ترتبط الحياة السياسية في إيران ارتباطًا وثيقًا برجال الدين، ليس هذا وليد اليوم ولا وليد الثورة الإسلامية أو المخاض الذي سبقها، ولكنه واقع تعود أصوله إلى عهد الدولة الإشكالية التي ظهرت في عام 249 ق.م. رغم هذا، لم يلعب رجل دين دورًا بحجم وخطورة الدور الذي قام به الإمام الخميني، قائد الثورة الإيرانية ومُرشدها الأول.

من هذا المنطلق، تبدو ذكرى الثورة الإيرانية التي تمر هذه الأيام، توقيتًا مناسبًا لتناول السيرة الذاتية للرجل الذي كان له دور كبير في تغيير وجه منطقة الشرق الأوسط.


مولده ونشأته وزواجه

وُلِد روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني في الـ24 من سبتمبر/ أيلول 1902، في مدينة خمين بإيران، لعائلة متدينة؛ فوالده وجده كانا من رجال الدين، ووالدته سليلة رجال دين كذلك.

عانى روح الله من اليتم مبكرًا، إذ قتل والده على يد مسلحين -هناك روايتان للحادث؛ أحدهما تقول إنه قتل على يد قطاع طرق والأخرى تقول إن قاتليه إقطاعيون مدعومون من الحكومة -وهو ابن خمسة أشهر فقط، وتولى رعايته والدته السيدة هاجر وعمته السيدة صاحبة خانم، لكن هذه الرعاية لم تستمر طويلاً، حيث توفيتا وهو في الخامسة عشر من عمره.

كان من الطبيعي أن يكون التعليم الديني هو وجهة روح الله، فدرس مقدمات في العلوم المختلفة، بما فيها اللغة العربية والمنطق والأصول والفقه، في خمين، ولما بلغ 19 عامًا التحق بالحوزة العلمية في مدينة أراك، وبعدها بعام واحد هاجر إلى قم للالتحاق بحوزتها الشهيرة، وانكب على الدراسة ستة أعوام، حتى أصبح قادرًا على التدريس فدّرس الفلسفة الإسلامية والعرفان النظري وأصول الفقه والأخلاق الإسلامية، وهو ابن 27 عامًا.

تزوج روح الله عام 1929م بخديجة كريمة آية الله الحاج ميرزا محمد الثقفي الطهراني، وأنجب منها ثمانية أولاد؛ ثلاثة ذكور وأربع إناث، ويبدو أنه أحبها حبًا شديدًا، ولم يكن يستحي أن يعبّر عن ذلك في خطاباته إليها، حيث

كتب

إليها خلال رحلة حجه، قائلًا: «جُعلتُ صدقة من أجلك.. بحق الله، جُعلتُ فداك.. طوال هذه الفترة التي كنت فيها مبتلى بابتعادي عن نور العين العزيزة وقوة قلبي، لم تفارقني ذكراك، وصورتك الجميلة منحوتة في قلبي».


الاشتباك مع النظام

بدأ روح الله اشتباكه مع نظام الشاه في عام 1945، من خلال كتابه «كشف الأسرار»، الذي قام فيه بانتقاد حكم رضا شاه -والد الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي- بشكل غير مباشر، وأظهر فيه توجهًا سياسيًا معارضًا وإن كان محدودًا.

أخذت معارضة روح الله للنظام منحى أكثر وضوحًا في العام 1962، وذلك حينما وقف بقوّة ضد لائحة مجالس الأقاليم والمدن/ الثورة البيضاء، والتي كان تطبيقها يعني اتجاه الحكومة أكثر نحو العلمانية، إذ كان من المقرر حذف الإسلام كشرط في المرشّحين والناخبين، والسماح بمشاركة النساء في الانتخابات، وهو ما رآه رجال الدين، وعلى رأسهم الخميني،

مخالفًا

للإسلام.

تزايد عداء الخميني لنظام الشاه في هذه الآونة، وتجسد هذا العداء في

خطابه

الحماسي الذي ألقاه في حشد من علماء الدين وطلبة علومه وجمع من أهالي مدينة قم، بمناسبة ذكرى عاشوراء، واتهم فيه الشاه بموالاة إسرائيل والتأثر بالبهائيين.

ألقت قوات الأمن القبض على روح الله وأرسلته مكبلاً إلى طهران، بالتزامن مع أحداث «انتفاضة الخامس عشر من خرداد» عام 1963، التي سقط فيها آلاف القتلى والجرحى بيد قوات أمن الشاه، لكن بعد 10 أشهر من اعتقاله، اضطرت الحكومة إلى الإفراج عنه، بعدما منحه مراجع الشيعة الكبار درجة «آية الله العظمى» ليكتسب الخميني بذلك حصانة تمنع سجنه حيث جرى العرف على ألا يسجن آيات الله العظام، وهكذا تحول الرجل إلى رمز لمقاومة حكم الشاه.

لم يرضخ الخميني لترغيب أو ترهيب حكومة الشاه واستمر على نهجه بعد الإفراج عنه، فضاقت به الحكومة وقررت نفيه إلى تركيا.


في المنفى

نُفي الإمام الخميني إلى تركيا (مدينة بورساي) في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1964، ولحقه ابنه مصطفى بعدها بعدة أشهر منفيًا هو الآخر، بعد أن ضاقت الحكومة من تحركاته المناهضة لها ومن نقله لرسائل أبيه إلى المعارضة.

بعدها بـ 11 شهرًا، وتحديدًا في أكتوبر/ تشرين الأول 1965، نُقل الخميني برفقة ابنه مصطفى، من تركيا إلى العراق، وأقام في مدينة النجف بجانب حوزتها الأشهر، وكانت هذه فرصته لنشر تعاليمه وإنضاج نظرياته وأطروحاته عن الحكم وولاية الفقيه والحكومة الإسلامية.

استمر روح الله في التواصل مع المعارضة داخل إيران -التي كانت تواجه قمعًا شديًا حينئذ- عبر أشرطة تسجيل بها خطابات يدعو الناس فيها إلى الثبات والاستقامة ومواصلة النضال والثورة، وأكسبته كاريزمته وراديكاليته في معارضة الشاه ثقلاً أكبر، فتكتل خلفه ذوو الميول الدينية -وهم كُثر- وأصبح صوتهم.

اتفقت حكومتا طهران وبغداد على طرد الخميني من العراق، وأبلغ بالقرار في 24 سبتمبر/ أيلول 1978،

فقرر

التوجه إلى الكويت لكن حكومتها رفضت استقباله فتوجه إلى فرنسا، وأقام في أحد ضواحي عاصمتها باريس.

اكتسب روح الله سمعة عالمية، وأصبح محط اهتمام وكالات الأنباء والصحف، التي استغلت وجوده في فرنسا لمحاورته باعتباره زعيم الانتفاضة المشتعلة بإيران،

واستغل

الرجل هذه المنابر الإعلامية للتعبير عن أفكاره وأطروحاته.

في هذه الأثناء، تصاعدت حدة الاحتجاجات في إيران واتسعت رقعتها وأضرب الموظفون عن العمل

بدعوى

من الخميني، فرضخ الشاه وأعلن تغيير الحكومة وإطلاق سراح السجناء السياسيين، لكن وقت الإصلاح كان قد فات، فاستمرت الاحتجاجات وواكبها الخميني بتشكيل مجلس لقيادة الثورة.

قرر الشاه محمد رضى بهلوي الخروج من إيران بدعوى الحاجة إلى الراحة والعلاج،

فقرر

روح الله الخميني العودة إليها بدعوى قيادة الثورة. حاول نظام الشاه الحيلولة دون عودته بإغلاق مطارات البلاد أمام الرحلات الخارجية، لكن المظاهرات التي كانت تطالب بفتح المطارات أجبرت النظام على التراجع عن قراره. وهكذا عاد الخميني إلى إيران في الأول من فبراير/ شباط 1979، بعد أن قضى 15 عامًا تقريبًا في المنفى.


تأسيس دولة ولاية الفقيه

بعد سقوط نظام الشاه، عمل الإمام الخميني على تصفية الجيوب المتبقية من نظامه والسيطرة على/ تحييد مؤسسات الدولة، بالتزامن مع تأسيس دولة «ولاية الفقيه المطلقة» التي كان يُنظر لها.

بدأ طريق دولة «ولاية الفقيه» بإجراء استفتاء على إقامة «جمهورية إيران الإسلامية»، في 30 مارس/آذار 1979، ليؤسس الخميني به سلطته الدستورية الشرعية، ليس أمام الخارج فقط، ولكن في الداخل أيضًا أمام رفاق العمل الوطني والمرجعيات الدينية التي كانت تمتلك أفكارًا مغايره لأفكاره.

تم تعيين رجال دين في مناصب أئمة الجمعة، لكن أعمالهم تجاوزت اختيار مواضيع وكلمات وآيات الخطب، إلى مراقبة عمل حكام الأقاليم، وهكذا انحدرت مرتبة حكام الأقاليم وأصبحوا يتلقون تعليماتهم من أئمة الجمعة للمرة الأولى في تاريخ إيران.

في مارس/آذار 1980، أجريت الانتخابات البرلمانية وحصد رجال الخميني في «الحزب الجمهوري الإسلامي» على 270 مقعدًا من أصل 300 مقعد، وهو ما عزز سيطرة الإمام على مقاليد الحكم، بالتوازي مع توغل رجاله في كافة الوزارات والمناصب الهامة.

توطدت سلطة الخميني ومبادئ دولة «ولاية الفقيه»، بعزل أبو الحسن بني صدر من منصب رئيس الجمهورية، بعد عام ونصف فقط من توليه للمنصب، وما تلا ذلك من أحداث أدت إلى استيلاء التيار المؤيد للإمام ولنظرية «ولاية الفقيه» على الحكم بشكل كامل.

أدت الحرب التي شنها صدام على إيران، في سبتمبر/أيلول 1980، إلى عكس ما أراد هو وحلفاؤه تمامًا؛ فالرجل وحلفاؤه من دول الخليج وأميركا، أرادوا القضاء على الثورة ودولة «ولاية الفقيه»، فتسببوا في انتصارها؛ إذ استغل الخميني ورجاله الحرب في توطيد أركان الدولة الجديدة واكتسبوا بها شرعية للإطاحة بالنظريات والرؤى المغايرة لنظرية «ولاية الفقيه».


الإمام يطيح برفاق الثورة

عندما هبط الإمام الخميني من الطائرة التي أقلته من باريس إلى طهران، كان بجواره السيد أبو الحسن بني صدر، الذي سيصبح أول رئيس لجمهورية إيران الإسلامية لاحقًا، وكان بجواره أيضًا السيد صادق قطب زاده، الذي سيصبح وزيرًا في أول حكومة بعد الثورة.

مصير هذين الرجلين اللذين صحبا الخميني في رحلته الأهم والأشهر، هو خير مثال على قائمة طويلة من رفاق الخميني الذين «أكلتهم الثورة»؛ فالأول انتهى به الحال منفيًا خارج بلاده بعد أقل من عامين على الثورة، والثاني أُعدم لاحقًا بتهمة التآمر على الثورة.

وعلى رأس من أكلتهم الثورة أيضًا، كان هناك رفيق درب الإمام ورفيق الثورة آية الله منتظري. لم يكن منتظري بالشخصية العادية أبدًا، فهو أحد أكثر المؤمنين بالخميني وبنظرية «ولاية الفقيه»، التي تولى الدفاع عنها أمام المراجع الكبار في حوزة قم، كما كان منتظري المرشح الأول لخلافة الخميني، حتى حدث الفراق بينهما، قبل شهرين من رحيل الأخير.


رحيل الخميني

رحل مؤسس دولة «ولاية الفقيه» في الثالث من يونيو/حزيران من العام 1989، وفي اليوم التالي حضر مئات الآلاف إلى طهران لإلقاء نظرة الوداع على جثمانه.

وكما كان مئات الآلاف يخرجون إلى الشوارع لاستقباله في حياته، خرج مئات الآلاف للصلاة عليه وتشييعه؛ ما اضطر الحكومة إلى نقل الجثمان بطائرة مروحية إلى مثواه الأخير في حسينية جمران.


المراجع




  1. حدائق الأحزان: إيران و”ولاية الفقيه”/ مصطفى اللباد.