت منها بنظرية تفاهة الشر، ومفادها أن أكثر النتائج شرًا في التاريخ قد تأتي من أفعال اعتيادية لشخص عادي حينما يتغافل متعمدًا واعيًا عن إنسانيته أو عن الحوار الداخلي الذي من المفترض بشريًا بأن يتعامل معه قبل الإقدام على أي فعل. إذن فنحن جزء من نظام مترابط معقد وليس على المستوى الخارجي فقط ولكنه يبدأ في الحقيقة من الداخل٬ بل وربما قد يكون أكثر تعقيدًا هنالك لأنه في الغالب أكثر هشاشة بحكم طبيعتنا الإنسانية.


ما الجدوى من تلك المقدمة الطويلة؟ وما علاقتها بالموضوع الرئيسي للمقال الذي يدور حول مقارنة بين عملين أدبيين٬ رواية «جمهورية كأن» لعلاء الأسواني، وكتاب «قريبًا من البهجة» لأحمد سمير؟

كعادة أي عمل يتناول أحداث ثورة يناير يطفو إلى ذهني العديد من الخواطر وعلامات الاستفهام التي قد تكون تركت حبيسة هناك في أعماق لا تصل إليها النفس في الأيام العادية، ولكنها دائمًا ما تنجح تلك الكتب في خلخلة الماء الراكد لتطفو تلك الخواطر من حين إلى آخر منذ أن قررت الابتعاد عن الاهتمام بالأحداث العامة جزئيًا في ربيع 2012، وكليًا بعد ذلك بعام.

ولأن دور الأعمال الأدبية في تلك الحال هو مجرد عامل مساعد لظهور المدفون، فأحيانًا ما تأتي تلك الخواطر بعيدة عن الأعمال نفسها خاصة أنها تتعلق بأسئلة أصولية عن الأحداث٬ مثل: هل يمكن الحكم بفشل الثورة؟ وما معايير الفشل أو النجاح التي يمكن الحكم من خلالها؟ أو كيف بدأ التباعد والذي وصل لاحقًا لمرحلة الكره بين المتحمسين للثورة وعموم الشعب؟ أو عن طبيعة الأخطاء التي قام بها التيار المدني والتي أدت إلى انسحاقه أمام التيارات الأخرى في أشهر قليلة؟ وأسئلة أخرى عن طبيعة بعض الأحداث التي تظهر دائمًا كاللغز مع العديد من التفسيرات غير المنطقية حتى الآن (على الأقل لنقطة البداية) مثل أحداث محمد محمود وأحداث بورسعيد.

فالبداية كانت مع رواية الأسواني، «أديب البيست سيلر» على رأي الأديب الكبير إلياس خوري. وكعادة الأسواني وخاصة في كتاباته الأخيرة جاءت الرواية مباشرة وعظية، وإن كانت تلك المرة أكثر فجاجة وكأنها رواية من تلك الروايات التي قد ينتجها أولئك المهووسون بلعب دور الإله من المتشددين، فهي تتحدث عن فريقين: أهل الخير أو الأنبياء الذين قرروا أن يتعرضوا للعذاب للتكفير عن عموم البشر٬ وأهل الشر الذين ظهروا في الرواية بشكلهم التقليدي منذ بداية التأريخ، فهم يجتمعون في مكان ثابت٬ على الأرجح دار كبيرهم٬ على طاولة مستديرة مع إضاءة خافتة ليتناقشوا فيما بينهم كيف يديرون الأمور ويتلاعبون بالجميع.



ما إن أنهيت «جمهورية كأن»؛ انتابني حالة شديدة من الغضب٬ كل الخواطر والأسئلة عن الثورة خرجت دفعة واحدة في سيل شديد الاندفاع وكأنها قررت أن تترك مكانها كمراقب لأحداث الثورة وتنزل بنفسها في مظاهرة لتعلن احتجاجها هي الأخرى على هذا العبث.

وهناك على الهامش فريق ثالث كان حضوره في الرواية باهتًا، كأهل الأعراف بين هذا وذاك في حيرة العاجز عن حسم أمره، أو غير المؤهل لأن يكون ضمن أعضاء الفريقين.ولكن تلك المرة وبعد قراءة العملين والذي تصادف قراءتهما بشكل متتالٍ؛ كان الحضور أكثر كثافة٬ وكأني وجدت بين الصفحات بعض الإجابات أو بدايات لبعض الخطوط.

لمن يعرف الأسواني أو من حضر إحدى ندواته الثقافية٬ يدرك تمامًا أن هذا الرجل حكاء موهوب يمتلك الحضور والقدرة على الكلام بلا انقطاع لساعات. وأعتقد أن موهبته في الحكي٬ مع بعض الظروف الخاصة بوقت قراءتي للرواية (أمام غرفة العناية المركزة الذي كان والدي محتجزًا بها) قد أرغمتني على إنهاء الرواية على الرغم من قسمي السابق بأني لن أضيع وقتي في قراءة أي عمل للأسواني الذي أقسمته بعد قراءة ما يقل عن نصف رواية «نادي السيارات» والتي لم أكملها حتى الآن.

ولكن ما إن أنهيتها انتابني حالة شديدة من الغضب٬ كل الخواطر والأسئلة التي ذكرتها سابقًا خرجت دفعة واحدة في سيل شديد الاندفاع وكأنها قررت أن تترك مكانها كمراقب لأحداث الثورة وتنزل بنفسها في مظاهرة لتعلن احتجاجها هي الأخرى على هذا العبث الذي يهدد وجودها من الأساس. فالموضوع واضح ومباشر وبسيط كما أعلنها الأسواني٬ لا داعي للتفكير فليس هناك مكان لأي ألوان٬ الأبيض والأسود٬ الملائكة والشياطين في صراعهم الأبدي، هكذا كانت الثورة في أحداث الأعمال الفنية للأسواني٬ لوحة بلا ألوان.

مشكلة طريقة الرؤية من خلال لونين فقط أنها تميل إلى تعريف المواقف من خلال تمييز واضح ودقيق وصلب٬ فنراه دائمًا يصف الأحداث والأهم الأشخاص بتعريفين فقط كمجال رؤيته؛ إما أبيض أو أسود٬ صحيح أو خطأ٬ جميل أو قبيح٬ صديق أو عدو٬ خير أو شر٬ ملاك أو شيطان.

والحقيقة أن التفكير بالأبيض والأسود قد يبدو مريحًا للغاية٬ وهنا تكمن الخدعة٬ فهو يعفيك من التعاطف مع أشخاص مختلفين عن قناعاتك، كما يرفع عنك حرج أن تضبط نفسك متلبسًا بتفسير أفعال قد تراها مختلفة عن عقيدتك، وبالتالي فإن تلك الطريقة تعمل بشكل مسبق على محو وتشويه جميع العناصر غير المتطابقة معها قبل أن تصل إلى مرحلة التفكير الواعي في الحدث أو الشخص٬ نعم هي بمثابة التشويه الإدراكي.


استمرت حالة الغضب فترة ليست بالقليلة٬ بدأت فيها أبحث عن كتاب جديد يخرجني من تلك الحالة٬ ومن بين بعض المؤلفين اخترت أحمد سمير٬ فهو صحفي أسلوبه بسيط وإيقاعه سريع٬ وفي تلك الحالة النفسية كنت بحاجة لشيء سهل للتسلية وليساعدني فقط في تجاوز جمهورية الأسواني.

وكانت «قريبًا من البهجة» وكأنها رحمة إلهية في التوقيت وفي المحتوى. مجموعة من القصص الصغيرة٬ على ما يبدو أن معظمها حقيقي٬ لأشخاص على ما يبدو أيضًا أنهم من دائرة الراوي (بطل القصة) أو الكاتب٬ والرابط بين كل القصص هو الفترة الزمنية التي تدور فيها٬ دائمًا هناك قبل وبعد، والمحور هو الثورة٬ وكأن سمير يجعل من الثورة فعلًا لا يقل في حضوره عن ميلاد المسيح وبالتالي فلا بد لها من توقيتها الخاص، حدث محوري أثره عميق، قد لا نكون في حينها وربما حتى الآن مدركين لعمق هذا الأثر٬ ويسهب سمير في ذلك في القصة الختامية الأيقونة «شاب في ميدان»٬ لاحظ أن الشاب مجهول والميدان أيضًا مجهول، فالفعل في نظر سمير أكبر من حصره في أشخاص أو أماكن٬ لأن كل من مرت عليه الثورة خرج بوجه ولم يعد به٬ أو كما جاء على لسان الشاب كرد فعل لنظرة الراوي الملتاعة له: «أنا اتشوهت».



«قريبًا من البهجة»: لوحة ترسم الهشاشة البشرية؛ فمن دوافع بسيطة بدائية تأتي الأفعال التي قد تتحول لأحداث كبيرة٬ وكأن سمير يجري لاهثًا وراء تلك الفراشة ليتتبع ذلك الأثر الارتجاجي المزلزل لضربات جناحها الضعيف.

ولأني كنت أسيرًا في ذلك الوقت للوحة الأسواني ثنائية اللون٬ فتخيلت سمير وهو يكتب هذه الرواية كالرسام الذي وقف أمام لوحته البيضاء ليكب عليها كل الألوان التي رآها في حياته٬ يبدأ بلون واحد من أعلى اللوحة ويتركه لتتغير درجته بفعل تغير الكثافة من انسكابه حتى آخر اللوحة، ثم يكرر نفس الفعل مع اللون الذي يليه٬ لون تلو الآخر حتى خرجت لوحة فنية مليئة بالألوان غير واضحة أو بالأحرى معقدة عصية على الفهم٬ لا تحاول حتى٬ فقط عليك أن تشعر بها إذا كنت فعلًا جادًا في البحث عن إجابات.

لوحة ترسم الهشاشة البشرية؛ فمن دوافع بسيطة بدائية تأتي الأفعال التي قد تتحول لأحداث كبيرة٬ وكأن سمير يجري لاهثًا وراء تلك الفراشة ليتتبع ذلك الأثر الارتجاجي المزلزل لضربات جناحها الضعيف٬ فما بين تلك الأم التي يتغير لونها (أفكارها وبالتالي تصرفاتها) من النقيض للنقيض لمجرد رؤية ابنها في التلفزيون٬ وهذا الشاب الذي ساءت أحواله الاقتصادية بسبب الثورة التي كان بعيدًا تمامًا عن أحداثها ثم ساءت أحواله النفسية بسبب تعرض والده للسجن في أحداث رابعة ليصبح ناقمًا على المجتمع كله٬ إلى تلك الفتاة التي تغير من ملابسها بناءً علـى مشاعرها حتى أصبحت وبالصدفة (بدأت من إعجابها بشخص وبرسالة مكتوبة تبادلتها معه عن طريق الراوي) من أشد المتحمسين لاتجاه بعينه لدرجة أنها قد تضحي بأطفالها بلا تردد.


تأتي لوحة سمير البشرية ٬بلا ملائكة ولا شياطين٬ تكفيرًا عن تلك اللوحة المراهقة التي رسمها الأسواني للثورة٬ لتصارح أولئك الذين وقعوا فريسة غياب الألوان في مراحل تكوينهم بأن الحياة معقدة أكثر مما يبدو والتغيرات الحاسمة والكبيرة قد تبدأ من أفعال غريزية بسيطة بل ومفهومة (وأحيانًا مبررة) في سياقها.

ومن ناحية أخرى تصرخ في أولئك الباحثين عن التميز٬ الذين حاول الأسواني استمالتهم في روايته بشكل شعبوي فأظهرهم في صورة مغرقة في المثالية٬ بأنه لا مجال للتمايز على العموم هنا، فقد تكون تلك هي الخطيئة!

نعلم جيدًا أن البحث عن التفرد متجذر في تكويننا البشري٬ وليس تفردًا بمعناه العميق (الطبيعي بالمناسبة)٬ ولكن تميزًا وفقًا لمعايير مجتمعية متفق عليها٬ مهنة أو مظهر ديني أو طبقة اجتماعية أو فعل ثوري أو شهرة على منصات التواصل الاجتماعي. ولكن علينا أن ندرك في نفس الوقت أنه لم يطلب أحد تضحية، بل كان اختيارًا شخصيًا في الأساس بدون أي اتفاق مسبق ليمنح الحق في تقريع الجميع على الإخلال به. فأنت لست الحسين ولم يتخل عنك أحد لأنه ببساطة لم يستدعك أحد. فلا داعي على الإطلاق لذلك الشعور الفوقي الذي قد يكون المساهم الرئيسي فيما آلت إليه الأمور٬ خاصة وأن الثورة قد يصنعها الغضب، أما التغيير فلن يصنعه إلا الوعي.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.