في سنوات الطفولة والمراهقة، تُقت كثيراً لتذوق أكل المطاعم، لكنني أبداً لم أمتلك الإمكانيات الكافية التي تمكنني من اتخاذ تلك الخطوة، كانت موارد أسرتنا الصغيرة تكفي احتياجاتنا بالكاد، لذا كان قرار تناول الطعام في الخارج أشبه بالمستحيل، لكن أمي لطالما حاولت تعويض ذلك بقولها «هعملكم بيتزا أحسن من بتاعت المطاعم»، «ده بقا كباب مش موجود عند الكيلاني» (أشهر مطعم للمشويات في مدينتي)، «والله أكل زي الفل، بس أنتوا عايزين تروحوا تضيعوا الفلوس على كلام فاضي مبيتكلفش فلوس»… إلى آخر تلك الديباجات المحفوظة في بيوتنا المصرية.

كانت أمي -رحمها الله- طبّاخة ماهرة، لديها من الأصناف الأصلية ما يعجز اللسان عن وصفه، لكنها أبداً لم تنجح في صنع وصفات المطاعم في المنزل. حتى إن كذبنا عليها وأقنعناها أنها فعلت.

ما علاقة تلك المقدمة بمقال عن فيلم سينمائي، ستعرف الإجابة بعد قليل.

في فيلمه «

ولد من الجنة

» الحائز على سعفة «كان» الذهبية كأفضل سيناريو، يحاول المخرج السويدي المصري «طارق صالح» تسليط الضوء على صراع قائم بين مشيخة الأزهر ومؤسسة الرئاسة، حيث يداهم الموت شيخ الأزهر بشكل مفاجئ، ويبدأ الصراع حول منْ يخلف شيخ الأزهر، بين الموالين للدولة، والمعارضين لها.

منذ الإعلان الأول عن الفيلم، ثار جدل واسع، فالمخرج وكاتب السيناريو، طارق صالح، ممنوع من دخول مصر منذ العام 2015 بعد عرض فيلمه الأول «

حادث النيل هيلتون

» الذي تأثر بشكل كبير في معالجته بحادثة مقتل المطربة «سوزان تميم»، وغاص كثيراً في تفاصيل فساد الشرطة المصرية، الأمر الذي تسبب في منع عرضه داخل مصر، رغم نجاحه الملفت خارجها.

قبل بداية عرض «ولد من الجنة» في مهرجان لندن للأفلام، اعتلى المخرج المنصة وسأل: «هل هناك مصريون هنا؟»، رفع عديد قليل من الحضور أياديهم، أخبرنا المخرج ألا ننزعج من عدم دقة اللهجة، لأنه اضطر للاستعانة بممثلين غير مصريين، حيث إنه لم يقم بالتصوير في مصر لأسباب كثيرة، «سندركها بعد المشاهدة».

لفتته الكريمة بالاعتذار قبل العرض ملأتني بالتفاؤل، لكن ما حدث أن كل عيوب الفيلم لا علاقة لها باللهجة أصلاً.

فكرة الغوص داخل مؤسسة دينية كالأزهر في حد ذاتها هي فكرة مُبهرة، هذا العالم غير مطروق فنياً، لا أحد يعلم دواخله إلا منْ اختبره، لكن ما حدث فعلاً كان إضاعة لتلك الفكرة المُبهرة، فالعالم الذي تم تكوينه داخل الفيلم كان مُشوّهاً للغاية، فمن ناحية كان واضحاً أن زمن وقوع الأحداث هو ما بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم، أي خلال الثماني سنوات السابقة، لكن على الجهة الأخرى، بدا الأزهر كأنه منذ مائة عام، قائماً على الحلقات الدراسية في ساحة الجامع، حتى صراعات مشايخه كانت مشوهة.

يبدو أن كاتب السيناريو اعتمد على مفهوم رحلة البطل كما صاغه «جوزيف كامبل» قبل عقود عدة، نداء المغامرة، الرفض، تدخل خارجي، اجتياز عقبة أولية، ثم ذروة المحنة يتبعها غواية ثم تراجع واستقرار. كلها عناصر توفرت لبطل القصة، لكنها ظهرت منفصلة على الشاشة، لا علاقة لكل فصل في الرحلة بما تلاه ولا بما سبقه، لم أعرف حتى انتهاء الفيلم دوافع كل شيخ، ولا مرجعيته، خيوط الشخصيات تنتهي فجأة، وصراعات فرعية أخرى تولد بشكل مفاجئ أيضاً، المحقق والبطل يذهبان لمنزل الشيخ ويكشفان شيئاً يُشينه، لكن الشيخ لا يعلم بذهابهما، كيف هذا؟ لا أعلم.

الدولة ترهب الجميع ولا تخاف من أي أحد، وتخفي شيخاً بشكل قسري حتى ظنّ الناس أنه مات بالفعل، لكنها تخاف أن يخرج -الشيخ المخفي قسرياً- للإعلام. كيف هذا؟ لا أعلم.

على قدر جمال الفكرة الأساسية، كان قدر خيبة الأمل من الجمل الحوارية؛ فالحوار أتى مباشراً جداً وغير مترابط أبداً، ففي أحد المشاهد، يقول البطل لرئيسه إن «طارق بن زياد» لم يحرق سفنه وإنه لم يمتلك سفناً من الأساس، وإن الجنود انتصروا لأنهم أرادوا الانتصار. تتوقع أنت كمشاهد بعد هذا أن شيئاً ما سيتغير، يؤسفني أن أقول لك، لا، لن يحدث، يبقى الخوف هو الدافع الوحيد للبطل حتى النهاية، وتبقى الخطابة المباشرة التي لا تحمل أي معنى هي سيدة الموقف، حتى إنني في واحد من مشاهد الفيلم، سأل أحدهم البطل «أنت منين يا ولد»، توقعت أن تكون إجابته «أنا ولد من الجنة» لكنه والحمدلله خيّب ظني ونطق بغير ذلك.

لست ناقداً سينمائياً، ولا أعرف كيف أكتب من دون حرق للأحداث، لذا سأخبركم بنكتة قالها الزعيم «عادل إمام» في مسرحية «الواد سيد الشغال»: «أنت أصلاً مش واخد بالك، ما هو أصل المزلقان كان مفتوح ساعتها، في واد معدي بحمار»، ثم يسترسل بحوار غير ذي معنى يختمه بفقرة «قام الخاتم الدهب بتاعه وقع منه في المية، دور عليه أسبوع في المية مالاقاهوش، بعد سنتين، سنتين، راح اشترى سمكة مشوية أد كده أهوه، أيه رأيك بيفتح السمكة… مالقاش الخاتم!».

يبدو أن «الواد سيد الشغال» كان «واد من الجنة».

على كل تلك الملاحظات، نجح «صالح» في خلق صورة غنية بصرياً، وفي تصميم شريط صوت ممتع من الأغاني القديمة وأصوات القرّاء المصريين، الموسيقى كانت جميلة للغاية، لكن كما يُقال في أمثالنا «الحلو ما يكملش».

أخيراً، هل شاهدت ثلاثية «رون هاورد» عن الفاتيكان؟ تحديداً الجزء الثاني «

ملائكة وشياطين

»؟

إذا لم تكن قد شاهدتها، فأعلم أنك لست وحدك، فعلى ما يبدو أن لجنة تحكيم أبرز مهرجانات السينما في العالم لم تشاهدها كذلك، حتى إنها أعطت جائزتها الكبرى لفيلم لا يمكن وصفه إلا أنه كمحاولات أمي لصنع البيتزا في المنزل.

عفواً أمي… بيتزا المطاعم كانت أطيب.