يعتبر الراحل «رفعت السعيد» من أكثر الرموز اليسارية إسهاما في تغيير مسار ومستقبل اليسار في مصر بشكل عام وحزب التجمع المصري بشكل خاص، فهو وإن كان من الرعيل الثاني المؤسس للماركسية في مصر، إلا أن كثيرا من أبناء تياره يذهب إلى تحميله عبء ومسئولية اندثار أو موت اليسار في مصر.

فكيف قضى السعيد -وفقًا لهؤلاء- على أحلام ومستقبل اليسار في مصر؟

إن إعادة قراءة مسيرة السعيد تجعلنا نرى أنها تميزت بخصوصية تماهت مع ثنائية المعارضة حينا والمبايعة حينا آخر، وقد تشكلت تلك الثنائية في ضوء عدد من السياقات الاجتماعية والسياسية المختلفة، تلك الخصوصية لم تكن بمعزل عن التعبير عن وضع اليسار في مصر والمنطقة العربية، يمكن القول بأن تلك الخصوصية تشكلت في ضوء سياقات سياسية وظرفية مختلفة أراد منها السعيد إعادة وضع ركائز العمل السياسي اليساري.


ثورة السعيد في مواجهة عبدالناصر والسادات

انطلق النشاط الثوري للسعيد باكرا حينما شارك في مظاهرات الطلاب عام 1946 وهو في سن الرابعة عشرة، حتى تم اعتقاله وهو لم يبلغ سن السادسة عشرة ليعتبر بذلك أصغر معتقل سياسي، وقد سيطر على السعيد في تلك الفترة التوجه الشيوعي في إطار تمدد الشيوعية وإحكام الاستعمار الأجنبي سيطرته على المنطقة وفي ظل تنامي حركات الاستقلال وحركات الإسلام السياسي.

وفي تلك الأثناء كانت «الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني- حدتو» تمثل الحاضن الرئيسي للتيار الشيوعي، فانضم السعيد إلى صفوفها، واستمر نشاطه الثوري إلى ما بعد ثورة يوليو 1952 ليعاني من اضطهاد عبدالناصر كما عانى الماركسيون والإسلاميون على حد سواء، كما دفع النظام الناصري إلى إطلاق سراح المعتقلين الشيوعيين مع وقف نشاط «حدتو» ليبدأ تاريخ الشيوعية في مصر في الاندثار التنظيمي والفكري بالرغم من محاولات إعادة إحياء التيار.

مثلت حالة الانفتاح السياسي في عهد السادات نقطة بداية جديدة في تاريخ اليسار المصري الذي عمل على الاستفادة من فتح المجال أمام الأحزاب السياسية ليقوم كل من خالد محيي الدين ورفعت السعيد بتدشين وإطلاق حزب التجمع اليساري ليمثل أكبر أحزاب المعارضة للسادات.

ومع انعكاس نتائج التحرر الاقتصادي وسياسات السوق التي اتبعها السادات على الأوضاع الاجتماعية، وكذلك مع توقيع معاهدة كامب ديفيد سعى اليساريون إلى مناهضة تلك السياسات، ووصلت معارضة السعيد للسادات ذروتها حينما أيد انتفاضة الخبز 1977، وما كتبه من

نقد

لجيهان السادات، مما دفع إلى اعتقاله في 1978.


الأسقف المنخفضة: كيف قضى السعيد على أحلام اليسار؟

مع الوصول لذروة الصراع مع القوى الإسلاموية الصاعدة «المعتدلة كانت أم الراديكالية» ومع استمرار نزيف الحركة اليسارية، وفي أعقاب تنصيب مبارك على سدة الحكم، عمل السعيد على تبني سياسة براجماتية في تعامله مع النظام الجديد وذلك لتحقيق مكاسب برلمانية أو سياسية محدودة لليسار المصري، وهو ما دفع بحزب التجمع إلى التراجع وتحوله من أكبر حزب معارض للنظام إلى حزب هامشي تابع للنظام بغطاء المعارضة.

تتلخص سياسات السعيد البراجماتية فيما عرف من دعوته إلى تطبيق «

نظرية

الأسقف المنخفضة» للمعارضة المصرية، والتي تدعو إلى معارضة هادئة مع السلطة وعدم تبني خيار الصدام أو التغيير الجذري، فقد عمل السعيد في تلك الفترة على المزج بين إقامة علاقة طيبة مع النظام من جهة، مثل موقفه من الاصطفاف إلى جانب النظام في مواجهة حركة كفاية، مما دفع الحركة إلى

قطع

علاقاتها مؤقتا مع حزب التجمع، وبين التمسك بمبادئ اشتراكية إصلاحية، داعيا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من جهة أخرى، ومناهضة الإسلاموية من جهة ثالثة.


في معابد العسكر: رحيل لا يليق بقديس اليسار



امتاز الخط السياسي للسعيد بالثوري في مواجهة سياسات عبدالناصر الشمولية وتوجهات السادات الليبرالية، فعانى من السجن



يبقى أن توجهاته وسياساته لم تحمل مشروعا فكريا أو عمليا لإعادة إحياء اليسار المصري الذي ما زال يعاني التفكك والتحلل القاعدي

بالرغم من الهجوم الذي شنه أبناء التجمع في أعقاب ثورة يناير ضد السعيد وتحميله مسئولية تراجع وتفكك قواعد الحزب، وذلك من خلال

البيان

الذي أصدره بعض أبناء التجمع بعنوان «إصلاح التجمع ضروري وممكن» ، إلا أن استراتيجية الأسقف المنخفضة سيطرت في مرحلة ما بعد الثورة على توجهات وكتابات السعيد.

فتشير مواقف الرجل إلى أن غلبة مناهضته للجماعات الإسلامية جعلته من أنصار الأنظمة القمعية والاستبدادية، فهو مناصر لسياسات النظام القائم ومن قبله المجلس العسكري، ومؤيدا لعنف الدولة المنظم في فض اعتصام رابعة، وهو أيضا لم يكن يعارض اتفاقية تيران وصنافير.

ربما لا نجد مبررا مفسرا لأسباب التحول الجذري في توجهات السعيد الثورية من رفض سياسات الناصرية والساداتية، إلى البراجماتية السياسية في التعبد في معابد مبارك والعسكر، وبالرغم من جهود السعيد الفكرية والنظرية في كتابة تاريخ الشيوعية واليسار المصري فإنه يبقى أن توجهاته وسياساته لم تحمل مشروعا فكريا أو عمليا لإعادة إحياء اليسار المصري الذي ما زال يعاني التفكك والتحلل القاعدي.