ماذا يتبادر لذهنك عند سماع اسم «دييجو مارادونا»؟!

ربما هدفه يوم كسر كبرياء الإنجليز، أو صورته الشهيرة بمواجهة 6 من لاعبي بلجيكا، لعلك أعدت مشاهدة أحد أهدافه الخرافية مع نابولي، أو حتى تذكرت صراخه بعد هدف اليونان، لكن بحالتي يبدو الأمر مختلفًا نوعًا ما، وربما هو أيضًا مختلف لأغلب هؤلاء الذين ولِدوا أثناء أو بعد اعتزال الملك الأرجنتيني، لكل مواليد التسعينيات الذين سمعوا عن «دييجو» قبل أن يروه.

الأمر يرتبط دومًا بذاكرة والدي عن لاعبه المفضل، عن طيف ملون من الذكريات يتجاوز كرة القدم ليشمل أصدقاء وشخصيات وأماكن ومواقف وأحداثا ذاتية بعينها كان «مارادونا» جزءًا أصيلًا منها عبر سنوات مسيرته، وبالتالي كان اسم «دييجو» أول ما ارتبط عندي بلا أي وعي بقيمة لاعب الكرة وانعكاس ما يقدمه في ذاكرة ونفس الإنسان، تخطى الأمر مجرد ملاحظة هذا التأثير بذاكرة والدي عندما أدركت أنه فقد اهتمامه بالكرة العالمية بعد اعتزال «مارادونا».

هذه الحالة التي صنعها ملك بلاد الفضّة برع شاعر فلسطين «محمود درويش» في صياغتها بمطلع مقال فريد كتبه خصيصًا في مدح «مارادونا»، إذ

يقول «درويش»

: «ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟ مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهرا تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟».

لجأ «درويش» لصيغة الجمع واستخدام معاني ألفاظ كنسهر، نعلّق، نأنس ونتحمس، ليرسم لنا الصورة التي كان شاهدًا عليها حين يجتمع الناس حول التلفاز منتظرين «دييجو» بعد أن كيفوا جدول يومهم من أعمال ومهام بحيث لا يعيقهم شيء عن مشاهدة الرقم 10 الأرجنتيني، وهو يصول ويجول بمونديال 1986! واليوم بعد مُضِي 31 عاماً على كأس عالم المكسيك نحتفل بعيد ميلاد الملك السابع والخمسين، ونحاول أن نستكشف مسيرة اللاعب التي لا تزال تحتفظ بأسرار وخبايا ليس من خلال الأرقام والإحصائيات ومقارنة الأسماء، ولكن استكشاف من خلال كلمات ووصف «محمود درويش»!


355 يوما

له وجه طفل، وجه ملاك

له جسد الكرة..

له قلب أسد!

له قدما غزال عملاق..

لو كان «درويش» أحد هؤلاء الحضور بمدرجات مباراة فريقي: أرجنتينا جونيورز، وتاليريس كوردوبا في البطولة الأرجنتينية التي شهدت

الظهور الأول لـ«دييجو»

بمباراة رسمية عام 1976 وكان عمره آنذاك 15 عاما و355 يوما لما اختار كلمات أفضل من تلك التي أفردها بمقاله المذكور!

الطفل صاحب الوجه الملائكي ظهر على دكّة جونيورز في تصعيده الأول بعد أن سرق انتباه مدربيه قبل سبعة أعوام ماضية بفضل قدرته الفائقة على التحكم وترويض الكرة، سواء على الأرض أو في الهواء،

يقول «فرانشيسكو كورنيثو

» مدرب ناشئي أرجنتينا جونيورز وأول عين التقطت الطفل «دييجو» إنه أتى للمرة الأولى رفقة أحد أصدقائه لتدريبات الفريق وكان عمره لا يزال ثمانية أعوام، ويمتلك بنية جسدية بسيطة، لكن الانطباع الحقيقي عنه يبدأ حالما تلامس الكرة وجه قدمه اليسرى ليبدأ مراوغة زملائه الأقوى ثم الأكبر ويحطم توقعات كل المدربين مع كل مهمة جديدة يوكلونها له.

مع نزول أي مدرب لتدريبات الناشئين، كان يسألني بعد عشر دقائق: كورنيثو كم عمر هذا الولد؟! فأجيب: ثمانية، بالطبع المدرب لا يصدق فينادي على دييجو: كم عمرك؟ ولا تكذب.. مستحيل ثمانية فقط!





فرانشيسكو كورنيثو.

يقول «فرانشيسكو» إن فترة طفولة «مارادونا» انتهت سريعًا، لقد كان صغيرًا عندما شارك كبديل بمباراة تاليريس كوردوبا التي

يتذكرها جيدًا «خوان كابريرا»

المدافع الذي راقب الصغير، فما كان من الصغير إلا أن مرر الكرة بين أقدامه بعد دقائق من نزوله!

«مارادونا»، كأغلب أبطال أمريكا الجنوبية، نشأ في بيئة فقيرة مهمشة في أسرة تبحث عن قوت يومها، كانت أحلامه تتمثل بشراء منزل لأمه، واللعب لبوكا جونيورز، وتمثيل منتخب بلاده، كانت تلك هي الدوافع التي قادت الملك لتسجيل 116 هدفا فقط بـ168 مباراة على امتداد خمسة مواسم قضاها بقميص أرجنتينا جونيورز، بل حمل شارة قيادة الفريق قبل أن يتم 21 عامًا؛ الطفل ذو الوجه الملائكي بات له جسم الكرة وقلب الأسد!


بومبونيرا

يراوغ كالثعلب المزوّد بقوة ثور، ويقفز كالفهد على حارس المرمى الضخم المتحوّل إلى أرنب: جووول!

في طريق «جاري لينكر» لملعب نادي بوكا جونيورز حيث

كان يصور وثائقيا

عن «مارادونا»، فوجئ الإعلامي الإنجليزي بالرسومات البديعة للملك التي انتشرت على جدران المباني المحيطة ليسأل «دييجو» عن أجواء البومبونيرا، فيجيب الأخير: «لا تُقارن.. لا تُقارن».

«لا بومبونيرا» ليس الاسم الفعلي للملعب الجماهيري ذائع الصيت، بل تلك كلمة لاتينية تعني «صندوق الشوكولاتة» في إشارة للكرة الجميلة والأداء الممتع، لكن رواد بوكا كانوا على موعد مع مذاق خاص عندما دخل «مارادونا» ملعبهم للمرة الأولى عام 1981 كلاعب ضمن صفوف النادي الأرجنتيني العريق بعد صفقة

بلغت مليون باوند.

حظي «دييجو» بحفاوة جماهيرية تعجز الكلمات عن وصفها حتى ذهبت «سكاي سبورت» بعيدًا ووصفتها بالقوة الروحية، وفي المقابل تأكدت الجماهير الأرجنتينية خلال هذا الموسم أنها باتت تملك بطلًا أسطوريًا في طريقه نحو الصعود.

«مارادونا» بقميص بوكا أسرع وأمهر وأقوى وأكثر قدرة على تفادي ضربات الخصوم لكن الملفت هو أنه كان حاضرًا حينئذ بكامل طاقته أثناء اللعب وفي الاحتفال، كان فعليًا يعيش حلمه بأن يصير بطلًا لبوكا جونيورز التي لعب لها 40 مباراة سجل فيهم 28 هدفا من أجمل ما شهد صندوق الشوكولاتة من أهداف، تحول لثعلب وثور وفهد في آن واحد؛ لكن من قال إن الأحلام تدوم؟!

دييجو مارادونا.

يقول «مارادونا» الذي ودّع البومبونيرا باتجاه الكامب نو بعد أن مر بذكرى مؤلمة في مونديال 1982 بإسبانيا بعد أن أقصى العدو اللدود السليساو منتخب بلاده من البطولة في مباراة شهدت كارتا أحمر في وجه «دييجو». حصل برشلونة علي «مارادونا» نظير 5 ملايين فقط، وبعد 34 عاما حصل على «أندريه جوميش» بـ35 مليونا؛ ما أبعد الليلة عن البارحة!


نابولي يا عمري

لم يكترث في صباه بشاشة السينما والتلفزيون. ولكنه احتل الشاشة ليشاهده أكثر من ملياري إنسان، كما ترنو العيون إلى نجم في السماء ـ بقدميه. لقد رفعته الكرة، وارتفع بها، إلى أعلى أعالي الكلام.


في تحقيق أجرته

صحيفة نيويورك تايمز عام 2003 بالجنوب الإيطالي تستكشف فيه مدى شعبية «مارادونا» هناك، قابل المحرر الأمريكي مشجعا مخضرما لنابولي يُدعى «مونتوري» الذي أجاب عن الأسئلة قائلًا: اليوم يعيش في نابولي ما يقارب 3 ملايين شخص، أكثر من مليونين منهم يحتفظون بصور لـ«دييجو» في غرفهم وعلى مكاتبهم، يستكمل «مونتوري» بأنه لم يتردد لحظة عند تسمية مولوده الأول «دييجو أرماندو» تيمنًا بالملك الذي يعيش فعليًا فيهم.

«مونتوري» لم يكن الاستثناء على كل حال، فقد أقدم كثير من الأسر على تسمية أبنائها تيمنًا بالأرجنتيني، خصوصًا بعدما استقبله 75 ألف مشجع بحفل تقديم الشاب صاحب الـ24 عاما الذي سيصبح أسطورتهم وقديسهم ورمزا لآمال وآلام المدينة الجنوبية في وجه مركزية العاصمة وأموال الشمال! وصل «دييجو» لنابولي عام 1984، بعد تجربة لم يُكتب لها التوفيق في برشلونة، وسط أجواء أحس ناحيتها بألفة وانتماء، المدينة الجنوبية الفقيرة تمكنت من شراء أغلى لاعب بالعالم بعد ثلاث سنوات من التنسيق والأعمال البنكية، لتنعقد آمال المدينة على «مارادونا» لتحقيق شيء.

لم يكن تحقيق الإسكوديتو الإيطالي مجرد شيء، بل حلما بعيد المنال، لا ينحصر فقط على إضافة بطولة السيري أيه الأولى بعمر الفريق الجنوبي، بل يشمل دلالة تحدي الفقر ورفض التهميش والتوحد حول إنجاز واحد، كما يساهم في حركة اقتصادية أنعشت خزائن تجّار المدينة الذين كانوا يستقبلون زوارا لمشاهدة نابولي «مارادونا» كل أسبوع، فتولدت صناعة طباعة اسم وصورة الملك على أي وكل منتج موجود!

أحب الأرجنتيني تلك الحالة، كان يعيش ملحمة خاصة يرى أثرها يمتد مع كل جولة يقترب فيها نابولي بحسم سكوديتو موسم 1986-1987 حتى وصلت للسفر بأعداد كبيرة وساعات طويلة خلفه بمباريات الذهاب للهتاف له، ورفع علم الأرجنتين لجانب صورة «جيفارا»، «مارادونا» كان يهنأ بشعور من الارتياح والسلام الداخلي، في التدريبات يرقص ويصرخ ويغني ويمازح الكل، ويدخل المباريات بشارة القيادة ويبدأ ببث الحماس في نفوس زملائه ويرعب خصومه بتسديدات.


الملك احتل شاشة الجنوب عندما قادهم للفوز بالإسكوديتو الثاني على التوالي، وأجبر العالم على تأمل ما تعرضه تلك الشاشة

عندما أطاح

بـشتوتجارت بنهائي الكأس الأوروبية موسم 1988-1989 قائدًا نابولي إلى خريطة المنافسة الأوروبية ومرتفعًا بكرة القدم حقيقة لا مجاز إلى أعلى أعالي الكلام.


مع لاعب النرد

كانت الأرجنتين كلها تتهاوى، لذلك لم تتحمل بوكا عرض برشلونة المُغري، فرحلت

لم يشغل عقل «محمود درويش» وهو يكتب مقاله الذي أشرنا إليه ونستنبط منه معاني من جمل معينة سوى ما قدمه «مارادونا» بمونديال 1986: أحد أهم المحطات بمسيرة الملك.


يقول «مارادونا»

إن عظمة كأس العالم بالمكسيك تأتي في عدم رهان الأغلبية على قدرة الأرجنتين بالمنافسة، بل يرى أنه هو نفسه لم يكن قبل البطولة بقوة «بلاتيني» مع فرنسا أو «زيكو» في البرازيل، لذلك فإن التحوّل الذي صنعه المونديال كان فريدًا بمسيرته. الأرجنتين قدمت أداءً متطورًا خلال البطولة، فريق يدور حول «مارادونا» ويثق فيه ويحاول أن يمنحه مواقف قوة، إلى أن جاءت اللحظة التي شحنت طاقتهم وجعلتهم أمام مسئولية تاريخية.

قُدِر لمنتخب التانجو مواجهة إنجلترا بربع النهائي، البلد الذي خاض حربًا على الأرجنتين قبل 4 أعوام من بطولة المكسيك وقتل أبناء شعبهم في مغامرة استعمارية، يشرح «دييجو» بأن لاعبي الأرجنتين تملكتهم حماسة خاصة ضاعفت من جهودهم واستعدادهم بالتدريبات، كانوا جميعًا على علم بأن لاعبي إنجلترا لم يتورطوا بقتل أحد من أبنائنا، لكنهم بالنهاية يرتدون قميص البلد الذي قتل واعتدى علينا.

«نعم لقد سرقتهم كاللص، سرقت أموالهم من جيوبهم»، لم يعد الملك يخجل مطلقًا عند الحديث عن هدفه الأول بمرمى الإنجليز، بل بات يشرح بأدق التفاصيل كيف تحرك وقفز وأخفى يده خلف شعره الكثّ التي قادت الكرة لشباك الإنجليز.

لكن لاعب النرد «درويش» كان يقصد هدفه الثاني الذي تحول أثناءه لقطار لا يُوقف، ولصاروخ يعجز الكل عن مجاراة قوة حركته وهو يتغول داخل دفاعات الإنجليز مراوغًا أكثر من نصف الفريق وحده ومحرزًا هدفًا بات يحمل توقيع وعلامة «مارادونا» الخاصة، هدفا سيحوله لبطل قومي قبل حتى أن يكتسح بلجيكا بنصف النهائي ويصنع هدفا حسم المونديال أمام الألمان.

لا يتذكر العالم غارة الإنجليز على جزيرة بلاد الفضّة ولا تهتم الأغلبية بمعرفة تفاصيل الغارة وأسبابها وكيف انتهت، لكن الكل لا يزال يشاهد ويحكي قصة هدف الملك الذي أذل به خصمه وأطلق العنان لـ«درويش» ليقول: «وستربح إنجلترا المغرورة الحرب مرتين. ولكن مارادونا يتقدم بالكرة من حيث تراجعت السلطة، مارادونا يعيد الجزيرة»!