انتهت انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2020 بإعلان فوز المرشح الديمقراطي جو بادين، ولكنه لم يكن أكبر الفائزين من هذا السباق الانتخابي المثير، وإنما سبقته لحصد المغانم كيانات أخرى حقّقت أرباحًا كُبرى على هامش هذه الانتخابات، وهي مكاتب المراهنات السياسية!

يحتلُّ قائمة الفائزين

موقع «بيتفير betfair

»، وهو واحدٌ من أكبر مكاتب المراهنات البريطانية عبر الإنترنت، بعد ما حقّق 428 مليون دولار حتى يوم 1 نوفمبر 2020 في الرهان السياسي الذي أجراه بين زوّراه على اسم الفائز في انتخابات أمريكا؛ ترامب أم بايدن.

وبهذه الأرباح الهائلة، التي قاربت على النصف مليار دولار، فرضت المراهنات السياسية نفسها، كعاملٍ شديد التأثير، على انتخابات 2020 وربما في أي انتخابات مستقبلية، بعد ما أظهرت نتائج المراهنات تماثلًا استباقيًا واضحًا مع نتائج صناديق الانتخابات، ما قد يجعلها مؤشرًا مهمًا يلجأ إليه المتابعون لتحديد فُرص فوز مرشحيهم خلال الانتخابات، أكثر من اعتمادهم على استطلاعات الرأي التقليدية.

تغريدة مواطن أمريكي عن اعتماده على مكاتب المراهنات لمعرفة الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية
تغريدة مواطن أمريكي عن اعتماده على مكاتب المراهنات لمعرفة الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية

في هذه التغريدة، يقول المواطن الأمريكي جو شميت، إنه بدلاً من متابعة نتائج الانتخابات الأولية سيكتفي بالنظر إلى النتائج النهائية لمكاتب المراهنات ليعرف النتيجة مقدمًا. وعلى الرغم من أن شميت ليس مواطنًا شهيرًا، ولا يعمل محللاً سياسيًّا إلا أن تدوينته هذه كانت معبرة بشكل واضح، بعد ما لخّصت ببلاغة التأثير المتنامي للأرقام والتحليلات التي لا تتوقف مكاتب المراهنات عن نشرها عبر صفحاتها ومواقعها الإلكترونية، والتي قد يأتي يومٌ يتّبعها فيها الأمريكيون كالعميان للتعرُّف على مسار الانتخابات ويعتبرونها أكثر الوسائل نجاحًا للتعرُّف على هوية رئيسهم المقبل.


تاريخ المراهانات السياسية

كثيرٌ من الدول الغربية تسمح بالمقامرات السياسية حتى أوقات الحروب، مع الحرص على عدم تجاوز خطوطٍ حمراء تختلف من دولة لأخرى، في بريطانيا مثلاً تُمنع المقامرة على موت الساسة أو القضايا المرفوعة في المحاكم، كما يحظر على أي مرشح أن يشترك في رهان على نتيجة الانتخابات المشترك فيها. [1]

وبالطبع، فإن الأشكال الأولى للمراهنات السياسية كانت تختلف بكثير عن المظاهر الإلكترونية التي تتخذها الآن؛ فخلال فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كان هواة المقامرات السياسية يتراهنون على أشياء بسيطة مثل استغناء الخاسر عن شيء ثمين أو بحلق رأسه أو بارتداء ملابس خرقاء. [2]

في عام 2004 نشر عالما الاقتصاد بول دبليو رود

وكولمان س. سترومبف


ورقة بحثية

عن تاريخ سوق المراهانات السياسية في مجلة «

Journal of Economic Perspectives

»، افترضا فيها أن سوق المراهانات السياسية في أوروبا ظهر مع بدايات القرن الماضي، وهو الاعتقاد الذي ثبت خطؤه على يدي العالمين نفسيهما، بعد ما تراجعا عن هذا الرأي في

ورقة بحثية

جديدة أكّدا فيها أن تاريخ المراهنات السياسية ممتدٌّ في أوروبا منذ مئات السنين.

وكأحد أقدم الأدلة على ذلك، ما ذكره المؤرِّخ الإنجليزي جورج أوتو تريفيليان خلال استعراضه

السيرة الذاتية

للسياسي «تشارليز جيمس فوكس»، والذي وُصف بـ«المقامر المخضرم» بسبب اشتراكه في رهانات عِدة بالأمور السياسية على مدار 10 أعوام كاملة بدأت في عام 1771. [3]

شيئًا فشيئًا راح نشاط المراهنات السياسية يتوغّل في دول أوروبا ومنها انتقل إلى أمريكا، وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بفترة ضئيلة أصبح نشاطًا شعبيًا غير رسمي منتشر بين أهل الولايات المتحدة في ساحات البلياردو، ومع ازدهار الوضع السياسي في الولايات المتحدة، ظهر ممثلون للمراهنات السياسية في صفوف الشعب الأمريكي لأول مرة، وبدأوا ينظّمون السيطرة على المراهنات السياسية في أمريكا. [4]

تحولت الرهانات السياسية في أمريكا إلى ظاهرة؛ انتشرت المقامرة السياسية بين الشعب الأمريكي انتشارًا واسعًا، كما تبادلت الصحف الأخبار والتقارير عن نتائجها، ما زاد من معدلات الإقبال على الرهانات، وذلك بالرغم من القلق الذي أبدته الحكومة الأمريكية تجاه هذه الأنشطة، و

فقًا لجريدة واشنطن بوست

.

لم يمنع هذا القلق الرسمي من شيوع نشاط المقامرة السياسية في أمريكا، بعدما تطوَّر مجال عمل مفوضي المراهانات وتحوّل نشاطهم من ساحات البلياردو إلى مكاتبٍ غير رسمية (أو ما يُسمّى بالبورصة الثانوية) في ولاية نيويورك، التي سريعًا ما أصبحت مركزًا للمقامرة السياسية في أمريكا. [5]

تحكمت تلك المكاتب في حركة «التداول السياسي» التي جرت في شارع البورصة (وول استريت Wall Street) بنيويورك، وفي العام 1916 حصدت الرهانات

مبلغ يُقدر بـ 160 مليون دولار

تقريبًا بشأن الانتخابات الرئاسية التي جرت في نفس العام، بعدما توقّع المُراهنون فوز وودرو ويلسون (رئيس أمريكا الثامن والعشرون) بالدورة الثانية، وهذا ما حدث بالفعل، وانتشرت، حينها،

الأقاويل حول محاولات تلاعب

أحد مفوضي الرهانات في نتائج المقامرة لضمان المكسب، ما كان إعلانًا بالمتاعب التي يُمكن أن تجرّها هذه الأنشطة على البلاد إذا ما استمرّت طويلاً.

أقلقت تلك المزاعم

حكومة ولاية نيويورك

، ورأت أن تلك الرهانات قد تدفع المشاركين إلى تزوير أصواتهم الانتخابية لضمان الفوز بقيمة الرهان، ما دفع ولاية نيويورك إلى منع تلك الأنشطة في بدايات الحرب العالمية الثانية، كما مُنعت الصحف في نيويورك من تداول أخبار المراهنات في السياسة.

وبالرغم من هذا التحريم «النيويوركي» ظلَّ النشاط المراهناتي منتشرًا في ربوع الولايات المتحدة، وإن تأثر بشدة بسبب خسارته لعاصمته الأولى؛ نيويورك، حتى تلقى الضربة الأكبر حين أصدرت الحكومة الفيدرالية قانون عام 1992 الذي أمر بمنع المراهنات السياسية في الولايات الأمريكية.

من حينها، قلَّ الاهتمام في أمريكا بالرهانات السياسية، ولجأ محبو هذه النوعية من الأنشطة إلى مكاتب

المراهنات البريطانية والاسترالية

، والتي أتاحت نُسخها «الأونلاين» المجال للمقامرين الأمريكيين بالعودة إلى هذا النشاط من جديد، ما أنعش داء المراهنة السياسية في أمريكا، وعادت الصحف الأمريكية لتناول أخبارها، حتى أن

مات كوسجريف

مدير مكتب المراهنات (بيت إم جي إم –

betmgm sportsbook

) توقع أن الحكومة الفيدرالية الأمريكية قد تسمح للمراهنات السياسية بالعودة للسباق السياسي مُجددًا في الانتخابات الرئاسية عام 2028.

هل
تؤثر المراهنات على النتائج؟

وفقًا لدراسة بول دبليو رود

وكولمان س. سترومبف

، فإن نتائج المراهنات السياسية باتت تمتلك الكثير من البيانات والأرقام تُساعدها على استبصار وتوقع النتائج الصحيحة، ما يجعل نتائجها النهائية أقرب ما تكون للواقع، وأبرز الأمثلة على ذلك تحقيق مكاتب المراهنات البريطانية أرقامًا متقاربة جدًا مع نتائج الانتخابات الأمريكية خلال الانتخابات الرئاسية عامي 2016 و2020.

في الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا العام، أبدت الصُحُف اهتمامًا متزايدًا بتغطية توجهات مكاتب المراهنات السياسية، فاهتمّت الجرائد بالتفوق الذي

أحرزه ترامب

على منافسه بايدن في بداية السباق الانتخابي، وتحديدًا منذ بداية شهر سبتمبر وحتى أوائل شهر نوفمبر، وهو ما تغيّر عند إعلان إصابة الرئيس السابق ترامب بفيروس كورونا، والذي حتّم إيقاف «تداول التراهن» لمدة يومين، وفور إعادة التداول مُجددًا مالت كفّة جميع المؤشرات إلى بايدن، حتى وصلت في يوم 28 أكتوبر 2020، إلى فارق شاسع بين الرجلين، بعد ما تجاوزت حظوظ بايدن نسبة الـ66% فيما تراجعت فُرَص ترامب لتصل إلى 34% فقط.

تقدم بايدن في نتائج مكاتب المراهنات
تقدم بايدن في نتائج مكاتب المراهنات

وكان هذا التحول الانتخابي واحدًا من باقي

عناصر السيناريو الكامل

للانتخابات الرئاسية الفِعلية، الذي توقّعته حركة المراهنات بالكامل قبل أن يحدث؛ نسبة الأصوات المتقاربة بين ترامب وبايدن، وأي الولايات تميل إلى ترامب وأيها تميل إلى بايدن، وما الولاية الفارقة في الأحداث، حتى بدا الأمر كما لو أن هناك صندوقين للانتخابات الأمريكية، أحدهما يسبق الثاني بخطوات، واحدٌ على الإنترنت والآخر في مراكز الاقتراع.

وفي ختام السباق، أُعلن أن انتخابات 2020 شهدت تزايدًا واضحًا في أعداد الرهانات مقارنةً بما حدث في الانتخابات الماضية، كما أنها منحتنا مؤشرًا عن حجم «الهوى السياسي» غير المعلن بالضرورة في عالم رجال الأعمال والسياسة الخارجية، بعد ما راهن أحد رجال الأعمال بـ 1.29 مليون دولار على فوز بايدن بالانتخابات، فيما راهن بيجال فيراج (قائد حزب بريكست في بريطانيا)  بـ13198.53 دولار على فوز ترامب، في الوقت الذي راهَن فيه مايكل كوهين (المحامي السابق للرئيس ترامب) على فوز بايدن بنفس المبلغ، وهي خطوات لا تخلو من دلالات سياسية بلا شك.

حجم المراهنات بمرور الوقت قبل انتخابات الرئاسة
حجم المراهنات بمرور الوقت قبل انتخابات الرئاسة

هذا النجاح المتنامي لمكاتب المراهنات السياسية في التنبؤ بالنتيجة هو أكثر ما يُخيف

مات بتلر

المستشار السياسي ومدير حملة انتخابات ديفين نونيس (عضو مجلس النواب في أمريكا) لعام 2020، والذي أكد لـ«إضاءات»، أنه بالرغم من شعبية الرهانات السياسية، فإنه يرفضها تمامًا، ويرى أنها تخلق تضاربات بين الناخبين مما يضر بسير العملية الانتخابية، ويعتبر بتلر أن كونه مستشاراً سياسياً يُحتِّم عليه أن يّوجِّه عملاءه للنجاح لا المراهنة عليهم.


.alert-box {
color:#555;
border-radius:10px;
font-size: 16px;
font-family: gretaregular, Cairo, -apple-system, BlinkMacSystemFont, “segoe ui”, Roboto, “helvetica neue”, Arial, sans-serif, “apple color emoji”, “segoe ui emoji”, “segoe ui symbol”, “noto color emoji”;
padding:10px 10px 10px 36px;
margin:10px;
text-align: center;
}
.alert-box span {
font-weight:bold;
text-transform:uppercase;
}
.notice {
background:#e3f7fc no-repeat 10px 50%;
border:1px solid #8ed9f6;

}



تم إنتاج هذا المقال ضمن برنامج استخدامات متعددة، الذي تنظمه مساحة 6 باب شرق

المراجع



  1. The Long History of Political Betting Markets: An International Perspective, Paul W. Rhode (University of Michigan), Koleman Strumpf (University of Kansas School of Business)
  2. المصدر السابق ذكره
  3. مجلة المنظورات الاقتصادية – الإصدار 18، الطبعة الثانية – ربيع 2004 – صفحة 128


    Journal of Economic Perspectives—Volume 18, Number 2—Spring 2004—Pages 128

  4. [4]

    المصدر نفسه

  5. [5]

    المصدر نفسه