كتبت في مقال سابق حول مساوئ الاعتداء الجسدي على الأطفال أو ما يعرف بالــ «ضرب»، وقد وجهت لي صديقة قبل يومين سؤالاً: كيف يمكن أن نربي أطفالنا دون أن نلجأ للضرب، وكيف نستطيع كأمهات أن نحقق ذلك فعلاً؟


1. لماذا نفترض وجوب خضوع الأطفال لرغباتنا؟

دعونا بداية نطرح سؤالاً؛ لماذا نفترض كآباء وأمهات وجوب خضوع الأطفال لرغباتنا وأفكارنا وسلوكياتنا؟ لماذا نجد في هذا الخضوع نوعًا من السعادة واللذة التي قد نفسرها بعبارة ابني «رائع» .. «يسمع الكلام» .. «لا يغلبني»، فيظهر الأطفال الذين يندرجون ضمن هذا النوع على أنهم «مثاليون» في عيون آبائهم. قياسًا على الأطفال الذين لا يخضعون لرغبات الأهل، وعادة ما يطلق عليهم أوصاف كالتمرد والعناد، لكوننا نحن الأهل لم «نحتمل» أن يمتنعوا عن تلبية أوامرنا ويخضعوا لسيطرتنا، فننظر إليهم على أنهم ليسوا طبيعيين ونبدأ بالبحث عن طرق التعامل معهم.

في واقع الأمر بعض الأمهات تضرب طفلها لأنها تجده غير مكترث بمشاعرها، أو لا يأبه لتنفيذ أوامرها، وهذا فعليًّا ما يدفع الأم لضرب ابنها وهي تقول: «عشان تتعلم تسمع الكلام»، «عشان تاني مرة ترد عليّ»! أنا متأكدة أن هناك أمهات يبتسمن وهنّ يقرأن الكلام، لأنّ كثيرًا منهنّ يرددن الجمل ذاتها على مسامع أطفالهن وهن يضربنهم، لكي يبررن الضرب، أو حتى يتخلصن من نوبات تأنيب الضمير التي قد تعتريهن بعد قيامهن بذلك.

وهنا لا بدّ للأم قبل أن تُقبل على أي عنف جسدي تجاه طفلها من أن تطرح سؤالاً: «لماذا أضربه؟هل لأنه فقط لا يريد سماع كلامي؟ هل لأن الضرب سيوحي له بسيطرتي عليه؟ هل لأنه مرر لي شعورًا بأني أم ضعيفة ويمكن تجاهلها؟»

غالبًا ما ستكتشف الأم بعد إجابتها أن هناك «خللا» ما لديها تحاول أن تخفيه من خلال الضرب، بدل اللجوء للحلول «السلمية» التي لا تترك ندوبا في نفسية الطفل.

كنت قد قرأت مؤخرا في إحدى الصفحات على الفيس بوك الخاصة بالأطفال، أشارت من خلال دراسة إلى أن الطفل المطيع لوالديه والذي يخضع لرغباتهما وينفّذ أوامرهما

غالباً ما سيعاني

من ضعف الشخصية والثقة بالذات عند الكبر. لاسيما وإن كانت هذه الطاعة مترتبة على عدم إزعاج الوالدين بقول «لا» أو الاعتراض على كل ما يصدر عنهما. وفي هذا السياق ليس من الصحيح أن تضربي طفلك لأنه حاول أن يستقلّ في مرحلة ما من النمو، والتي عادة ما تبدأ في

نهاية سن الثانية

أو قبل ذلك بقليل، أو قال لك «لا» في لحظة وهو يشعر فيها بالجوع أو الملل أو التعب أو الألم.


2. وهم فعالية الضرب

بناء على النقطة السابقة، قد تقول بعض الأمهات لكني لا أضرب طفلي لأنه لا يستجيب لأوامري، بل حتى أصوّب سلوكه وتصرفاته، وهذا المشهد يتكرر في الأماكن العامة كالسوق والشارع والمتنزهات، والتي تنهال فيها الأم على ابنها بالضرب لأنه أساء لأحدهم أو تصرف تصرفا غير ملائم. وهنا تعتقد الأمهات أن الضرب يقوّم السلوك ويهذّبه. وأنه يكبح تصرفات الطفل، ويمنعه من تكرارها مرّة أخرى.

في حقيقة الأمر «الطفل يتصرف بشكل جيد عندما يشعر بمشاعر إيجابية»، أي في الوقت الذي تعتقد فيه الأم أن بكاء طفلها وشعوره بــ «آلام» الضرب قد يدفعه لتقويم سلوكه وعدم تكراره، تأتي التجارب الشخصية لنسف فرضية الأم حول «فعالية الضرب كوسيلة للتهذيب». فكيف مثلاً لو حاولت الأم أن توجه سلوك طفلها «بالحب» وتغمره بالعاطفة التي تغذّي مشاعره بصورة إيجابية، مقوّمة للفعل ومبينة له، ومنبّهة إلى عواقب تكراره في الوقت ذاته.

شعور الطفل بالإيجابية يجعله يوقّر الأم من جهة كونها مخزنا للعواطف الآمنة، كما يحفظه من الوقوع في الخطأ لا سيما بعد معالجته من الأم معالجة سليمة ومنطقية ودقيقة بعيدا عن «جنون الضرب». مقابل طفل يتعرض للضرب في حال إساءة الفعل، مما يترك فجوة بينه وبين أمه كمصدر للخوف لا للاحترام، وأَضف لذلك مع إمكانية تكرار السلوك في غيابها. عدا الآثار السلبية المستقبلية حيث ستقف أمامها الأم عاجزة عن توجيه ابنها بالضرب لكونه أصبح «شابا»، وهنا ستواجه كل أشكال التمرد، ومحاولات جمّة للتخلص من سيطرتها وسطوتها.


3. هل يلتقي الضرب مع الحوار؟

هل يلتقي الضرب مع الحوار؟ هل تحاورين طفلك؟ هل تفتحين قنوات للاتصال الفعّال؟ باعتقادي ليس هناك أم ذكية تستخدم الحوار في التربية وتلجأ للضرب في الوقت ذاته؛ لأن الحوار فعليا يؤسس لعملية فهم عميقة وعلاقة متينة بين الطفل والأم، وهذا سيجعل الطفل يعلم الأمور التي تسعد وتغضب أمه. كذلك بالنسبة للأم ستكون أكثر قربا من طفلها، وتفهما لاحتياجاته، وتفسيرا لسلوكه. فالحوار بالأصل في مكنونه «عملية عاطفية»، تغذي الطفل بمشاعر جميلة وترسل له رسائل ضمنية أن الأم تقرّ باحتياجاته، وتتفهم مشاعره، وأنها تبذل قصارى جهدها لتكون قريبة منه «وعيا» لا فقط جسدا.

الحوار ليس عملية معقّدة، بل هي تلقائية ليست مرتهنة بوقت ولا مكان. وذلك ردا على سؤال بعض الأمهات كيف ومتى أحاور طفلي. كأن تفتحي معه حوارا حول يومه في المدرسة، والمواقف التي حصلت معه، كأن تحاوريه حول سلوك ما صدر عنه، أو حول قصة رويتها له. وينطبق الحوار على ما يحب وما يكره من المأكولات والألعاب والسلوكيات وكل ذلك.

الحوار قد يكون على مائدة طعامٍ دافئة، أو أثناء غسل الصحون، أو الطهي، ليس للحوار وقت، ولكن المطلوب في الحوار هو «الحضور الذهني» للأم بأن تتعامل مع ما يقوله طفلها بصورة جدّية، وأن توليه اهتماما وتتفاعل معه. وبهذا يكون الحوار شكلاً من أشكال التواصل الفعّال.

فلنتخيل مثلا أما تقضي وقتها في البيت تحاور طفلها، تحاوره عن كل شيء. مقابل أم نادرا ما تنظر في وجه طفلها لانشغالها بشيء ما. ونادرا ما تسأله عن يومه في المدرسة، أو عن أصدقائه، هناك أمهات لا يعلمن شيئا عن أبنائهن، لا فيما يكرهون أو يشتهون. فكيف ستكون شكل العلاقة بين الأم والطفل فيما بعد؟ ما مستقبل علاقة لا تستطيع فيها الأم تفسير سلوكيات ابنها ومعالجتها؟ مقابل أم تدرك تماما دوافع السلوك لكونها أكثر تفاعلاً وتواصلاً مع طفلها.

في الوقت الذي أشعر فيه أن خللا ما أصاب العلاقة مع طفلتي كأم، كأن نلجأ فجأة للصراخ أو يعترينا الغضب، أدرك حينها أننا في هذا اليوم لم نتحاور جيدا، ولم نفعّل اتصالنا.