كانت فترة عملي كطالب يدرس الإخراج مثمرة جدًا. كنت ملتحقًا بمدرسة الفيلم كما أنني كنت أتردد على الستوديوهات بشكل منتظم ..

مرحبًا بك .. أرى أنه لابد من أن نتعارف إذا كنا سنمضي الفترة القادمة معًا .. اسمي جيمي سبنسر .. عمري ثمانية وعشرون عامًا .. يقولون إن شلة عيال السينما التي سيطرت على السينما الأمريكية في السبعينيات كان أفرادها يمتازون بقبعات البيزبول واللادن واللحى. أنا حافظت على هذا التراث، ولي لحية حمراء تعجب البنات جدًا.

يجب أن أعترف لك أنني أهوى أفلام الرعب جدًا. لسبب ما أرى أنها مغامرات استكشافية لمخاوفنا في اللاوعي. نحن نعيش من جديد مخاوف أجدادنا ..

رأيت معظم أفلام المذءوبين ومصاصي الدماء والزومبي والمسوخ والأشباح والبيوت المسكونة وكل شيء.. كما درست جيدًا أفلام كروننبرج البيولوجية وجون كاربنتر الأصيلة وانبهرت بكليف باركر ككل واحد آخر.

قالت لي جودي على باب دار السينما:

ـ«التحورات .. هذا هو فيلم الليلة ؟»

قلت لها في شغف أنه هدفنا ..

قالت في إحباط:

ـ«اسمع .. أنا شبعت من كل أفلام المسوخ النائمة .. واللعنات المنسية .. والزجاجات التي تحوي سوائل تتمدد. أريد فيلمًا هادئًا بلا كهوف .. أريد شوارع وطائرات وعربات ..»

نظرت إلى الأفيشات المعلقة ثم قلت لها:

ـ«هناك شوارع على الأرجح»

كان فيلم (لالا لاند) يعرض في دار قريبة، لكن الموت بدا لي أسهل وأهون من أن أشاعد فيلمًا اسمه هكذا. لم أعد أتحمل الأفلام الرومانسية ولا الغنائية ولا أفلام الأكشن ولا الجاسوسية .. لربما أحببت الأفلام الحربية لكنهم لم يعودوا يصنعونها ..

أقدم لك جودي .. فتاتي .. نسيت أن أقول لك إنني أحب الفتيات البدينات قصيرات الشعر اللاتي يضعن عوينات. بعض الشباب لا يحب هذا النمط، لكن كل شخص مسئول عن ذوقه الخاص. ظريفة جدًا وأعتقد أنها مفعمة بالأمومة لو تزوجنا.

هكذا جلسنا في مقعدي السينما نلتهم الفيشار ونشاهد الشاشة العريضة .. كانت القاعة شبه خالية ..

الفيلم يدور حول رجل يكتشف ان أعضاءه تتحور وتكسب حياة خاصة بها. بمعنى آخر أنه يصحو من النوم ليكتشف أن ذراعه قد رحل .. الذراع رحل ليبدأ حياة خاصة به ويتحول إلى كائن حي يرى ويقتل .. ثم يصحو الرجل من النوم ليكتشف أن أسنانه هربت وصارت مخلوقات صغيرة حية ..

لم تكن الفكرة تخلو من جدة .. كابوسية جدًا كما أنها تحوي اللمسة المميزة للرعب البيولوجي لدى كروننبرج. لكن جودي لم تتحمس قط .. اقشعرت وبدا أنها موشكة على القيئ ..

بعد محاولات عنيفة سألتني:

ـ«هل تحب هذا ؟»

ـ«بالتأكيد.. هذا خيال مريض جامح ولا أتخيل أن أحدًا يجد هذه الفكرة بسهولة»

قالت في توسل:

ـ«أرجوك أن نرحل»

لم أر مناصًا من أن أنهض وأنا مغتاظ، وقررت أن أشتري الدي في دي فيما بعد. المخرج جيسون مكارثي لم يكف عن إبهاري .. في كل مرة راهنت عليه يتبين أنني على حق ..

جيسون مخرج مستقل يعمل خارج مظلة هوليوود وقيودها الحديدية. بارع وذكي جدًا ولديه جماعة خاصة تعشق أفلامه، لكنها ليست بالأفلام التي تناسب الجميع. أعداء الرعب سيكرهونها لأنها مرعبة جدًا .. وعشاق الرعب سيكرهونها لأنها لا تشبه أي شيء رأوه.

سن جيسون أربعون عامًا ويعيش في بيفرلي هيلز، وهو من الطراز الذي لا يدلي بلقاءات صحفية. نحيل جدًا أصلع الرأس يدخن بشراهة.

بعد أيام جاء فيلم اسمه (القبو).

اقترحت على جودي أن نرى الفيلم فسألتني في حذر عن اسم المخرج فقلت في استسلام:

ـ«المؤلف هو المخرج وهو المنتج .. إنه جيسون مكارثي»

«وأنا أعتذر عن عدم مشاهدة هذا العرض»

كان قرارها حاسمًا، وهكذا اضطررت إلى الذهاب للسينما وحيدًا لأنعم بمشاهدة (القبو) الذي تنتجه ستوديوهات (مورفيوس) الخاصة بجيسون.

القبو هو مكان حي .. لا ندرك هذا إلا في منتصف القصة، عندما ندرك أنه يبتلع الناس في شراهة .. من ينزلوا ليلاً تكن نهايتهم جسيمة.. القبو يخفي آثارهم لكن المتحمسين قد يجدون عظمة هنا أو هنا ..

أعترف أنه كابوس حقيقي..

عندما غادرت السينما كنت قد شاهدت اثني عشر فيلمًا لنفس المخرج والمؤلف.. لا شك أن هذا الرجل أوجد لغة سينمائي جديدة .. أفكاره لا تنتهي وكلها ساحر، ثم يأتي دور التنفيذ ..لا يستعمل ممثلين معروفين، إنما هم من طلبة السينما مثلي.

لابد أن أقابل جيسون ..

بعد أيام كنت في ستوديوهات باراماونت أدير حديثًا مع أحد مشغلي الكاميرا، عندما مرت سيارة غريبة أمامنا. نظر مشغل الكاميرا لراكب السيارة وقال:

«هذا جيسون مكارثي .. لابد أنك تعرفه»

كانت السيارة قد توقفت. لم تكن غالية كما توقعت . وعلى الفور هرعت لأحيي الرجل النحيل الذي يترجل من السيارة … نظر لي في دهشة ولم يكن سمجًا عامة.

في البدء طلبت منه التوقيع، ثم قلت له إني المعجب رقم واحد به ..

قال في شيء من الغرور:

ـ«كلهم يزعم أنه رقم واحد على كل حال»

تجاهلت التعليق وسألته:

ـ«هل لديك ورشة تدريبية ؟ ألا تشرح طريقتك في الطبخ للناس ؟»

أشعل لفافة تبغ سوداء غريبة المظهر وقال:

ـ«للأسف .. هذه أشياء لا يمكن تعليمها .. أنا ضد الورشات وضد صفوف الدراسة .. حضرت دورات ستوديو الممثل في بدايتي ولم استفد شيئًا»

لم أكن لأتعب فطلبت منه أن يسمح لي بحضور التصوير..

قال وهو يهز رأسه:

ـ«أنت عنيد»

ثم أخرج بطاقة صغيرة كتب عليها بعض كلمات وقال:

ـ«غدًا في السابعة صباحًا … أنت تعرف أين يقع ستوديو مورفيوس .. سيسمحون لك بالدخول»

وقبل أن أسترد وعيي كان قد ابتعد ..

لقد وضعت قدمي على بداية طريق الحلم. الحقيقة هي أن هذه علاقتي الأولى بالكابوس !


الحلقة الثانية

أحمد خالد توفيق, قصة قصيرة

قالت لي جودي:

ـ«أنا أقر بأن كلام الرجل سليم . لو مررت بعشرين دورة تدريبية في كرة القدم فلن تصير ميسي .. هذه أشياء تولد بها أو لا»

كان فمي مليئًا بالهامبرجر فانتظرت حتى بلعت كل شيء، ثم رشفت باقي الكولا وقلت:

ـ«أنا أملك الموهبة بلا شك .. ما ينقصني هو رؤية طريقته في التفكير. لو عملت نصف عام مع مخرج عبقري لصرت مخرجًا عبقريًا بدوري. أريد متابعة طريقته في استلهام أفكاره . كلها أصيل جديد ..»

كنت أفكر في جدية ..

لا شك أن البداية هي العمل مع رجل كهذا.

***************

كلا .. لم تتحول أغصان الأشجار إلى مخالب، فهذا مشهد تقليدي جدًا. تحولت إلى زواحف خشنة مغطاة بالحراشف، ثم راحت هذه الزواحف تتحرر لتثب في الهواء وتجري بين الأعشاب كاشفة عن أسنان حادة مدببة كالإبر .. وهناك كانت جين تقف في المنتصف تصرخ.. لقد جمدها الرعب ونسيت أن هناك رد فعل اسمه الفرار. تسلقت السحلية الأولى ساقها، وشعرت بقشعريرة وهي تشعر بين لحم ساقيها بالحراشف الخشنة، ثم شعرت بالشيء الناعم اللزج المقزز …

كانت هذه هي الزاحفة الأولى .. ومن الشجرة تحررت زواحف أخرى .. تكاثرت حول جين، حتى بدا أنها ستكتسي بالزواحف قريبًا.

***************

في السابعة صباحًا كنت عند باب الستوديو .. كان هناك زحام وفوضى العمال المعتادة، وكنت أتساءل عن المعجزة التي سأدخل بها ..

كان هناك عامل يدفع كشافًا ثقيلاً وتوقف لأن سيارة مرت أمامه. سرعان ما تبينت أنها سيارة جيسون. أوقفها وترجل وتبادل دعابة ما مع الرجل .. كانت معه زوجته إليانور، وهي شقراء جميلة . يعاني جيسون على ما يبدو حالة تصيب بعض المخرجين عندما تخرج مشاعرهم السادية تجاه زوجاتهم، فيضعونهن في مواقف بشعة ومخيفة ولربما عاريات أمام العيون كذلك .. لم يعترف أحد بهذه العقدة لكني واثق من أنها لدى برايان دي بالما وجون كاربنتر وداريو أرجنتو، على أن الأخير يملك هذا الهوس تجاه ابنته آسيا. كان جيسون يعاني نفس المركب .. الضحية المفضلة له التي يتم تمزيقها وحرقها هي زوجته.

التقت عيناي بجيسون فخطر لي أنه نسى كل شيء عني، لكنه تذكرني وهز رأسه .. ثم قال لرجلي الأمن على باب الستوديو أن يسمحا لي بالدخول ..

داخل الستوديو الواسع تناثرت الأضواء وانتشر العمال. صيحات .. قياس الصوت .. أما الديكور فكان عبارة عن شرفة واسعة تطل على شاشة خضراء واضح طبعًا أنها ستصير البحر فيما بعد.

ظهرت إليانور زوجة جيسون ثم جاء ممثل شاب واعد اسمه ريمي.. كانا يلبسان ثيابًا بسيطة توحي بأنهما في العمل. لابد أن هذه شرفة الشركة التي يعملان بها.

كات تراجع دورها بسرعة ورأيت جيسون بالكاسكيت واللحية يتحرك هنا وهناك .. يقيس الضوء ويكلم مدير التصوير ومحرك الكاميرا.

لا تنس أن هذا انتاج فقير .. إنتاج مستقل .. لهذا لم تكن هناك اختراعات مبهرة .. لا يوجد شيء يوقف أنفاسك. ثم أنني عهدت الستوديوهات وأعرف الكثير عنها، فلن أنبهر كالشخص البكر. مروحة عملاقة دارت فراح شعر المرأة يتطاير كأنه هواء البحر.

ثم أن حامل الكلاكيت قرع لوحته وبدأ الحوار:

ـ«رالف يعرف عن علاقتنا»

ـ«ما الذي يعرفه بالضبط ؟»

ـ«يعرف كل شيء .. لا توجد أسرار… علينا أن نصارحه برغبتي في الطلاق»

دار الحوار بطيئًا شبه ممل، وفي النهاية صاح المخرج: «كات» فتوقف دفق الصور والأحلام وتراجعت أجهزة الميكروفون الفضولية وكذا تراجعت الكاميرا. على حين راح يعيد مشاهدة اللقطات على المونيتور.

كان كل هذا محبطًا ..

ما كنت لأتعلم شيئًا بهذه الطريقة .. هذه لقطة عادية جدًا، ومن الممكن أن أحضر عشرات منها ..

كنت واقفًا أراقب ما يدور بلا حماس، وفجأة رأيت امرأة مسنة تتقدم هناك عند ركن الستوديو. امرأة عادية المظهر في الستين من عمرها لها شعر أشيب مصفف بعناية وتلبس تايورًا أزرق .. كانت تمشي لكن ما لفت نظري هو أنها تترنح كالسكارى. تصطدم بالجدار فتبتعد بضع خطوات ثم تعود للزحف. ألقيت نظرة على وجهها فأدركت أنها تائهة تمامًا … هل هي ثملة ؟ في الثامنة صباحًا وفي يوم الثلاثاء .. مستحيل.

كانت تتجه نحو باب على الجانب كتب عليه (ممنوع الدخول إلا للعاملين). أخرجت بطاقة صغيرة دستها في قارئ ما فانفتح الباب ودخلت.

كان الفضول يقتلني .. محرمة هي أماكن كثيرة في الستوديوهات لكن ما نوع هذا الموضع بالضبط ؟

بعد دقائق رأيت شابا في الثلاثين يمشي بذات الطريقة تقريبًا .. من أين جاء ؟ ظهر فجأة وسط زخام العاملين. كان يتجه نحو ذات الباب الغريب .. وأخرج البطاقة إياها ودسها في الداخل.

إلى أين ؟ وما سبب هذا المظهر التائه الغريب ؟

كان تصوير لقطة أخرى قد بدأ فتنحيت جانبًاـ بينما يتعالى صراخ العمال وهم يعلنون الصمت ..

اللقطة كانت بين زوجة جيسون ونفس الشاب، وكانت تتم في نفس الديكور الذي هو عبارة عن شاشة خضراء. الزوجة تقول إنه لابد من قتل رالف ..

ـ«أنت تبالغين»

ـ«بالعكس .. كل شيء يقول إنه إن لم نفعل فلسوف يفعل هو ذلك»

ـ«هل لديك خطة ما ؟»

كنت أنا أقاوم رغبة عارمة في النعاس .. سئمت هذه اللقطات التقليدية. سيكون علي أن أعود عدة أيام إلى أن أعيش لحظات مرعبة .. لحظات من التي صنعت اسم جيسون. من المستحيل طبعًا أن أتوقع – كالأطفال – الرعب من أول ثانية حتى آخر ثانية.

بعد يومين بدأت أعتاد كل شيء.. لكن لا شيء يحدث سوى لقطات الحوار العادية جدًا. هناك مخبر شرطة ظهر اسمه موريس ومهمته أن يوقع العشيقين في الفخ.. لابد أن الزوج قتل .. انت تعرف ان الأفلام لا يتم تصويرها بالترتيب..

وقفت هناك جوار الجدار أتأمل الأجهزة والمعدات وقررت أنه لابد من استجواب جيسون مرة أخرى عن طريقة تفكيره.

هذا الشيء ؟

أنت تعرف كما أعرف أنه بطاقة الكترونية .. قريبة جدًا من فيزا البنوك، لكنك تتذكر أنك رأيت مثله في يد من اجتازوا الباب ..

أحمق ما أسقط بطاقته ..

نظرت حولي ثم انحنيت وبرشاقة دسست البطاقة في جيبي ..

سيكون من السهل فيما بعد أن أعرف ما يدور وراء هذا الباب. فقط لانتهز فرصة التصوير حيث ينشغل الجميع . القدر يقول لي إنني وجدت شيئًا مهمًا ..

والقدر يقول لنا أن للقصة بقية لن نعرفها، رحل العرّاب الدكتور أحمد خالد توفيق قبل أن تكتمل، تاركًا النهاية لخيال القارئ يصورها كما يشاء أو يكتفي بها هكذا، قصة قصيرة أخيرة بلا نهاية، وأثر باقٍ لن يزول.