تقول الأسطورة إن الحملة العسكرية الفرنسية طرقت أبواب مصر أول يوليو 1798،
لتنقل البلاد من ظلمات تخلف العصر المملوكي/ العثماني/ الإسلامي، إلى أنوار
المدنية والحداثة الأوروبية. وتستدل الأسطورة على نبل هدف حملة فرنسا العسكرية
بأنها كما نقلت على سفنها الحربية المدافع والجنود المدججين بالسلاح، حملت
المطبعة، أحد أعظم منجزات الحملة التي أهدتها إلى مصر.

نقول إن هذه الرؤية مجرد أسطورة، وتبريرات واهية لاحتلال غربي للبلاد، إذ إن وقائع التاريخ تثبت أن المطبعة الفرنسية لم تطبع كتابًا واحدًا لتنوير أهل مصر. على النقيض، لم تأت الحملة بالمطبعة إلا لتضليل الأهالي وتزيف وعيهم. استخدمها المحتلون الفرنسيون في طباعة المنشورات الدعائية، وأولها المنشور الذي أعده المستشرق الفرنسي «فانتور» ويبدأ بـ:

بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في ملكه، من طرف الفرنساوية المبني على الحرية والتسوية… يا أيها المصريون قد قيل لكم، إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلِّص لكم حقكم من يد الظالمين، وأنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه الكريم والقرآن العظيم.

ورغم ما في المنشور من عبارات التخدير، فإنه تضمّن الوجه الآخر الأسود للحملة الفرنسية، المُهدِّد بالوعيد والنار للمخالفين: «فكل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تُحرق بالنار».

مدرسة بونابرت في كتابة التاريخ

تريد «مدرسة بونابرت» في كتابة التاريخ أن توهمنا أن الحملة الفرنسية ومطبعتها أنارت عقول المصريين، ووقائع التاريخ تقول، إنها أنارت قراهم وبيوتهم نارًا، وحاولت حشو عقولهم بالأضاليل.

ومع احتلال الإسكندرية، أمر بونابرت بنقل المطبعة إلى منزل قنصل «البندقية»
بالمدينة، وأن تطبع أربعة آلاف نسخة أخري من المنشور السابق ذكره، ثم انتقلت إلى
القاهرة، وسُميت «المطبعة الأهلية» و«مطبعة الجمهور الفرنساوي». وخلال 3 سنين، لم
تخرج المطبعة كتابًا واحدًا لتنوير الأفهام. [1]

يذكر المؤرخ «جمال الدين الشيال»، وقد درس تاريخ الترجمة خلال عهد الحملة
الفرنسية، قائمة بأسماء الكتيبات التي تُرجمت إلى العربية وطبعت في مطبعة الحملة
فلم تكن سوى:

  1. «وصايا لقمان الحكيم»: طُبعت باللغة العربية ومعها ترجمتها الفرنسية في مطبعة الحملة في كتاب صغير من 120 صفحة. كان ثمنه نصف فضة.
  2. «محضر محاكمة سليمان الحلبي»: باللغات الفرنسية والعربية والتركية، وعنوانه «مجمع التحريرات إلى ما جري بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام كليبر».
  3. «أجرومية للغة العامية»: وهي من وضع «مارسل» وقد بدأ في تصنيفها في قلعة القاهرة، ثم أضاف إليها زيادات في الإسكندرية، غير أنها ظلّت غير كاملة، وطبعت في سنة 1801 باللغتين الفرنسية والعربية في 168 صفحة.
  4. «رسالة في مرض الجدري»: وهي من وضع كبير أطباء الحملة ديجنيت، وترجمها الأب رافائيل زاخور، وطبعت باللغتين الفرنسية والعربية في 43 صفحة، طبعتين: الأولى في شعبان 1214 هجريًا (يناير/كانون الثاني 1800)، والثانية في شعبان 1215 هجريًا (ديسمبر/كانون الأول 1800). [2]

أربعة أعمال بالعربية في مدى ثلاث سنوات، أي بمعدل عمل كل 9 أشهر.

ونظرة على الكتيبات التي أخرجتها المطبعة الفرنسية باللغة العربية يتبيّن مدى قيمتها العلمية، فوصايا لقمان هي عمل عربي في الأساس وليس فرنسيًا، و«محضر محاكمة سليمان» منشور دعائي لإرهاب أهالي مصر بما فعله الفرنسيون بقاتل قائدهم كليبر، ثم ماذا يستفيد أهالي مصر من «أجرومية للهجة العامية»؟

يتبقى أخيرًا «رسالة في مرض الجدري»، وهي الشيء الوحيد المفيد الذي أخرجته المطبعة الفرنسية، وقد علّق عليها الجبرتي، في حوادث شعبان 1215 هجريًا، قائلًا إنها «رسالة لا بأس بها في بابها». [3]

وقد أخرجت المطبعة الفرنسية جريدتين، واحدة لجنود الحملة «لوكورييه دليجبت»، أي «بريد مصر»، والثانية للعلماء الذين صاحبوا الحملة العسكرية «لاديكاد إجبسين»، أي العشرية المصرية [4]، والجريدتان موجهتان في الأساس للفرنسيين وباللغة الفرنسية، وليس لأهالي مصر.

أمّا «جريدة التنبيه» التي اعتزم إصدارها القائد الثالث للحملة فقد ظلّت مجرد مشروع، ولم تخرج إلى حيّز التنفيذ [5]، ولو ظهرت فلن تعدو أن تكون سوى مجرد منشور دعائي يصدر بصفة دورية في شكل جريدة، بهدف خداع الأهالي وتخدير مشاعرهم للقبول بالاحتلال الفرنسي والتغني بإنجازاته المزعومة.

لم تكن أول مطبعة

نقطة ثانية مهمة، أن المطبعة الفرنسية لم تكن أول مطبعة يراها أهل مصر. فقد عرفت تركيا الطباعة بعد اختراعها بأربعين سنة، على يد يهود عاشوا في إسطنبول، بيد أن سلاطين آل عثمان لم يُشجِّعوا الطباعة، يدفعهم إلى هذا الخشية «من أن يعمد أصحاب الغايات والأغراض إلى الكتب الدينية فيحرفوها ويشوهوها» [6]، لهذا اقتصرت المطبعة التركية الأولى على الحرف العبري.

وانتظرت الدولة العثمانية سنوات طويلة حتى تأسست أول مطبعة عربية بإسطنبول عام 1141هـ/ 1728م، اهتمت بطباعة الكتب التي تنير الأذهان، وإن لم تستطع مجاراة تقدم الطباعة وانتشارها في أوروبا، وقد زار تلك المطبعة بعض من علماء الأزهر، وحينما اطلعوا على المطبعة الفرنسية بالقاهرة قارنوا بينها وبين مطبعة إسطنبول. [7]

صحيح أن معرفة مصر بالطباعة قد تأخرت حتى جاء الغازي الفرنسي، وصحيح أن أول مطبعة مصرية أسّسها محمد علي في بولاق عام 1819، لكن دراسة «نيللي حنا» لثقافة الطبقة الوسطى خلال القرن الثامن عشر، تكشف عن انتشار عملية نسخ المخطوطات بشكل فاق أعداد المخطوطات التي نُسخت في الفترات السابقة على هذا القرن، وإن الحوليات التي كُتبت في عصر المماليك وصلت إلينا نسخها التي نُسخت في العصر العثماني وليس المملوكي.

وقد استفادت البلاد من انخفاض أسعار الورق المستورد من أوروبا نتيجة اختراع الطباعة والتوسع في الطلب على الكتب، إلى جانب الورق المُنتَج محليًا، لهذا تنوعت عمليات النسخ، ما بين إعداد نُسخ فارهة للطبقة العليا وكبار التجار، ونُسخ شعبية. وتكشف سجلات التركات وجود أعداد كبيرة من التجار والحرفيين ممّن اقتنوا الكتب. [8]

ويقول «بيتر جران» في دراسته عن «الجذور الإسلامية للرأسمالية» إن العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر شهدت إنتاجًا وفيرًا في الكتب والمُصنّفات، واتساعًا في الموضوعات والمجالات التي تتناولها، ربما يفوق الإنتاج مثيله في زمن محمد عليّ.

ويضيف أن السبب في عدم تقبل مصر للتكنولوجيا لم يكن الجهل أو العوامل الدينية، ولكن عدم ملاءمة هذه التكنولوجيا للنظم القائمة، ذلك أن إدخال الطباعة كان سيعني بطالة قطاعات ضخمة من قوة العمل، وهي قوة منظمة جيدًا، وبالتالي كان على الدولة أولًا أن تعد القوة اللازمة لسحق الناسخين قبل إدخال الطباعة. [9]

ومع رحيل الفرنسيون أخذوا معهم المطبعة، بل لقد حرصت حكومة القنصل الأول
(حكومة بونابرت بعد انقلابه على حكومة الإدارة) على استعادة المطبعة بالذات وعدم
تركها في مصر، فقد كتب وزير الحربية برتييه Berthier، بناءً على
أمر بونابرت، إلى الجنرال بليار:

تُرسَل جميع الآلات والمخطوطات العربية والمكتبة وحروف المطبعة العربية إلى باريس… وتُوضَع في وزارة الداخلية، التي سأكلِّفها تهيئة الظروف المناسبة لنقلها. [10]

حب الحصيد، المطبعة التي جلبتها الحملة الفرنسية لم تكن أداة «تنوير» بل «تزوير»
و«تضليل» و«إرهاب»، آلة دعائية لمحاولة تزيف وعي أهل مصر، وتهديدهم بالحرق
والخوزقة في حال الثورة على المحتل الفرنسي.

لقد جاء الفرنسيون بأداة من أدوات الحداثة، لكنهم لم يستخدموا تلك الأداة في «تحديث مصر»، وإنما لـ «استعباد مصر»، ومع رحيلهم ضنّوا بها على أهل مصر، ولم يثبت أن الاحتلال الفرنسي حاول تعليم مصري واحد شيئًا عن استخدامها وكيفية الإفادة منها. [11]


المراجع



  1. جمال الدين الشيال، تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية، الطبعة الأولى، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2000) ص 35-36.
  2. مرجع سابق، ص 81-82.
  3. الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن، مكتبة الأسرة، ج 5، ص 231، حوادث أول شعبان 1215 هجريًا/ 18 ديسمبر 1800.
  4. اسم الجريدة مشتق من التقويم الجديد الذي أعلنته الثورة الفرنسية، وفيه قلدت تقسيم اليونان والرومان للشهر إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يقال له العشرية.
  5. انظر في تطور الطباعة بالعالم العربي:

    إبراهيم عبده، تاريخ الطباعة والصحافة في مصر خلال الحملة الفرنسية 1797-1801، (القاهرة: مطبعة التوكل بدرب الجماميز، نوفمبر 1941)، ص 97-108.

    إبراهيم عبده، تطور الصحافة المصرية 1798-1951، الطبعة الثالثة، (القاهرة: مكتبة الآداب بالجماميز، بدون تاريخ)، ص 25.

    خليل صابات، تاريخ الطباعة في الشرق العربي، الطبعة الثانية، (القاهرة: دار المعارف بمصر، 1966).

    جمال الدين الشيال، تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية، ص 29.
  6. لويس شيخو: تاريخ فن الطباعة في المشرق، مجلة المشرق، السنة الثالثة، العدد الرابع، 15 فبراير 1900، ص 174، نقلا عن خليل صابات، تاريخ الطباعة في الشرق العربي، ص 23.
  7. خليل صابات، تاريخ الطباعة في المشرق العربي، ص 25-16. إبراهيم عبده، تاريخ الطباعة والصحافة في مصر خلال الحملة الفرنسية 1797-1801، ص 41.
  8. نيلي حنا، ثقافة الطبقة الوسطي في مصر العثمانية، ص 133-134، 140-141.
  9. بيتر جران، الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر 1760-1840، ترجمة محروس سليمان، مراجعة رؤوف عباس، الطبعة الأولى، (القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1993) ص 11.
  10. إبراهيم عبده، تاريخ الطباعة والصحافة في مصر خلال الحملة الفرنسية، ص 47.
  11. المصدر نفسه، ص 16-17-18.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.