محتوى مترجم
المصدر

Il Fatto Quotidiano
التاريخ
2018/07/04
الكاتب
دييجو فوسارو

لقد حان وقت استعادة «أنطونيو جرامشي» لتحريره من القيود المُهلكة لليسار الليبرالي الذي يُجسِّد كل ما كان جرامشي يناضل ضده. إن اليسار الآن أصبح ظاهرة ثقافية تقوم بتمجيد روابط الرأسمالية العالمية التي تكوِّن – بحسب جرامشي – بنيتها الفوقية.

«العولمة الجامحة، الهوية الأوروبية المُهمَّشة، هيمنة حلف شمال الأطلنطي، وسوق الخصخصة».. يمكننا القول إن ذلك هو المربع القيمي الذي لطالما تأثر اليسار به؛ اليسار الذي تحوَّل من النضال ضد الرأسمالية إلى النضال لمصلحة الرأسمالية، من النضال ضد الإمبريالية إلى النضال لمصلحة الإمبريالية، من النضال في سبيل الهيمنة إلى النضال الذي يسلبه سبل الهيمنة؛ ونخص هنا بالذكر تلك الكتلة الشعبية الوطنية التي نالها الضرر الأكبر جرَّاء سياسات الرأسمالية.

على جانب، أصبح الشعب اليوم يستمع ويتلقَّى كثيرًا، لكنه لم يعد قادرًا مطلقًا على الفهم والاستيعاب. وعلى الجانب الآخر، بات المثقفون الآن باتوا يعرفون كثيرًا، ولكنهم غير قادرين مطلقًا على التعاطي والاشتباك مع الواقع بشكل عملي. وبالتالي، فإن خلق رابط بين الطرفين ضروري من أجل صنع علاقة بين الشعور وبين المعرفة والفهم، ومن أجل تجنُّب العزلة النخبوية للمثقفين «باعتبارهم طائفة منفصلة أو كهنوت»، وأيضًا من أجل تلاشي ظاهرة إقصاء العامة ككتلة سلبية جاهلة.

ومن هنا تأتي الحاجة لتأسيس أدبيات شعبية وطنية، وبشكل أعم، الحاجة إلى «مثقفين متصلين عضويًّا بتلك الكتلة الشعبية الوطنية» بغية إثرائها وإعادة هيكلتها على المستويين الثقافي والقيمي.

وفي مواجهة الأحزاب والمثقفين الذين يمثلون الكتلة التاريخية المهيمنة والرأسمالية بأكثر أشكالها جموحًا، يصبح من الضروري خلق حزب وطبقة ثقافية يمثلون المركز الخاضع للسيطرة: أعني الجماهير الشعبية الوطنية المهزومة والمحرومة إلى اليوم من التمثيل السياسي ومن المرجعية الثقافية، بل أيضًا من رؤيتها العضوية الخاصة للعالم.

من ثَمَّ، فإن من الضروري التوقف عن التعويل على تلك الطبقة الكهنوتية من المثقفين العضويين الذين لطالما مثَّلوا الكتلة التاريخية للرأسمالية البعيدة عن حاجات الشعب، والمضي قُدمًا من أجل «خلق طبقة ثقافية جديدة» من خلال العلاقة الشعورية التي ستنشأ بين الجماهير من جهة، وبين الرؤية الوطنية الواضحة من جهة أخرى، وسيكون من مهماتها تنظيم الحالة الثورية والجمع بين الحزب الشيوعي والشعب، الأمير الحديث* والخاضعين للهيمنة.

في ضوء ذلك، يمكننا فهم إصرار جرامشي في كرَّاساته على خلق طبقة ثقافية جديدة تعرف كيفية التعاطي مع الجماهير بشكل فعال، وتمر إلى الشكل الجديد من الرؤية المشتركة بين المثقفين والجماهير القادرة على تفضيل مصلحة المظلومين والمقهورين بدعم شعبي وطني. وبالرجوع إلى كلمات جرامشي في «كراسات السجن»، فإن إنشاء ثقافة جديدة هو في جوهره إضفاء الطابع الاجتماعي على الرؤى العالمية الجديدة التي تكوِّن «الأساس لكل الأفعال الحيوية» لكتلة موحَّدة في الوعي، وبالتالي سيكون لها القدرة على التفكير بشكل مشترك جوهريًّا، وعليه، العمل بشكل مشترك وفق رؤية واحدة.

إن خلق ثقافة جديدة لا يعني فقط القيام باكتشافات أصيلة بشكل منفصل، بل يعني أيضًا، وخاصة وبشدة، نشر الحقائق المكتشفة بالفعل بغية إضفاء الصفة الاجتماعية عليها إن جاز التعبير، وبالتالي جعلها أساس الأفعال الحيوية، ومن ثم جعلها العنصر الأساسي الذي يقوم بمهمة تنسيق وتنظيم التنظير الثقافي والقيمي. إن مجموعة من الرجال الذين يقودهم التفكير بشكل متماسك وبطريقة موحدة، هو في الواقع عمل فلسفي أكثر أهمية وأصالة من اكتشاف يقوم به فيلسوف عبقري لحقيقة جديدة تظل بمثابة تراث لمجموعات صغيرة من المثقفين.

إن تحوُّل فلسفة الممارسة Praxis إلى أيديولوجية حشد وتعبئة هي الوظيفة الجوهرية نظريًّا وعمليًّا، التي عيَّنها جرامشي لكراساته في السجن. وهذا ما يجعل من جرامشي اليوم فيلسوفًا شعبويًّا لا ينتمي إلى النخبة الرأسمالية ولا اليسار الثقافي الذي يمثله الآن.


هامش:-

* «الأمير الحديث»: هو وصف أطلقه جرامشي على الحزب نظرًا لكونه يلعب في العصر الحديث دور توحيد القوى الوطنية، وهو الدور الذي كان يلعبه الأمير قديمًا.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.