في يوم السبت، الرابع عشر من يونيو/حزيران عام 1800، وقعت نادرة عجيبة، استطاع طالب أزهري أن يخدع المخابرات الفرنسية وعسسها، ويتجاوز الحراسة المفروضة على مقر قيادة جيش الاحتلال الفرنسي، ويتسلل إلى حديقة قصر الجنرال كليبر، ومن «مسافة صفر» يغرس خنجره في صدره.

فعل سليمان الحلبي ما عجزت عنه جيوش أوروبا والعثمانيون وفرسان المماليك، وبفعله تسارعت خطوات الاحتلال الفرنسي للرحيل.

رغم مرور أكثر من مائتي عام ما زال سليمان باقياً في وعي الأمة. لكن بطولة سليمان يحاول بعض المؤرخين النيل منها. بعضهم يزعم أنه «قاتل مأجور» من قِبل العثمانيين، لقتل الجنرال الفرنسي كليبر مقابل رفع الضرائب عن والده تاجر السمن والزيتون في حلب، ومقابل مادي قدره 40 قرشاً تركياً.

لن نناقش تلك الفرضية، إنما نناقش هنا الرؤية التي يقدمها أستاذنا الدكتور عماد هلال، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعتي قناة السويس بمصر والملك فيصل بالسعودية، بأن سليمان بريء من قتل كليبر، وأنه شهيد العدالة الفرنسية المزعومة. وقد نشر بحثاً بعنوان «

محاكمة جديدة لسليمان الحلبي

» في مجلة «مصر الحديثة»، المجلد 20، العدد 20، ص 9 – 68، يعرض فيها فرضيته. والدكتور عماد هلال قامة كبيرة في التاريخ، وهو صاحب الموسوعة الكبرى عن «

الإفتاء المصري: من الصحابي عقبة بن عامر إلى الدكتور على جمعة

».

مؤامرة مينو للخلاص من كليبر

يرى الدكتور عماد هلال أن كليبر ذهب ضحية مؤامرة دبرها الجنرال الفرنسي مينو، حسماً للخلاف بينهما حول الجلاء أو البقاء في مصر. فالحملة الفرنسية حُوصرت في مصر وانقطعت بها السبل مع إغراق الأسطول الفرنسي في موقعة أبو قير البحرية، في أغسطس/آب 1798، وتبددت سريعاً أوهام بونابرت بأن الأهالي سوف يستقبلونه بالورود باعتباره المُحرِّر الأوروبي من ظلم المماليك.

من أول يوم وطئت الحملة شواطئ الإسكندرية وهي تلاقي مقاومة مجيدة من الأهالي. كان أهل مصر أواخر القرن الثامن عشر الميلادي أكثر ذكاءً من أهالي إيطاليا الذين انخدعوا بشعارات الثورة الفرنسية (الحرية والإخاء والمساواة)، فاستقبلوا الفرنسيين استقبال المُحررين، ثم أفاقوا على كابوس مُفزع، فالفرنسيون يعتصرون جيوبهم وينهبون ثرواتهم الفنية ويشحنونها إلى متاحف باريس.

مع غرق الأسطول الفرنسي ومقاومة الأهالي وفشل اصطناع نخبة محلية تحل محل الفرنسيين في الإدارة، ترسّخ لدى بعض القادة الفرنسيين عدم جدوى استمرار الحملة العسكرية. وقد تعمّق هذا الاتجاه بعد الإخفاق المزري للحملة في احتلال الشام، فرحل بونابرت سراً تحت جنح الليل إلى فرنسا لتدبير انقلاب على حكومة الإدارة في باريس، وترك قيادة الحملة في أيدي كليبر.

كليبر من الفريق المؤيد للجلاء، يُقابله الجنرال مينو المؤيد للبقاء، الذي تراوده أحلام إقامة مستعمرة فرنسية على ضفاف النيل، دون أن يملك مقومات البقاء.

وقّع كليبر اتفاقية للجلاء مع العثمانيين في يناير/كانون الثاني 1800، قابلها مينو بالرفض. تقدمت قوات العثمانيين إلى القاهرة تنفيذاً لبنود الاتفاق، لكن الإنجليز طلبوا استسلام الجيش الفرنسي كأسري حرب، ذلك أن بقاء جيش الحملة مُحاصراً في مصر خير من انضمامه إلى جبهات القتال في أوروبا ضد الحلفاء.

وبسبب نقض الاتفاق وقعت معركة «عين شمس»، وفي بضع ساعات هزم كليبر قوات العثمانيين التي كانت قد تقدمت لدخول العاصمة. لم يهنأ كليبر بهذا الانتصار السريع، فالقاهرة اشتعلت ثورة، وقاتل أهلها قتال الأبطال، من بيت إلى بيت، قرابة خمسة أسابيع.

لم يستطع كليبر إطفاء ثورة القاهرة إلا بعد إحراق المدينة، وتسوية حي بولاق بالأرض. ورغم الانتصار الوحشي، اتصل كليبر بالوزير العثماني يعرض استئناف مفاوضات الرحيل. ولوقف مشروع الجلاء دبّر الجنرال مينو –كما يري الدكتور عماد– مؤامرته وقتل كليبر.

مينو: قائد منزوع الكفاءة

قبل أن نُفنِّد الأدلة التي يقدمها الدكتور عماد على براءة سليمان من قتل كليبر، نجاوب على سؤال مهم: هل كان مينو قادراً بالفعل على اغتيال كليبر؟

هو جاك فرانسوا دي مينو Jacques Fracois de Menou، ينتمي إلى عائلة فرنسية نبيلة، من مواليد 1750، تطوّع في الجيش الفرنسي. شارك في الحروب الأهلية الفرنسية، وفيها ظهر عجزه وقلة درايته بفنون القتال، فألحقَ به الثوار هزائم فادحة، لينتهي الأمر بإخراجه من الجيش في 12 سبتمبر/أيلول 1794.

ومع التقلبات السياسية التي عاشتها باريس، عاد إلى الجيش، لكن في اضطرابات أكتوبر/تشرين الأول 1795 فشل في الدفاع عن «المؤتمر الوطني» الذي يحكم باريس أمام هجوم الثوار المطالبين بالخبز والتراجع عن الدستور الذي وضعته حكومة الإدارة.

عُزل مينو مرة أخرى، وعُين بدلاً منه نابليون بونابرت، فقمع الثوار بالمدافع، ثم تدخّل وطلب العفو عن مينو، فحفظ له جميله هذا طيلة حياته. ظل مينو بلا عمل منذ تبرئته في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1795 حتى استدعاه بونابرت في مايو/أيار 1798 ليُشاركه الحملة العسكرية على مصر، وعيّنه قائد فرقة.

[1]

رغم أن مينو كان قائد فرقة فإنه لم يقد أي فرقة حربية في مصر. سجله الحربي يخلو تماماً من المعارك. اشترك في إنزال الجنود بالإسكندرية وجُرح وهو يتسلق أسوار المدينة بعد إصابته بحجر، «وليست الإصابة بجرح بالضرورة دليلاً على الكفاية الحربية» كما يقول المؤرخ الأمريكي «كريستوفر هيرولد».

[2]

في رشيد، عاش أوهام تأسيس إمبراطورية فرنسية على ضفاف النيل. أعلن دخوله الإسلام، وتسمّى باسم «عبد الله جاك مينو»، مُتوهِّماً أن تغيير الاسم كفيل بخداع أهل مصر فيتغاضون عن حرقه للقرى وقتله للفلاحين.

تصادم مع كليبر حول الجلاء. وبعد مقتل كليبر لم يُظهِر كفاءة حربية للحفاظ على مصر، حتى إن الجنرال «لانوس» أهانه قبل أن يلفظ أنفاسه بعد إصابته في معركة «كانوب» بالإسكندرية، فقال إنه لا يصلح أن يكون «مرمطون» يُقشِّر البصل في مطبخ الجمهورية.

[3]

الاستعراض السابق للسيرة الحياتية والحربية للجنرال مينو يُبيِّن أن سجله الحربي والإداري سلسلة متواصلة من الفشل، فهل جنرال بهذه المواصفات قادر على تدبير قتل كليبر؟

أدلة براءة سليمان والرد عليها

يري الدكتور عماد هلال أن إدانة سليمان تنحصر في خمسة أدلة:

1. اعتراف سليمان

يُشكِّك هلال في اعترافات سليمان، خصوصاً وأن الاعتراف يعني قطع الرقبة على أقل الفروض، ويستند إلى أن سليمان قد تحمل التعذيب خلال إعدامه، من حرق يده اليمني، ثم وضعه على الخازوق، «فإذا كان سليمان قد تحمّل الحرق ولم يصرخ أو يتألم بشهادة جنودهم، فهل نقبل قولهم إنه اعترف بمجرد ضربة بضع عصيات؟ا لا شك أن اعتراف سليمان هو محض اختلاق من الفرنسيين».

الرد: يرفض الدكتور عماد كامل أقوال سليمان، لكننا نوافق على الاعترافات التي قال فيها سليمان إنه جاء من الشام إلى القاهرة «للمغازاة في سبيل الله»، فلا يمكن أن يضع الفرنسيون هذه الكلمة من عندهم على لسان الحلبي، ونرفض في المقابل الرواية المهلهلة التي اختلقها الفرنسيون بأن العثمانيين هم منْ كلّفوا سليمان بقتل كليبر مقابل الحصول على 40 قرشاً.

2. شهادة بروتان

يُلقي الدكتور عماد هلال ظلالاً من الشك حول شهادة المهندس بروتان، الشاهد الوحيد على حادثة الاغتيال، إذ كان برفقة الجنرال كليبر. ودليله أن بروتان «لم يكن في حالة صحية تسمح له بالتعرف على القاتل. يظهر ذلك بوضوح من قراءة التقرير الطبي الذي حرّره، دجنت، كبير أطباء الجيش الفرنسي، وكازابيانكا، كبير الجراحين، ومنه نتبيّن أن بروتان قد تلقي ست طعنات قاتلة، وهي بهذا الترتيب؛ الأولى: طعنة غير نافذة سلخت الجلد وقطعت عرق الصدغ الأيسر، الثانية: طعنة في الكف كسرت عظمة الأصبع الخنصر، الثالثة: طعنة بين الضلوع من الناحية اليسرى، الرابعة: طعنة في البطن من الناحية اليسرى، الخامسة: طعنة في شدقه الأيسر، السادسة: طعنة في الصدر من الناحية اليسرى شقت أحد شرايينه».

ويقول الدكتور عماد، إن التقرير الجراحي «تجاهل تحديد يد بروتان التي جُرحت وكُسر إصبعها، والراجح أنها كف يده اليمني التي كان يصد بها ضربات القاتل، ولكن التقرير تجاهل –أو حُذفت منه العبارة الخاصة بذلك– تحديد اليد المصابة، لأنهم زعموا لاحقاً أن بروتان سلّم شهادته للمحكمة مكتوبة، فكيف كتبها ويده مجروحة؟! وإن كان قد أملاها فكيف نطق وشدقه مطعون وخده مسلوخ؟». ويضيف هلال أن التقرير تجاهل «توصيف حالة بروتان إن كانت خطيرة أو يرجي شفاؤه».

الرد: يُرجِّح الدكتور عماد إصابة اليد اليمنى للمهندس الفرنسي باعتبار أنها «اليد التي كان يصد بها ضربات القاتل». بيد أن استطلاع باقي إصابات بروتان يبين أنها تركزت في الجانب الأيسر من جسمه، وهذا منطقي باعتبار أن سليمان كان يمسك بالخنجر في اليد اليمني، فيما كان بروتان يضربه بالعصا التي يمسك بها في يده اليمني، بما يعني ترجيح إمكانية أن يقوم بروتان بكتابة شهادته بيده اليمني، كما يمكن أن يكون قد أدلى شهادته مشافهة، فالجرج الذي في وجهه كان تحت الخد الشمال، ويبدو من وصفه أنه غير غائر.

يستكمل الدكتور عماد أدلته الظنية فيقول إن بروتان قد سقط فاقداً للوعي، وظل ينزف من جروحه الستة وشرايينه المقطوعة لأكثر من ست دقائق، وهي فترة كافية لينزف دماً يكفي لموته، ومع ذلك يذكرون أنه أفاق وتعرّف على سليمان الحلبي بعد ساعة من الحادثة، «والحقيقة أن جروحه كانت خطيرة جداً، ولم يكن هناك أمل في إنقاذ حياته إلا بعد ثلاثة أيام من الحادثة. فيكف إذن تعرف على سليمان وهو في تلك الحالة؟!».

الرد: إذا كان مينو هو الذي خطّط للتخلص من كليبر، فلماذا لم يتخلص من بروتان؟! لماذا يرسل شخصين فقط لاغتيال قائد الحملة الفرنسية ومرافقه المهندس بروتان ولا يرسل عدداً أكبر من القتلة كي يضمن وأد أي دليل يمكن أن يفضحه، بخاصة أن كشف العملية يعني وصمه بالخيانة وإعدامه رمياً بالرصاص؟!

كذلك لا نعلم المدة التي بقي فيها بروتان فاقداً للوعي، ففاقد الوعي لا يمكن أن يُحدِّد المدة التي غاب فيها عن الدنيا، وقد أهمل محضر التحقيق بيان المدة التي انقضت بين عملية الاغتيال واكتشاف الحراس لها.

ويقول الدكتور عماد إن بروتان ظل ينزف من جروحه الستة وشرايينه مقطوعة لأكثر من ست دقائق، لكن محضر التحقيق لا يذكر شيئاً عن نزيف في الشرايين. النص العربي الذي أورده الجبرتي يتحدث عن قطع في العرق وليس في الشريان، كذلك النص العربي في «مجمع التحريرات»، وترجمة النص الفرنسي في المجلد الخامس من مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، 1949، تقول العرق وليس الشريان. وبالطبع هناك فارق كبير طبياً بين قطع في العرق وقطع في الشريان.

3. شهادة جنود الحراسة

يُشكِّك الدكتور عماد هلال في الحراسة التي كانت مفروضة على كليبر فيقول:

المؤكد أنه كان هناك عشرات الجنود والضباط والياوران (الحارسان) المعينين لحراسة دار القيادة والقائد العام، ومراقبة كل الذين يقتربون منه أو يتتبعونه. غير أن منشور المحاكمة لم يُظهِر سوى اثنين منهم، هما الجنديان اللذان قبضا على سليمان، وقد وصفهما بأنهما من ملازمين بيت صاري عسكر. والسؤال هو: أين بقية الملازمين؟ لا توجد أي معلومات عنهم، رغم أن سليمان بحسب شهادة بعضهم تتبع الجنرال ودخل وراءه دار القيادة، وسار في أثره من حجرة إلى حجرة، ثم إلى الحديقة، وأخيراً شكّ فيه أحد الياوران فطرده، فإذا كان الأمر كذلك، وشكّوا فيه، فلماذا لم يقبضوا عليه ويحققوا معه؟

لابد أن هذا الإهمال الكبير من حراس كليبر كان يستدعي التحقيق معهم وهو ما لم يحدث، لأن الحقيقة أن سليمان لم يدخل دار القيادة أصلاً، وأن القاتل كان من بين حراس كليبر، فقد ذكر بروتان أنه وكليبر بقيا بعد طعنهما لأكثر من ست دقائق قبل أن يحضر أحد من الحراس لنجدتهما وهو أمر مريب، فالمفروض أن يحضر الحراس على صرخات كليبر وبروتان التي من المؤكد أنها كانت عالية بدرجة تكفي لأن يسمعها كل أهل الأزبكية، ولكن الحراس تباطؤوا في الحضور.

الرد: تسلّل سليمان إلى مقر قيادة الجيش الفرنسي مُندساً وسط العمال الذين يعملون في ترميم قصر «محمد الألفي» من ضربات ثوار ثورة القاهرة الثانية، بما يعني اختراقه للحراسة المفروضة على المقر، لتبقى أمامه الآن الحراسة الداخلية. غرّس سليمان خنجره من المسافة صفر في صدر كليبر في الرواق المُظلل بالعنب الواصل بين قصر الجنرال دماس (حيث كان يتناول طعام الغذاء مع قادة الحملة) وقصر محمد الألفي، وهي منطقة مثالية لتنفيذ عملية الاغتيال.

بالنسبة للصوت، أصابت الضربة الأولي لسليمان قلب كليبر، فكانت القاضية. بعدها اشتبك في صراع مع المهندس بروتان. سليمان يحمل الخنجر وبروتان يدفع عن نفسه الموت بضرب سليمان بعصا غليظة.

يستكمل الدكتور عماد:

لو كان سليمان هو القاتل لهرب بعيداً، وقد كان لديه متسع من الوقت يكفي لكي يخرج من منطقة الأزبكية جميعها، فلا شك أن الركض لمدة ست دقائق تكفي للابتعاد مسافة كليومترين أو أكثر، بينما منطقة الأزبكية كلها لا تزيد مساحتها على كيلو متر مربع واحد. ولكن ما حدث أن سليمان كان ماراً في الطريق بالمصادفة حيث قال «إنه ما انمسك في الجنينة (الحديقة) بل في عارض الطريق». ولم يهتم سارتلون، موضع ثقة مينو، الذي قام بكل أعمال التحقيق وتحرير التقرير النهائي بمفرده، لم يهتم بسؤال الحارسين عن مكان وجودهما وقت الحادثة، وكيف علما بها، هل سمعا الصيحات، فهرعا إلى مصدرها، أم لاحظا اختفاء القائد العام فبحثا عنه، لا يوضح منشور المحاكمة أي شيء عن ذلك.

الرد: يتغافل الدكتور عماد عن الحالة النفسية التي يكون عليها الغازي المنفرد، فهو يضرب ضربته ولا يهمه بعد ذلك ما يحدث. لنأتي بقرينة على ما نقول. ففي 19 فبراير/شباط 1910 أطلق إبراهيم الورداني –العضو بالحزب الوطني وجمعية التضامن الأخوي الفدائية– 6 رصاصات على رئيس الوزراء بطرس غالي، ثم وقف مكانه ولم يهرب، وكان يستطيع الفرار، في حماية مسدسه و24 رصاصة في جيبه، ولم يتردد في ركل حاجب صفعه على وجهه، وحاول حسين رشدي (1863-1928) ضربه، وسأله خانقاً لم قتل رئيس الحكومة؟ فأفحمه الشاب: «قتلته لأنه اختار أمثالك للنظارة».

[4]

أيضاً قتل سليمان كليبر في مقر قيادة الجيش الفرنسي وليس في ميدان عام لكي يولي هارباً. هناك أسوار عالية للقصر كما تظهر في الرسوم الواردة لنا من علماء الحملة الفرنسية.

ونتفق مع الدكتور عماد في أن المحقق الفرنسي لم يهتم بسؤال الحارسين عن مكان وجودهما وقت الحادثة، وكيف علما بها، هل سمعا الصيحات، أم لاحظا اختفاء القائد العام فبحثا عنه.

4. شهادة حارس كليبر

يقول الدكتور عماد، إن شهادة ديفوج حارس كليبر دليل نفي للتهمة عن سليمان لا دليل إدانة، فقد شهد بأنه شاهد سليمان يتتبع الجنرال في غُرف القصر، ثم في الحديقة، ولذلك أمر بطرده. ويقرر الدكتور عماد:

المعهود في الفرنسيين الشك والحذر، والمفروض في حالة كهذه أن يقبض على سليمان ويحقق معه عن سبب تتبعه الجنرال، ولكن ذلك لم يحدث، كما أن ديفوج أمر بطرده، وبالتالي كان يجب على المحكمة أن تسأل من قام بطرده: هل أخرجه فعلاً خارج الحديقة أم لا؟

الرد: الدكتور هلال لا يذكر هنا الظروف التي سمحت لسليمان بدخول مقر قيادة جيش الاحتلال الفرنسي، فقصر الألفي تعرض لإصابات من الثوار خلال ثورة القاهرة، واحتاج إلى ترميم، وقد دخل سليمان مقر القيادة باعتباره من العاملين. أمّا مسألة الطرد، فقد جاء في محضر التحقيق الفرنسي أن الحراس طردوا سليمان من الحديقة، إذ ظنوه مجرد عامل تسلّل إلى حديقة القصر لعله يعثر فيها على بعض الراحة أو بعض الثمار.

في النص الفرنسي نقرأ أقوال حارس كليبر بشكل أكثر وضوحاً:

قال إنه كان مع القائد العام حينما حضر إلى الأزبكية لتفقد الأعمال في بيته، وأنه رأى رجلاً بعمامة خضراء، ويرتدي ملابس مُهلهلة، ويتتبع القائد العام حينما كان يتفقد الأعمال، وأنه هو وبعض الحراس ظنوا أنه من جملة العمال، فلم يسأله أحد، ولكن حينما نزل القائد العام من بيته إلى الحديقة في طريقه إلى حديقة الجنرال داماس رأي المواطن دهوج الرجل المذكور مُندساً بين جماعة القائد العام، فنهره وطرده للخارج، لكن بعد ساعتين حينما قتل القائد العام، رأى الرجل المذكور، فتعرف عليه، لأنه كان هو الذي طُرد قبل قليل من الحديقة.

5. أداة الجريمة

يقول هلال إن سليمان كان طالب علم، لم يتلق أي تدريب عسكري، لكن التقرير الطبي يذكر أن القاتل طعن الجنرال طعنات مؤثرة، وأن ذلك تم بسرعة ومهارة.

الرد: الغازي المنفرد شخص عادي، يعيش وسط سواد الناس، مغمور، لا تبدو عليه علامات الفدائية، فإذا به فجأة يفعل ما تعجز عنه جيوش مدربة. لنلق نظرة على الغزاة المنفردين في فلسطين: نمر الجمل، باسل الأعرج، أحمد جرار، عمر أبو ليلي، مهند حلبي، وغيرهم من الأبطال الأشاوس.

التساؤل الثاني الذي يطرحه الدكتور عماد يدور حول مكان الطعنات، فيقول:

المريب في الأمر حقاً أن جميع الطعنات التي وَجَّهها القاتل إلى كليبر كانت في الجانب الأيمن من الجسم، وبما أن القاتل كان في مواجهة كليبر ولم يطعنه من الخلف، فهذا يعني أن قاتله كان يستخدم يده اليسرى، أمّا الطعنات التي وجهت إلى المهندس بروتان فجميعها في الجانب الأيسر من الجسم، وحيث كان الاثنان يتصارعان، وكل منهما في مواجهة الآخر فهذا يعني أن الجاني كان يستخدم يده اليمني.

يخلص الدكتور عماد من هذا إلى أنه «يمكننا القول إن قاتل كليبر ليس هو الذي طعن بروتان، وأن هناك أكثر من شخص اشتركوا في الجريمة».

الرد: إصابات كليبر جاءت في الجانب الأيمن لأن سليمان تقدم إليه، متظاهراً بأنه يريد تقبيل يده، ثم قبض عليها، وطعنه بخنجره في صدره، ثم اشتبك مع بروتان، فجاءت إصاباته في الجانب الأيسر لأن المهندس الفرنسي كان يمسك بعصا يضرب بها سليمان، فلما سقط مغشياً عليه عاد سليمان إلى كليبر وضربه عدة طعنات أخري.

وما يقوله الدكتور عماد عن وجود أكثر من قاتل فرنسي يُرجَّح به وجود قاتلين فقط، واحد منهما قضى على كليبر بطعنة نافذة في الصدر، فيما أخفق الثاني واشتبك مع بروتان في صراع الموت والحياة، ليصيبه إصابة واحدة خطيرة في الصدر من الناحية اليسرى شقت أحد شرايينه كما يقول الدكتور عماد، بما يعني إمكانية بقائه على قيد الحياة، ولو قال بروتان مجرد كلمة واحدة عن قاتل فرنسي لا غازي منفرد مسلم لانقلبت القضية رأساً على عقب، ويبقي السؤال: لماذا يرسل مينو قاتلين فقط لاغتيال أكبر رأس في الجيش الفرنسي ومرافقه المهندس بروتان، ولا يرسل عدداً أكبر لكي يضمن نجاح العملية، بخاصة أن إخفاقها يعني رميه بالخيانة وإعدامه رمياً بالرصاص؟

أمّا التساؤل الثالث الذي يطرحه الدكتور عماد فهو: لماذا لم يستخدم سليمان الخنجر مع الجنود الذين قبضوا عليه؟ ولماذا دفن الخنجر، هل كان ينتظر أن يعفو عنه الفرنسيون وقد قبضوا عليه بملابسه الملطخة بالدماء؟

الطبيعي من فدائي مثله أن يهاجم الجنود الفرنسيون فيقتل ويُقتل، بل يقتل نفسه إذا اقتضى الأمر، حتى لا يضطر الكشف عن زملائه تحت التعذيب.

ويُشكِّك في الدماء التي نزفت من سليمان، ويُرجِّح أن تكون العصا التي ضرب بها بروتان سليمان «عصا خضراء قد تسبب ألماً لكنها لا تسبب جروحاً».

الرد: الحالة النفسية التي يكون عليها الغازي المنفرد تبيّن لنا الأمر، فكل تفكيره يكون مركزاً على النيل من فريسته، فإذا اصطادها لا يفرق معه ما يحدث له بعدها، لم يكن سليمان يريد المغازاة إلا في كليبر، لا في أي جندي فرنسي، وقد حقق بغيته. وحينما قبض الجنديان الفرنسيان على سليمان من حديقة القصر لم يسر مُستسلماً، بل كانا يُجبرانه على المشي بضربه بالسيف. أمّا لماذا لم يشتبك معهما في قتال؟ فكيف يشتبك الخنجر مع سيفين. أمّا القول إنه من الطبيعي أن يقتل الفدائي نفسه إذا اقتضى الأمر، فهو يخالف التربية الإسلامية لسليمان، التي ترى في الانتحار كفراً.

ملابس سليمان وتحركاته

يتساءل الدكتور عماد: كيف استطاع سليمان تتبع الجنرال لمدة شهر وهو لابس عثمانلي بحسب ما ينص منشور المحاكمة؟

الرد: مراجعة النصين العربي والفرنسي ورؤية العقلية الفرنسية للمسلمين آنذاك تثبت أن سليمان لم يكن يرتدي ملابس تركية حتى يقبض عليه حارس كليبر، فالفرنسيون كانوا يطلقون على كل المسلمين لفظ الأتراك، نجد ذلك في أوامر بونابرت إلى حكام الأقاليم عشية ثورة القاهرة الأولي، إذ يكتب إلى مينو:

إن الأتراك لا يُسلَّس قيادهم إلا بأقصى درجات العنف، وإنني أصدر أوامري بضرب أعناق خمسة أو ستة.

[5]

وفي محضر التحقيق مع سليمان، نجدهم يقولون عن الشهور الهجرية «الشهور التركية».

أمّا عن رفقاء سليمان في رواق الشوام، فيتساءل الدكتور هلال: لماذا لم يهربوا من الأزهر عندما شاع خبر قتل كليبر والقبض على سليمان؟ ويجيب «لأن سليمان لم يقتل، ولأنهم لا يعلمون شيئاً عن الأمر، فقد ظلّوا في أماكنهم، وبالتالي جاء الفرنسيون ليقبضوا عليهم بكل سهولة».

الرد: بقي رفقاء سليمان لأنهم لم يتوقعوا أن سليمان سوف يُنفِّذ ما أخبرهم به بنتيه في المغازاة في ساري عسكر الفرنسيين كليبر.

يقول هلال إن الفرنسيين لم يُحقِّقوا مع مصري واحد، باستثناء استدعاء الشيخين الشرقاوي والعريشي، ولم يشهد إجراءات المحكمة مصري.

هذا صحيح، لكن كان يمكن لسليمان ورفاقه أن يصرخوا ساعة الحكم عليهم ويقولون إنهم أبرياء. صحيح أن هذه الصرخة ربما لن يتم تسجيلها في المحضر الرسمي، لكنها كانت كفيلة بهزة ثقة القضاة الجالسين، وهم من الفريق المؤيد لكليبر والجلاء عن مصر. ربما لن يلقوا لها بالاً حينها، لكن بعد وضوح الخلاف مع مينو ربما يتذكروها.

إذا استبعدنا جلسة النطق بالحكم، نقول إن هناك فرصة أخرى كان يستطيع بها سليمان ورفاقه أن يهزِّوا القضية، وهي وقت تنفيذ حكم الإعدام فيهم، وقد استمر ساعات طويلة، لماذا لم يُعلِن سليمان ورفاقه المشايخ عن براءتهم أمام الجمع الذي وقف يشاهد عملية الإعدام والخوزقة؟!

ألم يكن بإمكانهم أن يرفعوا صوتهم، فيهزوا القضية من أساسها حتى تتداعى أركانها؟!

رحم الله سليمان الحلبي، الغازي المنفرد.


المراجع



  1. للمزيد عن «حياة مينو» انظر: محمد فؤاد شكري، الحملة الفرنسية وخروج الفرنسيين من مصر، الفصل الأول.
  2. هيرولد، بونابرت في مصر، ص 383.
  3. هيرولد، بونابرت في مصر، ص 393.
  4. عصام ضياء الدين، الحزب الوطني والنضال السري، الهيئة العامة للكتاب، ص 179، نقلا عن جريدة الأهرام، 21 فبراير 1910 «تفصيلات الحادث الفظيع»، ثم 22 فبراير 1910.
  5. خوان كول، مصر تحت حكم بونابرت، ص 217-218.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.