إنني آت إليكم بنبأ الإنسان المتفوق، فما الإنسان العادي إلا كائن يجب أن نفوقه، فماذا أعددتم للتفوق عليه؟ إن كلاً من الكائنات أوجد من نفسه شيئاً يفوقه، وأنتم تريدون أن تكونوا جَزْراً يصد الموجة الكبرى في مدها… ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق، فهو الحبل المشدود فوق الهاوية.





فريدريك نيتشه من كتاب «هكذا تكلم زرادشت».

بدايةً أود أن أوضح أن هدف المقال ليس التقليل أو التعظيم من فلسفة نيتشه، وبالتبعية ليس دفاعاً أو هجوماً على أفعال «ديكستر مورجان» في المسلسل الأمريكي الذي يحمل نفس الاسم، وإنما مجرد محاولة من الكاتب لقراءة المسلسل من خلال ربطه بما استطعت فهمه من فلسفة نيتشه الحاضرة بشدة في المسلسل، كما أنه محاولة للدفاع عن أو إنصاف المسلسل الذي يحتل المرتبة رقم 137 في

قائمة IMDb لأفضل 250 مسلسل

، والذي تعرّض في رأيي لظلم كبير بسبب رفض قطاع عريض من مشاهديه نهايته، التي اعتبرها كثيرون نهاية مخيّبة للآمال لمسلسل كان من الممكن أن يكون عظيماً.

لذلك سأحاول تقديم نظرتي لتلك النهاية في المقال، والتي للأمانة اعتبرتها نهاية مرضية ومنطقية، لعل ذلك يغيّر من نظرتك لها أو يُقلّل من حدة كراهيتك للمسلسل الذي أفنيت فيه ساعات طوالاً من وقتك عزيزي القارئ، وعلى قدر الساعات التي ضاعت كانت صدمتك التي أسعى من خلال عرضي للمسلسل لتخفيفها عنك ولو بشكل بسيط.

تحذير بحرقٍ للأحداث في السطور التالية

تدور أحداث المسلسل بشكل مُلخص حول شخصية «ديكستر مورجان»، مُحلل لطخات الدم والذي يعمل في الطب الشرعي لشرطة ميامي نهاراً، ويمارس القتل المتسلسل ليلاً، حيث يختار ضحاياه من المجرمين ليقتلهم بأبشع الطرق، وبتطور مسار الأحداث يتضح لنا أن ديكستر شهد مقتل أمه أمام عينيه عندما كان بعمر الثلاث سنوات، مما خلّف صدمة استمرت معه طوال حياته، مما جعل «هاري» الضابط المسئول عن التحقيق في مقتل والدته يتعاطف معه ويتبناه، ولكن مع كبر ديكستر يتضح لـهاري أن ابنه بالتبني ليس كباقي أقرانه من الأطفال، أو بالأحرى ليس كباقي البشر.

كان ديكستر يستمتع بتعذيب وقتل الحيوانات وهو بعمر الـ12 عاماً، مما استدعى قيام هاري، بعد أن فطن بحقيقة ديكستر وبغريزته التي تميل بشدة نحو القتل والعنف واشتهاء الدماء، بصياغة قانون أو أسلوب حياة يسير عليه ديكستر فيما بعد، أهم قواعده هي: لا تقتل نفساً بريئة، ولا تقتل شخصاً إلا بعد أن تتأكد بشكل قاطع أنه شخص مذنب، والأهم من كل ذلك ألا تسمح بالقبض عليك في يوم ما نتيجة جريمة من جرائمك.

يركز المسلسل في مختلف مواسمه على التعارض بين حياة ديكستر
نهاراً وحياته ليلاً كقاتل متسلسل، وكيفية تعامل ديكستر مع ذلك التعارض الذي سينتج
عنه الكثير من الأزمات والعقبات في حياته.

إن الاعمال الفنية التي تنتمي إلى الـSerial killers Genre، يركز معظمها إما على مدى وحشية وقسوة القاتل المتسلسل، أو يركز على مطاردة السلطات له لإلقاء القبض عليه، نادراً ما يوجد عمل يستكشف خبايا ودواخل تلك الشخصيات المعقدة، وقبل بدايتي مع مسلسل ديكستر توقعت أن يكون مجرد عمل فني آخر يستعرض نفس التيمات المكررة في الأعمال التي تدور حول القتلة المتسلسلين، إلا أنني بعد أن فرغت من مشاهدته، يمكنني القول إن ذلك المسلسل كان أفضل تناول ممكن رأيته لشخصية القاتل المتسلسل اجتماعياً ونفسياً، ليس فقط للأداءات التمثيلية القوية فيه، ولا للحبكات التي تجذبك فور بدء مشاهدتك للمسلسل، وإنما أيضاً للبعد الفلسفي لشخصية ديكستر مورجان.

قوة المسلسل تكمن في الـVoice Over لشخصية ديكستر، فعلى مدار الثمانية مواسم نستمع للأفكار الداخلية لـديكستر وتصبح تلك الأفكار بمثابة مفتاح فهم شخصيته والتوحد مع ذاته. لم أستطع خلال مشاهدتي إلا أن أرى نقاط التقاء عديدة بين تلك الأفكار الداخلية لـديكستر وأفكار الفيلسوف الألماني نيتشه، مما شجعني على كتابة تلك السطور لإيضاح بعض تلك النقاط.

الإنسان الأعلى وموت الإله

يقول ديكستر:

لقد أعطاني والدي قانوناً، كلّفه ذلك حياته، ولكنه أبقاني حياً، أصبح القانون ملكي الآن، وملكي وحدي، وكذلك العلاقات التي أنميها، قد لا يوافق والدي على ذلك ولكنني لم أعد تلميذه، لقد أصبحت معلماً (سيداً)، فكرة متجاوزة للحياة، وهكذا هو دربي الجديد، والذي يشبه القديم إلى حد كبير، إلا أنه ملكي، وعليّ العمل بشكل أكبر لكي أستمر على هذا الدرب، أستكشف طقوساً جديدة… أتطور. هل أنا شرير؟ هل أنا صالح؟ اكتفيت من طرح تلك الأسئلة، لأني لا أملك الإجابات.

لو سألت أي شخص قرأ ولو بشكل سطحي في الفلسفة عن نيتشه، أول ما سيرد في ذهنه عنه هو نظريته حول موت الإله. ببساطة نيتشه كان يرى أن مع التقدم العلمي أصبح دور الإله هامشياً، مما سيؤدي في النهاية لموته، وليس المقصود كلياً بذلك الإله بمعناه الديني، وإنما المقصود موت القيم بشكل عام، وانعدام الحدود الفاصلة بين الخير والشر، وليحل نيتشه معضلة غياب الإله صاغ مفهوم الإنسان الأعلى، والذي سيحل محل الإله وسيصبح هو إله نفسه الذي لن يعبأ بالقيم أو بالخير والشر، وإنما سينصب اهتمامه الأساسي على مفهوم إرادة القوة، حيث سيكون منطق إرادة القوة هو جوهر سعادة الإنسان الأعلى والمحرك الرئيسي له، وسيصبح الإنسان الأعلى

هو القيمة العليا الجديدة الغير قابلة للفناء

.

عند المقارنة بين وصف نيتشه للإنسان الأعلى وديكستر، تتضح العديد من التشابهات، وتحديداً في فلسفة القتل التي كان ديكستر يؤمن بها، فقد كان هو من يحدد قيمة كل فرد في الحياة والتي سيترتب عليها إما قتله أو العفو عنه، وقد ذكر ذلك صراحة في الموسم الثالث من المسلسل عندما كان يستعد لقتل «ميجيل برادو»، الذي في نظر ديكستر يحمل بداخله نفس الشر والفراغ اللذين يحملهما ديكستر بداخله، إلا أن رؤية ديكستر لقيمته في الحياة والتي تتعدى في نظره قيمة وأهمية ميجيل تجعل من قتل الأخير أولوية، ومن بقاء واستمرار ديكستر أمراً حتمياً ومهماً، لتصبح تلك نقطة الالتقاء الأولى بين ديكستر والإنسان الأعلى، فالقوة والذكاء والقدرة على الانتصار في صراع البقاء هي الأسباب التي ستؤهلك للارتقاء لمرحلة الإنسان المتفوق مصدر القيمة، وقد كان الانتصار كما رأينا من نصيب ديكستر.

أخلاق العبيد

جانب آخر من الجوانب التي يتصف بها الإنسان الأعلى عند نيتشه،
وهي تحرره من أخلاق معينة كالتسامح والزهد في الحياة وكبت الشهوات، والتي يُطلق
عليها نيتشه أخلاق العبيد، واعتبرها متضادة مع أخلاق السادة، التي تقوم بشكل رئيسي
على منطق إرادة القوة، وتصبح هنا الطبقة الأرستقراطية أو الأثرياء هي الممثل
الحصري لأخلاق السادة، بما تنطوي عليه من قوة وعظمة وبطولة،

حسب
نيتشه

.

تم تقديم هذا الطرح في المسلسل ولكن بشكل مغاير إلى حد ما لوصف نيتشه، فـديكستر لم يكن أرستقراطياً بالمعنى الطبقي الاقتصادي، أي لم يكن ثرياً، وإنما كان على رأس الهرم بشكل آخر، فكان كل الناس أدناه هم البشر العاديون الخانعون، المقيدون بالقوانين النظامية المعمول بها في كافة المجتمعات لمحاسبة المجرمين، إلا أن ديكستر كانت آخر اهتماماته هي الالتزام بتلك القوانين أو احترامها، بل على العكس كان يرى أنها العائق في سبيل إشباعه لغريزته.

استطاع ديكستر أن يتخطى تعقيدات النظام القضائي وتباطؤه
في معاقبة المذنبين حسب وجهة نظره، وأصبح يستفيد من نظرته لقصور العدالة في إشباع
غريزته الأساسية، ألا وهي القتل. قتل من استطاعوا الالتفاف حول القوانين والإفلات
من العقاب، ليصبح بذلك هو الضابط الذي يقوم بضبط وإحضار ضحاياه، وهيئة المحلفين
التي تحدد ما إذا كان الشخص مذنباً من عدمه، والقاضي الذي يصدر حكم الإعدام أو
البراءة، ومنفذ حكم الإعدام الذي يعرِض لضحاياه الذنوب والجرائم التي اقترفوها قبل
أن يشرع في قتلهم، فيما يشبه الحساب الإلهي.

أي أن ديكستر ببساطة اختصر منظومة العدالة كلها في ذاته، ولكن في نفس الوقت لا يمكننا أن نعتبره Vigilante أو محققاً ذاتياً للعدالة، هو ببساطة استخدم فكرة العدالة كقناع لإشباع غريزته، كما استغل أسرته وعلاقاته الطبيعية لينفي عن نفسه أمام الناس صفات الوحشية والانغماس في غريزة القتل والاستمتاع بها، وليبعد شكوكهم عنه، أي أنه في نهاية المطاف كان هدفه الأساسي إرضاء غريزته الملحة، التي لا يشعر بعد إشباعها بأي ذنب أو ندم، والذنب والندم هما من أخلاق العبيد.

الإحساس الذي كان يسيطر عليه بشكل كبير هو

إحساسه بالرغبة في التطور

بشكل مستمر في إشباع غريزته، وهو الإحساس الذي يسيطر حسب نيتشه على الإنسان الأعلى، حيث يضع دائماً هدف التطور نصب أعينه، كما تخطى ديكستر الأسئلة حول طبيعته، فلم يعد يسأل نفسه ما إذا كان صالحاً أم شريراً، ليعلن بذلك نهاية الخير والشر لديه، وهو ما جعلني أتخيل أن لو كان نيتشه من متابعي المسلسل لأنحني احتراماً لتلميذه النجيب ديكستر. ولو نظرت عزيزي القارئ لنهاية مسلسل ديكستر، والتي كانت نهاية مفتوحة تتضمن تزييف ديكستر لموته وهروبه بعد أن أصبح خطراً على من حوله، وبعد قتله لأخته المحققة «ديبرا»، لوجدت أن بها كافة الظروف المنطقية التي ستؤدي في الواقع إلى وفاة أي إنسان، حيث نرى بما لا يدع مجالاً للشك اختراق ديكستر بمركبه الخاص -بعد أن قتل أخته- لإعصار شديد القوة قادر على الفتك بأي شخص يتعرض له، إلا أننا نُفاجأ بعد ذلك بأن ديكستر استطاع النجاة من ذلك الإعصار رغم تحطم المركب الخاص به، والاختفاء بعد ذلك عن أنظار شرطة ميامي بهوية جديدة، لتمثل تلك النهاية في وجهة نظري نبوءة نيتشه عن الإنسان الأعلى القادر على التغلب على الموت الذي كان يحول بينه وبين أن يكون إلهاً لنفسه بشكل كامل، ويمنعه من الصعود الى الطرف الأعلى للحبل المنصوب، وليصدق بذلك وصف ديكستر لنفسه أنه فكرة متجاوزة للحياة.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.