شارك نساءُ المغاربة في الوقف على
رواقهم بالأزهر الشريف، وتبرعت كثيرات منهن بأملاكهن من الدكاكين، والمخازن،
والورش، والمنازل، والقاعات، والأرض الفضاء، والحلي الذهبية، وغير ذلك من المنافع؛
مما آل إليهن بكسبهن وعرق جبينهن، أو بالميراث الشرعي؛ وجعلْن ذلك كله أوقافاً
ليصرف ريعها في صالح ومهمات رواق المغاربة وطلابه بالأزهر.

ويحتفظ ملف أوقاف «رواق السادة
المغاربة» بكثير من الحجج والوثائق الوقفية التي تُثبت -في مجملها- أن نساء
المغاربة قد شاركن بنسبة تصل إلى عُشر (1/10) إجمالي وقفيات الرواق خلال الفترة
الممتدة من منتصف القرن العاشر إلى منتصف القرن الخامس عشر الهجري تقريباً (السادس
عشر/العشرين الميلادي). وهذه النسبة قليلة إذا قارناها بوقفيات النساء، وبخاصة
أوقافهن على التعليم ومؤسساته وطلابه في أغلب مجتمعات الأمة الإسلامية. ففي مصر
مثلاً: بلغت أوقاف النساء المصريات على الأزهر الشريف 48% من إجمالي وقفياته في
منتصف القرن الخامس عشر الهجري (منتصف القرن العشرين الميلادي تقريباً).

ولعل السبب في انخفاض نسبة مشارك نساء
المغاربة في الوقف على الرواق هو أن أغلبهن كنَّ يُقمن من أزواجهن أو آبائهن أو
إخوانهن في القاهرة، وكن بعيدات عن أسرهن وعائلاتهن الممتدة، وبعيدات عن موطنهن
الأصلي في بلدان المغرب الكبير؛ الأمر الذي لم تتح معه لهن فرص كافية للعمل والكسب
وتكوين ثروات خاصة بهن، فيما عدا ما آل إليهن من عقارات ومنافع بالميراث الشرعي.

ويؤكد هذا: أن الدراسات المتخصصة في
أوقاف تلك البلدان تكشف عن أن مشاركة نساء المغاربة تكاد تساوي مشاركة نساء مصر
على سبيل المثال في الوقف على الأزهر الشريف. وهذا مبحث مهم يحتاج إلى مزيد من
التدقيق والتوثيق والمقارنة بين الخبرات الاجتماعية المختلفة في مجال الوقف على
المدارس والمؤسسات التعليمية بصفة خاصة.

وقد تنوعت الوقفيات التي خصصتها نساء المغاربة في مصر للرواق بين: أوقاف خيرية يصرف ريعها مباشرة على شئون هذا الرواق، وأوقاف أهلية، أو ذرية؛ يؤول إليه ريعها بعد انقراض الذرية.

من أقدم الوقفيات «الخيرية» التي اطلعتُ عليها -والتي كان ريعها يصرف مباشرة من يوم وقفها على رواق المغاربة- وقفية «الحُرمة: محسنة بنت يحيى العالي، زوجة الحاج مسعود الخروبي المغربي الطرابلسي»، وقد حررت حجة وقفيتها أمام محكمة الباب العالي بمصر، في غرة صفر 1099هــ/7 ديسمبر 1687م (ملف التولية رقم13927/1).

وكانت هذه الوقفية عبارة عن «جميع ما
هو جارٍ في تصرف الواقفة، وهو جميع الخلو، والسكنى، والانتفاع بالمكان الكائن بخط
البندقيين، برَبْع الدشيشة الكبرى…». وقد أنشأت الواقفة وقفها ليصرف أجرة ذلك
العقار من تاريخه في:

ثمن زيت وقود للسهارة التي برواق المغاربة بالجامع الأزهر… المتحصل ذلك في كل شهر، بعد أجرة وقفه الأصلي، وهو وقف الدشيشة الكبرى المذكور، وشرطت لنفسها النظر، ثم من بعدها لمن يكون شيخاً على رواق المغاربة.

وكان وقف
الدشيشة الكبرى يعتبر من أكبر الوقفيات التي تم تخصيصها لأهالي الحرمين الشريفين،
في العصر المملوكي. وقد أُنشئ وقف الدشيشة لأول مرة في عصر السلطان جقمق، وكان
معظم ريع هذا الوقف يصرف على الشئون العلمية. وفي العصر العثماني، قام السلطان
سليم الأول والسلطان سليمان القانوني بإضافة أعيان جديد لهذا الوقف. وفي 1588م أنشأ
السلطان العثماني مراد وقفاً جديداً لصالح الحرمين وعرف فيما بعد باسم الدشيشة
المرادية، وكانت له سُفن خاصة تحمل الغلال من مصر إلى بلاد الحرمين في كل عام.

ووقفت الحرمة
خديجة بنت أحمد، وابنها الشيخ زين الدين عبد الجواد المالكي «جميع المكان الكائن
بخط الداوداري بالقرب من الجامع الأزهر»، وجعلت ريعه من تاريخه مصروفاً على «السادة
المجاورين المغاربة القاطنين برواق المغاربة بالجامع الأزهر، واشترطت أن يكون
النظر على وقفيتها لمن يكون شيخاً على الرواق، ثم لمن يلي وظيفته، وعند أيلولته
للفقراء والمساكين يكون النظر لمن يقرره حاكم المسلمين الحنفي بالديار المصرية».
وتحررت حجة تلك الوقفية أمام محكمة الصالحية النجمية بمصر في 6 شعبان 1145هــ/22
يناير 1713م.

وأنشأت النساء المغاربيات المقيمات في
مصر أوقافاً جماعية، وليست فردية فقط،وكان ذلك في بداية الثلث الثاني من
القرن الثالث عشر الهجري/الربع الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، ومن ذلك ما
وقفته كل من: المصونة زينب خاتون الحمامي، والمصونة عائشة خاتون البارودي،
والمصونة سليمة خاتون بنت هارون، وثلاثتهن حررن حجة وقفيتهن أمام محكمة الباب
العالي بمصر في 5 رمضان 1235هــ/16 يونيو 1820م (سجلت برقم 389/5أهلي/ب – سجلات
وزارة الأوقاف). وكانت الوقفية عبارة عن: «حاصلين (مخزنين) كبيرين بخط الجامع
الأزهر، واشترطت الواقفات الثلاث أن يكون شيخ رواق المغاربة هو الناظر على
وقفيتهن، واشترطن أيضاً تخصيص جزء من الريع يصرف لثلاثة قراء من حملة كتاب الله
يقرؤون صبيحة كل يوم بمنزل المرحوم الشيخ الفيلالي (أو الفلاوي… الكلمة تكاد
تكون مطموسة في أصل حجة الوقفية التي اطلعت عليها)، فإن تعذر الصرف، يُصرف للفقراء
والمساكين من السادة المجاورين برواق المغاربة الواردين والمنقطعين والمترددين
بالرواق أبد الآبدين ودهر الداهرين».

وفي 15 محرم 1270هـ/ 18 أكتوبر 1853م،
أنشأت الحاجة رحمونة بنت أحمد المغربي المصراتي، وقفاً لجهة رواق السادة المغاربة
بالجامع الأزهر، وحررت بذلك حجة شرعية من محكمة القسمة العسكرية بمصر في التاريخ
المذكور (مسجلة برقم 92/1/أهلي قديم، بسجلات وزارة الأوقاف). وكانت وقفيتها تلك
عبارة عن: جميع أرض وبناء حانوت كائن بسوق الفحامين، وجميع أرض وبناء حانوت آخر
بسوق الفحامين ومعروف بسكن محمد الخطيب، وجميع أرض وبناء المكان المعروف بسكن جلال
أيوب، وكل هذه العقارات كانت أصولها جارية في «وقف سعيد السعداء»، وقد جعلت ريع
هذه الوقفية «مصروفاً بتمامه وكماله على السادة المجاورين برواق المغاربة، وفي
إقامة شعائر ومصالح ومهمات الرواق المذكور، المشمولة جهة وقف الرواق بنظر وتحدث
الشيخ محمد كمُّون». وكان الشيخ كمون من شيوخ الرواق على ما سيأتي في مقال آخر.

وقد اشترى الشيخ محمد التاجوري، شيخ الرواق فيما بعد، حانوتاً بمال متوفر من ريع الوقف وضمه إلى أصل وقف الحاجة رحمونة وأخيها الشيخ عقيلة، والحاج الناصري بن الزيني موسى، وذلك بموجب حجة شراء ووقف محررة أمام محكمة القسمة العسكرية بمصر في 4 ربيع الأول 1310هــ/26 سبتمبر 1892م. وكان وقف الحرمة زينب بنت سعيد الجوادي، يُدرُّ ريعاً سنوياً لرواق المغاربة قدره أربعة جنيهات مصرية، طبقاً لميزانية الأزهر في سنة 1962/1963م، حسبما ورد في كتاب: الأزهر تاريخه وتطوره (القاهرة: وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر، 1383هــ/1964م ص177).

أما مشاركات نساء المغاربة بوقفيات يؤول ريعها، بعد جيل أو جيلين، إلى «رواق المغاربة»، فكانت تلك الوقفيات بمثابة احتياطي مستقبلي لتمويل أعمال الرواق وتسيير شؤونه، وكانت الفترة بين إنشاء الوقفية، وأيلولة ريعها للرواق تطول وتقصر بحسب ظروف كل وقفية.

ومن تلك الوقفيات: وقفية «خديجة بنت
الشيخ محمد»؛ التي أنشأتها بموجب حجة محررة أمام محكمة بابي السعادة والخَرْق بمصر
في 21 رجب 1096هــ/23 يونيو 1685م، (مسجلة برقم 70/1 قديم – سجلات وزارة الأوقاف –
ملف رقم 3927/1). وكانت تلك الوقفية عبارة عن «جميع منفعة كامل الخلو السكني
والانتفاع بجميع الحانوت الكبرى، التي صارت حانوتين بسوق الجوخيين بالشارع الأعظم».
وقد أنشأت وقفيتها على ولد بنتها مدة حياته، ثم على ذريته ونسله من بعده إلى حين
انقراضهم، فإذا انقرضوا يؤول الريع لمصالح رواق السادة المغاربة، وإن تعذر الصرف
على الرواق، صرف للفقراء والمساكين من المسلمين أينما كانوا وحيثما وُجدوا.

وشبيهُ تلك الوقفية التي تؤول بعد مدة طويلة، وقفيةُ «الحاجة آمنة بنت منصور»، التي حررتها بموجب حجة أمام محكمة جامع الصالح أيوب بمصر في غرة ربيع الأول 1113هــ/6 أغسطس 1701م (مسجلة برقم 65/1 قديم – سجلات وزارة الأوقاف). وكانت عبارة عن منفعة خلو وسكنى وانتفاع نصف حانوت، وجعلت حصة من الريع لقراءة قرآن كريم، وباقي الريع لأخيها، ثم لأولاده ونسلهم وعقبهم إلى حين انقراضهم، فإذا انقرضوا كان الريع لمصالح رواق السادة المغاربة بالأزهر الشريف.

ومن الوقفيات التي كانت تؤول للرواق
بعد مدة قصيرة نسبياً، وقفية «الحاجة خديجة بنت الحاج عبيد النحاس»، التي حررتها
بموجب حجة شرعية أمام محكمة جامع الصالح بمصر في 20 ذي القعدة 1174هــ/23 يونيو
1761م (مسجلة برقم 80/1/قديم – سجلات وزارة الأوقاف). وكانت وقفيتها عبارة عن
قاعتين ومنافع ومرافق وحقوق، وما استجد من الأبنية بالقاعتين، على نفسها، ثم من
بعدها يكون الريع لرواق السادة المغاربة، فإن تعذر يصرف للفقراء والمساكين.

ومن تلك الوقفيات أيضاً، وقفية «الحرمة
فاطمة بنت الحاج محمود الصَّراف» بخط باب الشعرية، وقد تحررت بشأنها حجة تَصادُق
تتعلق بوقف الحاج منصور الدَّلال بن علي البنهاوي، الآيل لرواق المغاربة، وتم
التصادق بحضور شيخ رواق المغاربة زين الدين أبي الحسن المغربي، وخمسةِ أشخاص آخرين
من أهل الصنائع والحرف بالقاهرة، وتم ذلك أمام محكمة القسمة العربية بمصر في 16
جمادى الأولى 1180هــ/20 أكتوبر 1766م، ونصت حجة التصادق على أن يكون للحرمة فاطمة
المذكورة «حق الخلو والسكنى مدة حياتها فقط، ثم بعد موتها يكون وقفاً مصروفاً ريعه
على السادة المغاربة المجاورين بالأزهر».

وحرَّرت «الحرمة فاطمة بنت مصطفى» حجة وقفية أمام محكمة الباب العالي بمصر في 14 صفر 1221هــ/3 مايو 1806م، وكانت عبارة عن نصف «مكان» بخط الأزبكية داخل درب القزازين بالقاهرة، وجعلت الريع لنفسها، ثم لسيدةٍ تابِعتها، ثم لأولادها وذريتهم إلى حين انقراضهم، فإذا انقرضوا آل الريع إلى رواق السادة المغاربة المجاورين بالأزهر.

أسهمت وقفيات نساء المغاربة في توفير التمويل اللازم لتسيير شؤون رواق المغاربة مئات السنين، وزادت أصولها بمرور الزمن، وكان مقصدهن الأعظم من التصدق بتلك الوقفيات هو القرب من الله تعالى والتطلع إلى حسن ثواب الدنيا بالمساعدة على نشر العلم وإكرام أهله، وحسن ثواب الآخرة والفوز بالجنة.