ذكر «ابن عبد البر» في «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ«عمرو بن الأهتم التميمي المنقري»:

أخبرني عن «الزَّبرقان»! –وهو الزَّبرقان بن بدر التميمي السعدي





فقال ابن الأهتم: مُطاعٌ في أدانيه، شديدُ العارضة، مانِعٌ لما وراء ظهره، فقال الزَّبرقان: والله يا رسول الله، لقد علم مني أكثر من هذا، ولكن حسدني. قال ابن الأهتم: أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة (أي قليلها)، ضيق العطن (أي الصدر)، أحمقُ الوالد، لئيم الخال، والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، رضيتُ عن ابن عمي فقلتُ فيه أحسن ما فيه ولم أكذب، وسخطت عليه فقلت أقبح ما فيه ولم أكذب! فقال النبي: إن من البيان لسحرًا.

وفي هذا المقال، سنعرض لطائفة من هذا البستان الماتع، وقد يأتلق في الذهن سؤال: ماذا نستفيد من هذه الردود العذبة؟ والإجابة عن هذا السؤال واجبة وتتجدد معها الفائدة.

إن اكتساب المهارة يزيد بالتدريب والممارسة، وفن الرد المناسب أحد المهارات التي يلتمسها الجميع، مما يجعل القراءة عنها والاستفادة منها في أولى خطوات اكتساب تلك المهارة. كما أن الرد المناسب ليس مقصودًا به إفحام من تتحدث إليه، فأنت حين تتحدث لزوجك أو لوالديك لن يخطر ببالك أن تُفحِمهم أو تحرق أفئدتهم بأجوبتك المسكتة، وإنما تتخير من اللفظ ما يناسب مقام من تتحدث إليهم.

الأجوبة المسكتة نوع من السحر الحلال، فيتقرب الرجل لزوجه بكلماتٍ عذبة، ويتودد لإخوانه بألفاظٍ طيبة، والنفوس بيوت أصحابها كما قال «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه، مما يستدعي الطرق على تلك النفوس بحكمة وأدب، وهذا دور الكلمات الندية في محادثاتنا اليومية. وأنت تعلم ذلك من نفسك؛ فتميل للحديث مع أناسٍ لساعاتٍ طويلة، ولا تحتمل الحديث بضع كلماتٍ مع أناسٍ بأعينهم، فتتحاشى اللقاء بهم والتواصل معهم.

مهارة الحديث إلى الناس والتودد إليهم سحرٌ حلال، وعوائد هذا السحر مبهجة لكل من يقع في محيطه. وقد يرتفع شأن المرء بحسن جوابه، وقد يُبعد الشخص من موضع أو مكانةٍ لسوء بيانه وسيئ كلامه. من ذلك أن أعرابيًا حضر سُفْرة «سليمان بن عبد الملك بن مروان»، فطاشت يد الأعرابي في الصحيفة ووصل لما بين يدي الخليفة، فقال له الحاجب: مما يليك فكُل يا أعرابي! فقال الأعرابي: «من أجدبَ انتجع»؛ شقَّ على الخليفة أن يسمع عن الجدب والقحط وما فيهما من ظلف العيش، وقال للحاجب: «إذا خرج عنا فلا يعد إلينا».

بعد فترة حضر أعرابي آخر مأدبة الخليفة، وجعل هو الآخر يمر إلى ما بين يدي الخليفة، فقال الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي! فقال الأعرابي: «من أخصبَ تخيَّر»؛ فأعجب قوله سليمان بن عبد الملك، فأكرمه وقربه وقضى جوائجه.

في زخرُفِ القولِ ترجيحٌ لصاحِبِه .. والقولُ قد يعتريه بعضُ تغييرِ

تقولُ: هذا مُجَاجُ النحلِ تمدَحُهُ .. وإن عِبْتَ قلتَ: ذا قيء الزنابيرِ

مدحًا وذمًا وما جاوزتَ وصفهما .. سِحْرُ البيانِ يُرِي الظلمَاءَ كالنورِ

وازن بين الجدب وما يثير في النفس من معاني، وبين الخصب وما يتبعه؛ لتقف على أهمية انتقاء الكلمة بما يوافق الموقف. من تعاريف البلاغة عند العرب استعمال اللفظ الرشيق للدلالة على المعنى الأنيق، وهذا الميدان واسع يأخذ كل واحد منه بقدر اهتمامه وهمته.

الكلام الجميل يرفع المرء عن أقرانه، ولا ندعوك للمداهنة وإنما للملاينة والتلطُّف في القول. دخل «المأمون» يومًا الديوان، فرأى غلامًا حسن الهيئة يضع على أذنه قلمًا، فسأله المأمون: من أنت يا غلام؟ قال: أنا الناشئ في دولتك، والمتقلِّبُ في نعمتك، والمأمِّل لخدمتك، «الحسنُ بن رجاء»؛ فقال المأمون: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته.

إن سألت نفسك: كيف أكسب قلوب الآخرين؟ أو لماذا من حولي أذكى مني؟ فلربما يعود الأمر للذكاء الاجتماعي الذي يتيح لهؤلاء الاستعمال المناسب للكلمة، فتجد الواحد منهم لا يستخدم الكلمة القاسية، وإنما يميل للكلمة القريبة من النفس، ويبتعد عن الألفاظ الجارحة. لا يعني ذلك أنك خشن الطبع، عديم الذكاء الاجتماعي، بل نقصد بذلك أن الرقي في توظيف الكلمات يساعد على قربك من الآخرين، وهذا سلوك يجدر بك أن تتقنه.

الناس لا تحب من يجبرهم على أداء الأعمال، وإن نفذت ما يأمرهم به فلن يحجز لنفسه مكانًا في قلوبهم، أما الذين يراعون نفسية الآخرين ويطلبون منهم أداء الأعمال دون وعيد أو إرغام؛ فهم أقرب لقلوب الناس وأجدر باكتساب احترامهم لهم، وقد قال الله تعالى مخاطبًا المصطفى: «فبما رحمةٍ من الله لنت لهم، ولو كنتَ فظًا غليظَ القلبِ لانفضوا من حولك».

الضغوطات اليومية تؤثر في تعاملنا مع من حولنا، والطبع يغلب التطبُّع، وهذا قد يعوق إقبال البعض على تغيير استخدامهم للكلمات المنفِّرة أو القاسية. المدهش في الأمر أن استعمالك للسحر الحلال له نتائج فورية؛ فهو ينقلك من مجرد شخص ممل إلى شخص محبوب، وهذا في حد ذاته يحفزك لأن تواصل الاقتطاف من السحر الحلال؛ ليصبح كلامك العذب جزءًا من طباعك الأصيلة. لن يتحقق ذلك في غمضة عين، إلا أن النتائج الإيجابية تستحق أن تواصل في هذا الطريق الممتع.

يدخل بعض الآباء بيوتهم؛ فتُعْلن حالة من الاستنفار القصوى، ويخيِّم الصمت على البيت كأن على رؤوسهم الطير، وقد يسمع الرجل صياح أبنائه وضحكاتهم قبيل دخوله، يتوهم البعض أن هذا من الهيبة والوقار الذي ينبغي أن يحاط به الوالد! في حين أن الألفة والود بين الوالد وأولاده تنسج علاقة أكثر مودة وأقل توترًا. لاطف أبناءك وتودد إليهم بكلماتٍ تُشعِرهُم بمكانتهم، وتعامل مع مرؤوسيك بلباقة لتكسب قلوبهم، فإن فعلت فقد خلقت بيئة أكثر إبداعًا وإنتاجًا وفعالية.

البعض يبحث عن فرصة يحقق ذاته من خلالها، أو يبرز مواهبه وقدراته الخلاقة، ومع ذلك يعضّ إصبع الندم، لأن الفرصة لا تحالفه على الإطلاق. ربما يطرق هؤلاء الأبواب بفظاظةٍ أو رعونة، وإلا فمن أحسن السؤال عُلِّم، ومن طرق الباب سمع الجواب. ليس لهؤلاء أن ييأسوا من تكرار المحاولات، وإنما يجدر بهم أن يعيدوا المحاولات بطرقٍ أكثر ذكاء، وسحر البيان من تلك الطرق المهمة التي تحفر انطباعاتٍ إيجابية لهؤلاء في قلوب وعقول الآخرين. استخدم لسانك بالشكل الصحيح؛ فإن اللسان مفتاح نجاحك إن أحسنت قيادته، وهو سيف قد يضرب عنقك إن أسأت استعماله.

إن كنت تعمل في العلاقات العامة، أو تتعامل مع الناس بشكلٍ مباشر؛ فأنت في حاجةٍ لهذا النوع من السحر –سحر البيان-، وإن كنت انطوائيًا لا تميل للاختلاط بالناس؛ فأنت لا محالة بحاجةٍ لهذا السحر أيضًا، للتعامل بلطفٍ وكياسة مع أهل بيتك والمقربين منك. إن كنت ممن يدمن الناس على جفائهم وتحاشي الحديث معهم؛ فقد وضعتُ يدكَ على مكمن الداء، ووصفتُ لك الدواء، ولك القرار.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.