تعاملت تركيا مع الأزمة الخليجية بشكل مكثف، بدايةً؛ التفاعل كان على لسان «جاويش أوغلو»، وزير الخارجية التركي، عندما عبر عن أسفه لما حدث من قطعٍ في العلاقات بين الدوحة وجيرانها، مؤكدًا اعتباره استقرار الخليج جزءًا من استقرار تركيا، عارضًا التدخل التركي للوساطة بين الإخوة الذين صاروا فجأة أعداء.


تناقض تركي أم ذكاء دبلوماسي؟

الناظر إلى الموقف التركي في بدايته من بعيد سيعتقد بحيادية تركيا واختيارها النأي بنفسها عن التحيز لأحد طرفي النزاع، وتنحية دبلوماسيتها بعيدًا عن الاشتباك المباشر في الأزمة، وسيرى تناقضًا فجًا بين الموقف الأولي لأنقرة والموقف المتبدل بعد ساعات قليلة والمتحيز لقطر، ليس فقط دبلوماسيًا، وإنما حتى عسكريًا، بعد سعي البرلمان التركي لإقرار قانون عاجل يسمح للحكومة التركية بنشر قوات عسكرية في الأراضي القطرية!

قد تبدو السياسة التركية للوهلة الأولى متضاربة وغير متسقة مع نفسها، لكن العلاقات والمواقف الدولية تمتاز بشيء من التعقيد، بحيث لا يمكن اختزالها إلى اللونين الأبيض والأسود، فالسياسات الخارجية والدبلوماسية عمومًا يمكنها أن تحتمل العديد من الألوان في الوقت نفسه، والتي يحتاج فهمها إلى مزيد من التدقيق والتعمق.

«نأسف للأزمة ونأمل في حلحلة الموقف»، هكذا كان التعقيب الأولي لتركيا، رد دبلوماسي مثالي يمثل الإجابة النموذجية لأي سؤال يوجه لمسئول مخضرم عن أي أزمة دولية، ونظرًا لطبيعة العلاقة التركية المستقرة مع السعودية، شديدة الحميمية في الوقت نفسه مع قطر، توافرت المساحة والفرصة لأوغلو ليعرض الوساطة التركية.

بناءً على هذا الموقف المبكر سارت معظم التحليلات السياسية للموقف التركي في اتجاه افتراض حيادية تركيا ولعب دور المصلح الذي سينأى بنفسه عن التحول إلى طرف خصومة، خاصة في ظل ظروف صعبة تعيشها الدولة التركية داخليًا وخارجيًا، وهزة سياسية لم تتزن منها أنقرة بعد منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز الماضي، بالتأكيد أنقرة ليست في حاجة مع مثل هذا الاضطراب الداخلي إلى فتح جبهة نزاع جديدة مع أطراف دولية بحجم السعودية.


كُتِبَ عليكم القتال وهو كرهٌ لكم

ما الذي حدث إذن، ولماذا قرر الأتراك تغيير موقفهم الذي بدا محايدًا للوهلة الأولى، وارتداء بزاتهم العسكرية والتلويح باستعدادهم للذهاب إلى أبعد الحدود في دعم قطر؟

يحمل الأتراك والقطريون مشروعًا متماهيًا على الأقل، إن لم يكن واحدًا، بداية من دعم ثورات الربيع العربي واحتضان حركات الإسلام السياسي، خاصة تلك المنطوية تحت إطار الإخوان المسلمين، كما يظهر في الدعم اللا محدود الذي تقدمه الدوحة وأنقرة لإخوان مصر وحماس.

تفسيرات هذا الدعم والترابط كثيرة، تبدأ من التفسيرات «إماراتية الهوى» عن حب قطر للظهور والتمكن ورغبتها في اقتطاع دور أكبر مما تستحقه لنفسها في المعادلة الإقليمية والدولية، وسعيها لتنفيذ هذا بدعم جماعة «إرهابية» تثير القلاقل لدى جيرانها وتهدد عروشهم، وانتهاءً بتفسيرات عن إخوانية تميم وأردوغان بشكل شخصي.

على كل حال لسنا بصدد مناقشة تفسيرات مواقف الدوحة وأنقرة، وإنما تحليل المواقف نفسها، عندما ترفع السعودية ورفاقها نصال القطيعة والمحاصرة ضد قطر، رافعةً لائحة اتهام ضدها تتضمن دعم جماعة الإخوان المسلمين وحركة المقاومة الإسلامية حماس كاتهام رئيسي تنطلق منه مع حليفتها الإمارات وتابعتها البحرين لتركيع قطر، فإنها لن تحتاج لتعديل لائحة الاتهام كثيرًا في حملتها ضد تركيا غدًا، ما إن تمكنت من فرض سياستها على الدوحة اليوم.

إذن قطر بالنسبة لتركيا حديقة أمامية، إن نجحت الدول المتحالفة ضد قطر في تلجيمها بشكل مطلق، فلن يمر الكثير من الوقت قبل نقل المعركة إلى داخل البيت التركي، فخيار تركيا الصريح الذي تجسد في قرار إرسالها لقوات عسكرية إلى حليفتها قطر لم يكن سوى استباق لمعركة معها تتوقعها قريبًا حال استسلام قطر لمطالب وشروط جيرانها.

وكما يقال دائمًا فإن الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، لذا قررت تركيا أن تكون طرفًا في أزمة خليجية داخلية، وهو أفضل (بالنسبة لها) بكثير من أن تتخذ موقفًا حياديًا منكرًا للواقع وتنتظر حتى تطرق الأزمة بابها قريبًا، خاصة مع وجود دلائل كثيرة على تورط الإمارات في انقلاب يوليو الفاشل، ووجود دلائل قوية على لعب أبناء زايد دورًا فاعلًا في تأليب الملك سلمان على إدارة الشيخ تميم عبر بوابة نجله ووزير الدفاع محمد بن سلمان الذي يرتبط بعلاقات شديدة القوة مع الإدارة الإماراتية.

بالتأكيد لم تكن أنقرة تتمنى مثل هذا الموقف المعقد في هذا الوقت، خاصةً مع احتياجها لفترة استقرار تعيد فيها التقاط أنفاسها والتفرغ لإعادة الاستقرار للداخل التركي وللمؤسسات التركية المختلفة، ما قد ينعكس في موقفها الأولي الذي بدا محايدًا، فيما يبدو تعويلًا على التدخل الكويتي الذي بدأه أمير الكويت فور اندلاع الأزمة، وأملاً في انخفاض حدة التوتر في الساعات التالية، لكن مع زيادة حدة الأزمة وتصاعد الحرب الإعلامية والكلامية بين مسئولي ووسائل إعلام البلدين، فيبدو أن أنقرة سيقت مُكرهة إلى معركة لم تتمنها في توقيت لا تفضله.


تأثير التدخل التركي



قرار تركيا إرسال قوات عسكرية إلي حليفتها قطر لم يكن سوى استباق لمعركة تتوقعها قريبا حال استسلام قطر لمطالب جيرانها وشروطهم

مؤكد أن الدولة التركية لديها حسابات سابقة معلقة لم تنسها مع دولة الإمارات، وكانت ستسعى لتسويتها بشكل أو بآخر، ولربما جاء الصدام هنا أبكر مما خططت له الإدارة التركية.

علي كل فدخول تركيا كطرف مباشر في المعادلة دعمًا لقطر سيمنح الإدارة القطرية خيارات أكثر ونفسًا أطول أثناء تفاوضها في شروط الهدنة وإيقاف الحصار مما كانت ستفعل لو ظلت وحيدة منبوذة بدون دعم مباشر من أي من جيرانها الإقليميين ممن لهم ثقل حقيقي، خاصةً بعد ما يبدو أنه تخلٍ سياسي أمريكي عنها، يحاول ترامب فرضه على مؤسسات أمريكية ترفضه.

كما أن الدعم التركي بجانب تلويح إيران بعرض خدماتها ودعمها على قطر في محاولة لإيجاد موطئ قدم جديد لها في الخليج سيجعل الطرف السعودي والإماراتي أكثر تعقلًا ربما، وسيساعدهما على إبعاد أفكار ومقترحات ذات عواقب سيئة، مثل التدخل العسكري المباشر لتغيير النظام القطري، كما تردد بعض الهمهمات الخافتة في المنطقة ويروج له بعض نافخي الكير ممن اعتادوا نشر أخبار عن انقلابات عسكرية في الداخل القطري خلال الأيام السابقة.