استوقفتني صورة غلاف رواية «

كحل وحبهان

» للكاتب المصري «عمر طاهر»، حاولت أن أتذكر من صاحبة صورة الغلاف، الوجه مألوف لممثلة مصرية شهيرة غاب اسمها عن بالي. فشغلني ذلك عن القراءة، وبدأت بالبحث عن اسمها. أخيرًا عرفتها، الصورة للراحلة الممثلة «مديحة كامل».

ولكن
ما علاقتها بالرواية؟

سألت
نفسي هل صورة الغلاف تستحق كل هذا الاهتمام؟ صورة الغلاف أول ما تقع عليه عينا
القارئ. فلماذا مديحة كامل تحتل صورة الغلاف؟

لكن
القارئ سيعرف هذا وهو يقرأ الرواية.

وأنا
أبحث بدافع الفضول عن صاحبة الصورة على غلاف الرواية، عثرت على مقال ينتقد الرواية
بشدة ويقول إنها لا تُصنَّف رواية، فهي بحسب رأيه تفتقد للحبكة الدرامية، ويُشكِّك
في نزاهة لجان الجوائز الأدبية بسبب وصول هذه الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة بحجم
«جائزة نجيب محفوظ».

وبعيدًا
عن ذلك الجدل بدأت مغامرة قراءة الرواية، لأجدها ممتعة من الصفحة الأولى.

اللغة

الكاتب
يمتلك لغة جميلة، شعرية رائعة تصف الأشياء بدقة وجمال.

صمت مُربِك تهشم بقسوة بعد دقائق إثر صوت صرخة أم سمير.

الجوع فراغ، وكل فراغ مؤلم. كان ألم أم سيدنا موسى أن فؤادها أصبح فارغًا. فراغ المعدة، القلب والبيت والوجدان والطريق والجيب، كل فراغ يؤلم صاحبه، ما عدا فراغ العقل؛ فهو يجلب له النعيم.

رغم
بساطة القصة وأحداثها لكنها تلامس مشاعر القارئ بعمق. تتناول كثير من المواضيع
الحساسة والمسكوت عنها في المجتمع بطريقة لطيفة، كأن الكاتب يُنبِّه لشيء ما غير
صحيح. فهو يرصد مظاهر التعصب الديني في المجتمع وثقافة التمييز ضد الآخر، يتضح ذلك
من وصف بطل الرواية لمعالم المدينة التي عاش بها طفولته:

مسجدان كبيران لكل واحد منهما شلة مصلين، كنيسة كبيرة يصيبنا توجس ما كأطفال مسلمين ونحن نعبر إلى جوارها، وعلّمونا أن نقرأ ساعتها الفاتحة بصوت عال.

وعلى
بعد صفحات نراه يمر سريعًا بطريقة ذكية على موضوع حساس، التحرش الجنسي بالأطفال،
وهو يتذكر الروائح وما تحمله من ذكريات، فلكل ذكرى رائحة تميزها وتستحضر صورتها،
ليصل إلى:

رائحة البيوت المهجورة هي رائحة معمل كيمياء المدرسة الابتدائية، عندما أمسك المدرس يدي ومرّرها فوق انتصاب عارم.

لا يذكر الكاتب تفاصيل ذلك التحرش، لكنه يترك خيال القارئ الذي سيشعر بالصدمة ويقف لتخيل تلك اللحظات لطفل في الابتدائية ومدرس سيئ الأخلاق يستغل مكانته ومهنته مع طفل بريء، ويترك جرح في نفسية الطفل تتحول لذكرى لها رائحة لا تُمحَى.

الرائحة تلعب دورًا كبيرًا في الرواية ويتفنن بطل الرواية في عزف سيمفونية الطبخ ورائحة الطعام ورشاقة الطبيخ. الطبيخ فن له قواعد ومعايير وطقوس ساحرة. بل طقوس مُقدسة لتلك الطبخات الناجحة:

طبيخ تأدية الواجب لا شخصية له، صاحبات النفس هن صاحبات أرواح عظيمة محبة ومخلصة.

وقد تحوّل من الحديث عن الطعام إلى الحديث عن فلسفة الطعام: الصداقة، العلاقات الاجتماعية، الحب، وكثير من المشاعر نشعر بها من خلال رائحة الطعام ومكوناته. بل إنها تقوم بمهمة تحليل شخصيات تاريخية وسياسية:

كنا نفكر في تحليل لرائحة محمد علي باشا، وخطر لنا سؤال: كيف هي رائحة المشاهير الذين لم نلتقهم يومًا؟ قلت لخالي: فلتبدأ.

قال: جمال عبد الناصر.

بعدها انفتح باب اللعبة ولم ينغلق.

تُذكِّرني الرواية برواية «

البحث عن الزمن المفقود

» لـ«مارسيل بروست»، تلك الرواية الطويلة المكوّنة من سبعة أجزاء، والتي تُغرِق القارئ في تفصيلات دقيقة، عندما يصف الراوي- عبر صفحات طويلة- لوحات فنية ومنحوتات، ويُغرِق القارئ في ذكريات يستعيدها الراوي وهو يستمع لجمل موسيقية، فتعج الرواية بأسماء موسيقيين ونحّاتين وأدباء. وكأن الكاتب يُمسِك بريشة فينحت تلك الذكريات، وعمر طاهر هنا يُحوِّل الطعام لسيمفونية تستدعي الذكريات.

الحبكة

ينقلنا المؤلف بين زمنين، طفولة الراوي عبر يوميات، وأحداث من فترة شبابه من عام 2008 حتى 2017.

ينقلنا من حكاية إلى حكاية بتعبيرات رشيقة، وأوصاف جميلة تمتلك عمقًا كبيرًا، تُلامِس مشاعر وعواطف القارئ فيشعر في لحظات أنه يقرأ جزءًا من سيرته الذاتية في طفولته. فالكاتب يتفنّن بذكر يوميات يلوّنها بالأغاني السائدة في ذلك الزمن في السبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

فرحة الراوي بشراء التلفزيون المُلوَّن، وجهاز الراديو الذي يستمع منه لأشهر الأغنيات، والتلفون الذي دخل لشقتهم أولًا بسلك طويل ليخدم بقية الجيران.

عبر
صفحات الرواية وتفاصيلها يشعر القارئ بالحنين لذلك الزمن الجميل «النوستالجيا» زمن
مديحة كامل، وفايزة أحمد، ومحمد منير. زمن أغاني الكاسيت. ويسمع الأم وهي تردد مع
الراديو في المطبخ كلمات لأغنية:

يمكن على باله حبيبي

يمكن على باله أغيب

لكن والله يا حبيبي عن بالي ما بتغيب.

ليس للطبيخ وعادات الأكل طقوس وحسب، بل الحزن له طقوس وممارسات. وفاة قريب لإحدى الجارات يُغيِّر حياة الراوي. وتظهر قائمة الممنوعات مراعاة لحزن الجارة حتى فيما يخص نوع الطعام.

الانتقال بين يوميات الراوي في طفولته وأحداث يومه في فترة الشباب تتم بسلاسة، ويتقبلها القارئ بشغف من دون الشعور بالغرابة.

كان أبي جائعًا، وأنا أيضًا، لكن رعشة خفيفة سرت في جسدي عندما ابتسم أبي بعد أول لقمة جعلتني أنسى الجوع، هذا الطفل اليتيم يبدو سعيدًا، وأنا الآن أتشمم رائحة استمتاعه. قال شيئًا لم أسمعه جيدًا، كنت مشغولًا بالتدقيق فيما أشعر به الآن، فبعيدًا عن كل أهل المنزل كنّا نجلس أنا وهذا الرجل وحدنا نوقع معًا ميثاق العيش والملح.

تنتهي
أحداث الرواية قبل أن يصل القارئ لمرحلة الشبع والتخمة.

الحب
الأول في أيام الطفولة ورسائل الغرام البريئة، والحب الناضج في مرحلة النضج
والشباب.

تُقدِّم الرواية شخصياتها بطريقة هادئة: الراوي، ووالدته التي تُتقِن الطبيخ، وجدته المُحبة، والده الحازم، الخال. شخصيات واضحة ومألوفة للقارئ، يتقبلها بترحاب وكأنه يعيش معها ويعرفها منذ زمن، ويرى شبهًا كبيرًا بينها وبين عائلته وجيرانه وأناس عرفهم في طفولته.

لم أتردد في وضع تقييم عال للرواية، بغض النظر عن رأي من ينتقدها، ليقيني أن هناك منْ يحرمون أنفسهم من متعة الاستمتاع بكثير من الأعمال الإبداعية، عندما يُقيِّدون ذائقتهم بقواعد تتجاوزها بعض الأعمال الأدبية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.