العلاقات هذه الأيام متوترة بين القاهرة والخرطوم – رغم النفي الرسمي- منذ إعلان النيابة العامة المصرية أن منظمة «حسم» تلقت تدريبات في شمال السودان، وهو ما اعتبرته الخرطوم طعنة غادرة من القاهرة لها ومحاولة لإبقاء السودان تحت العقوبات الأمريكية بشأن دعم الإرهاب، والتي من المقرر رفعها إذا ما التزمت الخرطوم بمسارات وشروط واشنطن الأربعة والتي من أهمها مكافحة الإرهاب.

لم تبدِ مصر أي تحمس لرفع العقوبات عن السودان رغم أن هذا الأمر يمكن أن يفيدها كثيرًا ويزيد من حجم التجارة بينها وبين السودان والتي تبلغ مليار دولار أمريكي. ولعل السبب الرئيسي في عدم حماسة القاهرة لرفع العقوبات عن الخرطوم هو الدور المتنامي للخليجيين في السودان، الذي تعتبره مصر حديقتها الخلفية التي لا يجب أن تمس من أي طرف إقليمي آخر.

بالإضافة إلى أن القاهرة ترى في النظام السوداني عدوًا حميمًا وصديقًا لدودًا، فهو النظام الإسلامي الذي ما من صداقته بد للتعاون في مسألة مياه النيل وسد النهضة؛ وبالتالي فإن مصر تتعاون مع هذا النظام بمقدار هذين الأمرين والحكومة السودانية تبادل النظام المصري نفس الشعور، فهي تعرف أنه نظام لا يكن لها أي ود ولكنها مضطرة للتعامل معه لأنه نظام يحكم مصر أحد أهم دول الشرق الأوسط، ولأنه نظام يتمتع بثقل دولي وعربي لا يستهان به ولذلك فإنها تتعاون معه.


القاهرة تلمح إلى دعم الخرطوم للإخوان

طوال الفترة التي أعقبت الإطاحة بمحمد مرسي كان في مصر موقفان أولهما إعلامي والآخر رسمي؛ أما الإعلامي فقد زعم الإعلام المصري منذ الساعات الأولى لبيان 3 يوليو أن السودان داعم لاعتصام رابعة بل خرج على الإعلام أحمد موسى ليدعي أن الرئيس عمر البشير أرسل رسالة لمحمد مرسي ليثبته ويكفر عبد الفتاح السيسي.


وكذلك خرج أكثر من مرة ثروت الخرباوي ليتكلم عن عضوية البشير في التنظيم الدولي للإخوان، وهذا الكلام ردد بعضه بعض الإعلاميين الآخرين على صفحات الجرائد بينما كان موقف الدولة المصرية الرسمي على لسان وزير خارجيتها في ذلك الوقت، نبيل فهمي، هو دعوة السودان للعب دور في إعادة مصر إلى الاتحاد الأفريقي وإلى دور سوداني في دفع عملية التفاوض بين مصر وأثيوبيا حول سد النهضة.

بمجرد وصول الرئيس السيسي إلى رئاسة مصر وحسم الأمر بشكل كامل في مصر لصالح الدولة المصرية على حساب الإخوان، ظن كثير من المتابعين أن الأمر انتهى وأن السيسي سيبدأ صفحة تعاون بين البلدينن خصوصًا بعد زيارته للخرطوم في أيام رئاسته الأولى والتي أظهر فيها اهتمامًا بالغًا بالسودان، وكذلك في توقيعه على إعلان المبادئ الذي أزاح ضغوطًا كبيرة وفتح آفاق تعاون بين مصر وإثيوبيا والسودان رغم معارضة بعض الأصوات الراديكالية في القاهرة.

و مع ازدياد القبضة الأمنية في مصر، هرب بعض الأفراد المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين للسودان مستفيدين من اتفاقية الحريات الأربع و لتي تسمح لكل حاملي الجنسية المصرية بالدخول للسودان دون تأشيرة مسبقة، وغضت الحكومة السودانية عنهم الطرف لأنهم لم يأتوا لممارسة النشاط السياسي بل هم جاءوا كحالات إنسانية، واتجه أكثرهم للتجارة أو استخدم السودان كمعبر باتجاه تركيا -رغم أن السفارة التركية في الخرطوم لا تمنح المصريين أي تأشيرة لتركيا- أو قطر أو أي دولة أخرى.

الحكومة المصرية أبلغت السودان رغبتها في أن تتسلم مطلوبين أمنيين موجودين على أراضيها والسودان لم توافق أخذًا بمبدأ المعاملة بالمثل؛ حيث إن مصر كانت تحتضن زعيم المعارضة السياسية للنظام، الإمام الصادق المهدي، وتسمح للحركات المسلحة السودانية المتمردة بفتح مكاتب في القاهرة بل وإن الرئيس البشير اتهم صراحة جهاز المخابرات المصري بمحاولة توحيد المعارضة السودانية لإسقاطه.


هل أحب البشير نظام الإخوان حقًا؟

العلاقة بين النظام السوداني والإخوان المسلمين لم تكن جيدة على عكس ما يظن البعض، فالنظام السوداني ينتمي إلى فرقة منشقة عن الإخوان تسمى الجبهة الإسلامية القومية كان قد أسسها الزعيم الراحل حسن الترابي، وبلغت درجة العداء بين الإخوان المسلمين المصريين وجبهة الترابي مستويات العداء بين حزب البعث العراقي ونظيره السوري.

يعتقد مراقبون أن مستوى التفاهم بين حكومة الرئيس مبارك والرئيس السيسي مع النظام السوداني قد كان أكبر من مستوى التفاهم بين السودان ومصر في عهد الرئيس مرسي، فـ

حسب

موقع حركة العدل والمساواة السودانية المسلحة المعارضة فقد التقى وفد من الحركة بالدكتور وليد الحداد مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الحرية والعدالة في 2013م و عده بالدعم لتحقيق خيار الشعب السوداني، فمصر تدعم تحرير الشعوب من الظلم وتدعم الحرية، في إشارة لدعم مصر مرسي لإسقاط البشير، وطبعًا لم ينسَ النظام السوداني هذا الأمر وكان السفير السوداني حاضراً باستمرار في زيارات لأحزاب جبهة الإنقاذ وخصوصًا حزب الوفد الذي

يرتبط

مع السودان بعلاقة خاصة هو ورئيسه سيد البدوي.

رغم كل هذا فالنظام السوداني إسلامي في النهاية وله جمهوره الذي كان رافضًا ولم يكن مرتاحًا لما حدث في 3 يوليو 2013م في مصر، فإن السودان

أبدى

تفهمه لما حدث في إطار أنها عملية للجيش المصري لاستعادة الدولة ولم يرسل أي رسالة دعم أو تضامن مع اعتصام رابعة – الدولي-، وقد أصدر جهاز الأمن السوداني توجيهات غير معلنة للصحف بعدم نشر أي أخبار عن مصر لا سلبًا ولا إيجابًا بعد فض الاعتصامات في رابعة والنهضة.

واستقبل النظام السوداني وزير خارجية مصر في نهاية أغسطس وبلغه أن السودان يؤيد عودة مصر للاتحاد الأفريقي، بعد أن علقت عضوية مصر في المنظمة التي اعتبرت ما حدث في مساء 3 يوليو انقلابًا عسكريًا مكتمل الأركان.

لم يقدم النظام السوداني أي دعم مباشر أو غير مباشر للإخوان المصريين في السودان سوى بغض الطرف عن وجودهم في السودان أخذًا بمبدأ المعاملة بالمثل مع القاهرة، والتي تسمح للمعارضة السودانية بالتواجد في القاهرة بل وتسمح للمعارضة السودانية -المسلحة- بأن يكون لها مكاتب في القاهرة لتخرج منها وتخاطب الإعلام الدولي.


جنوب السودان سبب آخر للأزمة

ا

لتقارير

الصحفية التي خرجت على صحف معروفة بصدقها وبقربها من المعارضة، والتي تتحدث عن تحالف ثلاثي يضم القاهرة وجوبا وكمبالا لإسقاط الخرطوم وأديس أبابا عبر دعم وتدريب وتسليح المعارضة السودانية والإثيوبية واستبدال حكومتيهما بحكومات موالية للسيسي وموسيفيني.

ورغم أن وزير الإعلام السوداني خرج ليستنكر تلك التقارير إلا أن المعلومات على الأرض كانت تؤكد صحتها، فقد أرسلت القاهرة أطنانًا من السلاح والذخيرة ومدربين إلى جنوب السودان بحجة تدريب جيشها الوطني، وتعنتت الحركة الشعبية وحركات المعارضة المسلحة في توقيع اتفاقات السلام مع الحكومة رغم أن الحكومة أظهرت مرونة غير مسبوقة بقبولها بإدخال الإغاثة الإنسانية لمناطق سيطرة المعارضة عبر إثيوبيا بعد أن كانت ترفض هذا الأمر من قبل بحجة السيادة، و هذا الأمر هو الذي دفع الرئيس البشير للهجوم على النظام المصري مرتين خلال شهرين مرة عبر قناة العربية والمرة الثانية في لقائه مع رؤساء الصحف السودانية أثناء زيارته للإمارات الأسبوع الماضي.

أعتقد أن تدخل مصر السلبي في جنوب السودان بدعم سلفاكير بالسلاح علنًا قد يتسبب في إشكال مستقبلاً لمصر، فجنوب السودان تشظى قبليًا ولم تعد حكومة سلفاكير تحظى بأي شرعية أو مشروعية، وأصبح سلفاكير أسير قبيلته الدينكا ومجلس حكمائها الذي يوجهه ليكثف ضرباته بحق معارضيه من القبائل الأخرى، ولم يعد جيشه جيشًا وطنيًا ليدعم بهذا السلاح الكثيف فجيشه أصبح جيش الدينكا الذين لا يمثلون في أكبر الإحصاءات 40% من شعب جنوب السودان، والمعارضة من النوير والشلك في طريقها للتحالف ضده ومعه بقية مكونات الجنوب حسب ما يسرب في الإعلام بدعم إثيوبي، ردًا على انحياز مصر لسلفاكير.

و مصر وأوغندا بدعمهما سلفاكير يفشلان ضغوط المجتمع الدولي على سلفاكير للقبول بالتفاوض مع معارضيه وتنفيذ اتفاق أغسطس 2015م الذي يتهرب منه سلفا والذي يجعل السلطة شراكة بين مختلف القبائل وهذا ما سيؤدي إلى تفكيك دولة الجنوب إلى دويلات كل منها ستطالب بحصة في ماء النيل وهذا سيؤثر على مصر وخصوصًا أن أبناء القبائل الجنوبية من غير الدينكا أصبحوا ينظرون لمصر بعدائية.


ما القادم في العلاقات بين مصر والسودان؟



تدخل مصر السلبي في جنوب السودان بدعم سلفاكير بالسلاح علنًا قد يتسبب في إشكال مستقبلاً لمصر، فجنوب السودان تشظى قبليًا و لم تعد حكومة سلفاكير تحظى بأي شرعية.

يبدو أن القادم هو علاقات أكثر توترًا خصوصًا أن انفتاح علاقات السودان الدولية الحالي لا يعجب مصر التي تعتبر السودان حديقتها الخلفية وترى أن نفوذها في هذا البلد أصبح مهددًا بأن تفقده مع تنامي التعاون السوداني السعودي الإماراتي وانفتاح تركي مرتقب على السودان بعد الرفع الكامل للعقوبات، حيث توجد

زيارة

مرتقبة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للخرطوم يتوقع أن ترفع مستوى التعاون بين تركيا والسودان، وهذه الزيارة يفترض أنها ستكون استفزازية للقاهرة التي تعتبر أنقرة عدوتها اللدودة.



لن يتغير وضع الإخوان المسلمين- المصريين- في السودان لأن السودان لا يحتضن أي قيادات للإخوان مقارنة بتركيا أو قطر أو ماليزيا.

السودان سيركز في الفترة القادمة على وضع قضية حلايب في طاولة أي تفاوض مع مصر، خصوصًا أن مصر التي تتصلب في ترسيم الحدود مع السودان عبر التحكيم الدولي قد تكون مجبرة على التحكيم الدولي مع السعودية في قضية تيران وصنافير بعد الحكم البات والنهائي للمحكمة الإدارية العليا، ولن يكون صعبًا على حكام القاهرة وضع حلايب في التحكيم الدولي، سيقبلون مضطرين بالتحكيم الدولي في قضية الجزيرتين.

حتى تنقضي مهلة الستة أشهر الأمريكية وترفع العقوبات، فسوف تظل العلاقات متوترة مع القاهرة التي قيل إنها بلغت إدارة ترامب أن النظام السوداني «غير قادر» على مكافحة الإرهاب لأنه «نظام يدعم الإرهاب الإخواني»، وتسريبات النيابة المصرية تكشف عن هذا الأمر وخصوصًا في قضية تنظيم «حسم» والذي ادعت النيابة المصرية أن السودان يأوي معسكرات تدريبات التنظيم المسلح في أول أيام رفع العقوبات الجزئي، فكان الأمر دعاية سيئة للسودان الساعي لإزالة اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب التي أنشأها الرئيس بوش.

و

لا يريد

السودان تكرار تجربة القطريين مع القضايا المصرية، حيث تهاونت قطر مع «تسريبات النيابة المصرية» حتى فوجئت الدوحة بقضية التخابر مع قطر والتي تتهم فيها النيابة المصرية قطر بالتجسس عليها، ولذلك فبعد يوم واحد من تسريبات النيابة خرج بيان يندد بها من السفارة السودانية في القاهرة ويؤكد خلو السودان من هذا التنظيم.

لن يتغير وضع الإخوان المسلمين- المصريين- في السودان؛ لأن السودان لا يحتضن أي قيادات للإخوان مقارنة بتركيا أو قطر أو ماليزيا، ولهذا سيبقى وضع الإخوان وخصوصًا جناح محمود عزت الذين يتمتعون بحسن سير وسلوك مقارنة بأقرانهم من جماعة محمد كمال الذين يجلبون إليهم أنظار الإعلام كل مرة بإعلان انتخاباتهم التي كانت استفزازية للنظام المصري والتي جلبت الحرج للنظام السوداني.

ولذلك أنا أعتقد أن غض الطرف الذي يمارسه النظام السوداني بحق الإخوان المسلمين -المصريين- سيستمر طالما هم لا يثيرون المشاكل، ربما سيتم الطلب منهم أن يتجهوا ليعيشوا حياة طبيعية وليعملوا في التجارة أو في أي مجال لا يجذب الضوضاء، وحتى لو تم تصنيف الإخوان كجماعة إرهابية فلا أتوقع شخصيًا أن يقوم السودان بتسليم أي إخواني لمصر لكن ربما يُطلب من الإخوان مغادرة الأراضي السودانية لو تزايدت الضغوط على الخرطوم خصوصًا من الحلفاء الخليجيين.

ولكن يبدو أن الخليجيين لم يعودوا متحمسين لنظام السيسي كما كانوا من قبل، خصوصًا بعد أن خذلهم في عاصفة الحزم وفي القضية السورية، ولذلك فلم يعودوا يهتمون بقضية الإخوان المسلمين المصريين من الأساس بعد أن انحسرت قوتهم على وقع الضربات الأمنية المتلاحقة.