أساس كل التناقضات التي نحياها الآن كأمة إسلامية يكمن في التعريف التراثي للدين، فنجد أنفسنا منعزلين غير مواكبين للأمم من جوارنا غير مسايرين لتغيرات العالم. إن الدين الذي ارتضاه الله هو ثابت قدسي لا محالة، منذ إبراهيم وحتى محمد، فإذا نظرنا إلى حقيقة الجذر الإيماني نجدنا -ومن قبلنا- على الدين الذي ارتضاه الله وهو الثابت لا تغيير فيه.

«وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ».





سورة الحج – آية 78.

أما
الدين الذي في مضمونه يغازل السلطة ويسعى من أجلها ويلبس عباءة الطاعة أمامها
ويتودد إليها لنيل رضاها، هو دين لا يرتضيه الله ولا أهله، بل هو صورة مُشوهة من
الدين تناقلت منذ الأزل حتى الآن. يقودها ويقف في صفها مجاذيب السلطة وشيوخهم،
متزعمين في ذلك طليعة جيوشٍ تقود العامة وتؤثر في حياتهم وأعرافهم. [1]

وعلى
نفس الشاكلة يقع الدين منّا الموقع الخطأ حينما يتم معاملته كدين لللأهواء، ودس
التعاليم فيه حتى تطابق الآراء القبلية والمجتمعية، عن قصدٍ أو بدونه، هذه هي المشكلة
الحقيقية التي وقعت ولها توابعها المؤثرة في صميم الدين، وتؤثر على المجتمعات التي
نحيا فيها.

أبو ذر الغفاري وشبهات صدر الدين

كان لأبي ذر الغفاري جولات مع معاوية وعثمان، وكانت نظرته إلى معاوية غير عثمان، فهو يعرفه ويعرف إسلامه وأبيه. انتقل إلى الشام بعد أن أبعده عثمان، وكان المجال له واسعًا حتى يتكلم في الحق. فنقرأ من قوله:

ثمّ إن الولاة، قد أحدثوا أعمالاً قِباحًا لا نعرفها. من سنَّة تطفى، وبدعة تحيى، وقائل بحق مكذَّب، وأثرة لغير تقى، وأمين مُستأثر عليه من الصالحين…

ونقرأ أيضًا عنه قوله

:

والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله، ولا في سنّة نبيّه والله إنّي لأرى حقًّا يطفأ، وباطلاً يحيا… [2]

البحث والفتوى

ولأن تعثر الكتابة في عصر صدر الإسلام كان هو الأمر المتسيد، فقد تسيدت الآراء الشفوية وتناثرت في كل مكان. ودس المقاتلون على السلطة ما يشاؤون من ذممهم، وما سوله لهم خيالهم الممعن في تحقيق مصالحهم الشخصية، أو القبلية، أو حكايات وروايات لا يصدقها عقل عاقل. بل وتحول كل منهم إلى مُفتٍ، يفتي بما يعرف وما لا يعرف، ويكذب على الله ورسوله.

وحتى الآن أجد الفتاوى حاضرة في الفور دون بحث وتحقيق. يقول ابن
القيم

:

ولا تَجْمد على المنقول في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك.

ويستطرد في ذلك فيقول:

ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل. [3]

التفسيرات: اختلافها ومحتواها

في كتاب التمهيد عن الباقلاني نجده يقول عن غلاء الأسعار:

الغلاء والرخص في الأسعار إنما يرجعان إلى الرغائب والدواعي، فإن جميع الأسعار من الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي خلق الرغائب في الشراء ووفر الدواعي إلى الاحتكار. [4]

كان الباقلاني أشعريًا، بينما في نفس الرأي نرى تفسير القاضي عبد الجيار وهو معتزلي

:

إنها قلة الشيء مع شد الحاجة إليه، أو كثرة المحتاجين بالنسبة إلى ما هو موجود. [5]

هكذا بتلك الأمثلة البسيطة تتضح إشكالية الأخذ من التراث دون بحث وتحقيق ودراسة، فنواجه أحاديث مكذوبة. بعضها تم تناقله عن طريق الخطأ، وبعضها مكذوب عن عمد كتلك التي كتبت لدعم معاوية وتبرئته وحتى التي كُتبت لدعم موالي الفرس.

ونواجه في ذلك أيضًا فتاوى مرتبكة عشوائية بعضها فوق بعض، تمحو بعضها الأخرى. ونواجه تراثًا مُسطرًا في العديد من الكتب ليس له بالدين من صله. تحمل في مضمونها تفسيرًا وشروحات لا يقبلها عقل.

لا حل سوى أن يعمل العقل ويختار، ويتم ذلك عن طريق اختيار ما يتفق مع العقل وترك ما لا يتفق معه. نجد ثمارًا مريرة ونجد أخرى جيدة وملتزمة صحيح الدين. [6]

البحث: المخرج من الأزمة

فيم الضرر من البحث قبل الأخذ؟ فيم الضرر من التشكيك ثم الوصول لبعض الحقيقة؟ إننا في ديننا انقسمنا عصورًا مضت وما زلنا.

البعض له أرضية مشتركة مع الآخر فيشاركه فيها، والبعض يرفض الآخر رفضًا تامًا دون مراجعة. إن كان من شيء يرد هذا الجدال إلى نواتج فعلية فهو البحث في الخلافات، حتى ولو هناك أراضٍ مشتركة بين الفرق، فالبحث أيضًا في تلك الأراضي المشتركة هو أساس الحل، وبه يتم دك حصون الفتاوى العنجهية التي يتبناها ضعاف الحجة، الفتوى في كل شيء وأي شيء وحتى في مجالات العلوم الطبيعية والتطبيقية، الفتوى في علوم الفضاء والأحياء، الفتوى في أمور السياسة والاقتصاد، كلها دون خجل.

وهم إذا شاركوا في الفعل السياسي نجدهم يتكلمون باسم السماء دون أن يدركوا أن أي رأي يقولونه هو رأي إنساني ليس من الضرورة أن يكون هو الصائب. فإن مثل تلك التأويلات في الشرع الإلهي التي تفترض صحتها عن غيرها هي أساس الفهم التراثي للدين، هي أيضًا أساس النزاع والشقاق القائم الذي نتحمل جميعًا تبعاته.

التفكير الفلسفي في الدين هو تفكير قائم على المنطق، والمنطق له أسس وقواعد، منها البرهان والقياس، والقياس مستخدم استخدام واضح وصريح في القضايا الفقهية، والفقهاء المُستخدِمون له ليسوا مبتدعين. فالتهم الموجهة لأصحاب التفكير الفلسفي القائم على نهج علمي سليم دون أهواء ولا أغراض جانبية هي تهم باطلة. والمخرج هو البحث في الدين وما تم التلاعب به على مر العصور. [7]


المراجع



  1. الدين والسلطة – قراءة معاصرة للحاكمية – محمد شحرور.
  2. أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني – محمد جواد.
  3. أعلام الموقعين – ابن القيم.
  4. التمهيد – الباقلاني.
  5. المغنى – القاضي عبد الجيار.
  6. تاريخ الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده – محمد رشيد رضا.
  7. فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال – ابن رشد.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.