عندما تشم رائحة الحريق ولا تنذر من حولك، فأنت بشكل ما ساهمت في إشعال الحريق.





أحمد خالد توفيق

قدم الفيلم الوثائقي «في سبع سنين» صورة عما رآه المُعِدُّ تحولًا عميقًا لأفكار الشباب المصري قبل وبعد الثورة، كانت النماذج صادمة لأغلب المتابعين، ما جعل الكثيرين يتهجمون عليه ويتهمونه بعدم الموضوعية أو تسليط الضوء على ظواهر شاذة وإعطائها حجمًا أكبر مما هي عليه في الواقع.

لست مصرية لأستطيع الحديث عن واقع المجتمع المصري بدقة، ولم أُجرِ كذلك دراسات ميدانية مع الشباب هنا في الجزائر لأقيِّم فكرهم، ولكن مما لا شك فيه أن هناك تحولات كبيرة حدثت في وعي الشباب العربي ككل خلال السنوات الماضية، وهناك ظواهر مجتمعية تنذر باقتراب الخطر إن اعتبرنا أننا لم نصل إليه بعد، وتعامِينا عنها لن يؤدي إلى غيابها، بل على العكس ستفرخ في غفلة منا ما هو أشد وطأة وأكثر خطرًا.

يخبرنا الفيلم في النهاية بأننا أمام جيل تائه بين الشطآن فقَدَ بوصلته وزحف التطرف إلى منطقة الوسط، فبعد سنوات من ظهور الدعاة الجدد وانتشار الحجاب أصبح البعض يراه «موضة»، وبعد الثورات والثورات المضادة وادعاء الجميع امتلاك الحق المطلق ونبذ المخالف، لم يعد شباب اليوم يجد من يجيب على أسئلتهم الوجودية بخطاب يفهمونه في ظل جو عالمي يعلي قيم التحرر دون تعريف واضح لها، ويغرق في رسائل الكراهية والإسلاموفوبيا بشكل كبير، مع توجه مخالف للفطرة الإنسانية ممعن في الشذوذ ومتجاوز حتى لثنائية الذكر والأنثى، والأفكار المتطرفة تتوالد في شتى الاتجاهات.

تراجع الاعتدال والفهم السوي وقابلية الجيل للتطرف ظاهرة موجودة في أغلب المجتمعات العربية دون أن يعني ذلك الإلحاد الصريح، قد يكون فقط إنكارًا للسنة أو تركًا للشريعة، كما قد لا يكون التطرف الآخر حملًا للسلاح، يكفي أن يكون تكفيرًا للمخالفين حتى لو كانوا علماء ومفكرين.

في نظرة سطحية أولية للشارع سنرى فتيات ترتدي أغلبهن الحجاب وفتيان يصلون في المساجد، ولكننا قد نسمع أحيانًا شتائم نابية من ذوي اللحى، وإن تجولنا قليلًا في صفحات الإنترنت سنرى المحجبات يرقصن مع تحديات الـ«تيك توك»، لدينا انفصام شديد ورؤية ضبابية جدًّا لمفهوم «التدين»، والقول بأن هؤلاء لا يمثلون التدين الصحيح وأننا يجب أن نفصل الإسلام عن الممارسات ليس كلامًا كافيًا لشباب لم تعد لديه قدوة.

فقد أصبح خطاب علماء الدين التقليدي غير مفهوم، وسقط العديد من الدعاة الجدد وأصبحت أبواق كثيرة تسبح بحمد الحكام، فلمن سيستمع شباب اليوم وقد أصبح حتى وجوب الحجاب أمرًا مختلفًا عليه في الشاشات.

يقول الشيخ محمد الغزالي:

أنا لا أخشى على الذي يفكر وإن ضل، لأنه سيعود إلى الحق، ولكنني أخشى على الذي لا يفكر وإن اهتدى، لأنه سيكون كالقشة في مهب الريح.

نرى اليوم صورة مهزوزة للتدين تثير النفور، قد لا يراها من هو بداخلها لأنه جزء منها، ولكنه عندما سيراها يومًا ما بلا شك بوعي داخلي أو عامل خارجي أو انهزام معنوي أيًّا كان السبب فستشكل لديه صدمة معرفية، ومع هشاشة وعيه وهزال الثقافة الدينية لديه قد تجعله الصدمة يتطرف في أحد الاتجاهات، فقد يعبر عن صدمته بتمسكه الشديد بالصورة المتخيلة لديه فيصم آذانه عن كل ما يقدح رأيه ويتقوقع حول نفسه وجماعته فيزيد تطرفًا و انعزالًا، كما قد يرفض المنظومة ككل ويشكك حتى في البديهيات الدينية.

نشأتُ في جيل كان يعيش بكل كيانه قضايا أمته، شاهدنا سقوط بغداد على الشاشات وقلوبنا تملؤها الحرقة، وبكينا محمد الدرة ثم إيمان حجو ونعينا أحمد ياسين والرنتيسي، وغنينا معًا «دا حلمنا طول عمرنا حضن يضمنا كلنا كلنا»، وانتهى الحلم واختفى الحضن الكبير عندما أصبحت القضية الفلسطينية «شأنًا داخليًا»، وسقطت القدس والعواصم كلها عندما لم تصبح إسرائيل العدو الأول للعرب.

جيلي هو الثاني بعد «الصحوة الإسلامية» التي عاشتها الجزائر واحتدام الصراع الأيديولوجي في الشوارع والجامعات والمساجد، فأين وصل شباب اليوم بعد ثلاثين سنة من كل التجاذبات الإسلامية والعلمانية؛ لم ينتصر أحد وانهزمنا نحن فأصبحنا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

سلسلة هزائم طويلة عاشها جيلي من تراجع القضية الفلسطينية، وأمل في الديمقراطية تبخر، إلى حلم بالنماء لم يتحقق، إلى إسلاميين انبروا للدعوة ومنها للسياسة ليهزموا هنا وهناك، فأصبحنا اليوم لا نكاد نرى توجهًا مستنيرًا، لدينا وهابيون لا يخرجون على الحاكم ولكنهم لا يدفعون الضرائب، متصوفة أبدعوا تزيين المساجد والزوايا بينما الأرواح خاوية والنفوس زاوية، حداثيون تصدروا المشهد الفكري لتصبح السنة مستباحة.

يضاف لذلك تبني السلطات للخطاب الديني، وكثرة علماء السلطان، فلا يظهر غيرهم على الشاشات، ما يجعل الشباب الرافض للقمع الذي يعيشه وللفساد الذي يراه مستشريًا بالأنظمة ينفر بعد مدة من السلطة ومن «دينها» كذلك، ففي أوروبا انتشر الإلحاد كرد فعل على سلطة الكنيسة. يقول أوليفيه روا:

كلما دعمت السلطات السياسية الدين وقوننته تشريعيًّا تتراجع نسبة الإقبال على الكنيسة والانضمام إلى الجماعات الدينية.

والخطاب الديني للسلطة يجعل المعارض يجد في نفسه تمردًا ضد خطابها أولًا ثم الدين ككل، لذا وجدت كثيرًا من الأطباء يعلنون بصراحة لا نريد مسجدًا أعظم بينما لدينا مستشفياتنا بدائية.

غياب الوعي وغياب الفهم السليم أنشأ جيلًا لا يحب التفكير كثيرًا، بل يبحث عن صيغ حاضرة يتبناها لينتمي لمجموعة تشبع الحاجة النفسية لديه، ومع انكماش الوسط لأسباب سياسية ودينية واجتماعية وثقافية مجتمعة – فالكل مقصر بنسب متفاوتة وللكل نصيب من التخاذل – جعل مساحات كبيرة خالية تم احتلالها بأفكار سنستيقظ يومًا على كابوس تطرف صنعناه بتجاهلنا لكثير من المقدمات في عصر ثورة الاتصالات، حيث العالم مفتوح على مصراعيه لشاب في قرية متواضعة وهو يشاهد حياة أقرانه ما وراء البحار، وحيث تنتشر التفاهة كالنار في الهشيم وتبقى الأصوات الواعية خافتة وغير مسموعة.

أنظر إلى جيلنا بالكثير من الرثاء والأسى، وأعتقد أن خطابًا جديدًا هو حاجة ملحة لضبط البوصلة، وأختم بقول الجابري:

إن النائم الذي ينام ليلته ليصحو في الغد، يستطيع أن يتابع مسيرة حياته كالمعتاد. أما أهل الكهف أو من هم في معناهم فلا تكفيهم الصحوة لمتابعة مسيرة الحياة. بل يحتاجون إلى تجديد عقولهم أولًا حتى يستطيعوا أن يروا الحياة الجديدة على حقيقتها.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.