من أهم ما يميز كتاب الأستاذ امْحمد العثماني «ألواح جزولة والتشريع الإسلامي» -وقد عرَّفنا به في

مقالة سابقة

– هو «منهجه» القائم على الجمع بين الدرس الاجتماعي التاريخي لمنطقة محددة، وبين الدرس الفقهي بأصوله وفروعه، إلى جانب النظر المقاصدي. وهذا المزيج المنهجي نادر الوجود في كتابات الفقهاء، رغم أهميته الكبرى في الكشف عن وقائع التفاعل بين الأحكام الشرعية والاجتهادات الفقهية الأصولية من ناحية، واختيارات الأفراد والجماعات في التصرفات والسلوكيات الحياتية العملية من ناحية ثانية.

وهذا المزيج، أو التركيب المنهجي، هو ما سبق أن نوهتُ إليه في سياق حديثي عن «علم اجتماع الفقه»؛ باعتبار أنه «العلم الغائب» عن مشاغل علماء الفقه وعلماء الاجتماع في وقتنا الحاضر. ويقتضي حضور هذا «العلم الغائب» والاشتغال به أن تتطور البحوث الفقهية بمنظار اجتماعي شامل وليس جزئيًا فحسب، وعملي وليس نظريًا فحسب، وميداني وليس مكتبيًا، فحسب.

وقد تبينت لي أهمية «علم اجتماع الفقه» في الكشف عن مفهوم «المصلحة» باعتبار أن المصلحة هي مركز «المقاصد العامة للشريعة» وقطبها الأعظم. وتأكدتُ عبر دراستي نظام الوقف فقهًا وممارسة أن ثمة فرقًا جوهريًا بين: علم «التاريخ الاجتماعي للفقه»، و«علم اجتماع الفقه». فالأول مداره هو: دراسة الإدراكات والاختيارات الاجتماعية من بين الاجتهادات الفقهية في مكان وزمان محددين. أما الثاني فمداره هو: الخط الواصل بين اجتهادات المجتهدين من أهل الاجتهاد ومن المسئولين عن تسيير مصالح الناس، من جهة، وردود فعل المكلفين أفرادًا وجماعات على التحديات والمشكلات والوقائع التي عاصروها من جهة أخرى. وعلى أي نحو استجابوا لتلك التحديات؟ أم أنهم ذهبوا إلى اختيارات وردود أفعال لها مسوغات تشريعية أخرى؟

وكتاب الأستاذ العثماني يندرج من هذه الزاوية المنهجية في جهود الـتأسيس لعلم اجتماع الفقه بالمعنى السابق شرحه. فقد خصص الفصل الثاني منه لبحث «الحياة الاجتماعية في جزولة»؛ ليس من قبيل الاستكمال الشكلي لأركان بحثه، وإنما كما قال هو «ليستعين به على فهم ألواحها، وعلى الحكم لها أو عليها، ومن دون ذلك لا يمكن إدراك روحها، ولا دراستها دراسة مفيدة» (ص59). وفي سبيل ذلك بحث ودرس أربع مسائل:

أولاً: تكوين الأسرة

وهي تتأسس في جزولة ـ-كما في الأقطار الإسلامية عامة- على أصول شرعية. وكان التزاوج فيها بطريقة سهلة عادية، وبأقل ما يمكن من الكلفة. ونلاحظ هنا أن كلام المؤلف ينصرف إلى فترة من قبل الاحتلال الفرنسي للمغرب في سنة 1912م، أما اليوم فالأحوال تغيرت تغيرًا شبه جذري. وعلى أية حال، فقد لاحظ المؤلف أن ثمة ثلاثة إجراءات لتكوين الأسرة هي:

  1. الخطبة، وكانت تتم في جزولة ببساطة نادرة. وكانت الأسرة الجزولية لا ترغب في الزواج لأبنائها أو بناتها إلا لخلق وعقل ودين تطبيقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تُنكح المرأة لأربع، لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (أخرجه البخاري ومسلم). والبنت الجزولية لا تجبر على الزواج إن أفصحت، طبق ما جاء في صريح الحديث الصحيح «لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها» (أخرجه البخاري ومسلم). وإذا وقع الجواب على الخاطب برفض طلبه دون تعليل، أو جاء بكلمة «نحن غير مستعدين» فإن ذلك يكون وصمة عار فيه، فيسير خبره وسط العائلة، فالقرية، ثم القبيلة، وتتحاشاه العائلات، وتلام عائلته على سلوكه. ولهذا كانت الأسر كلها تراقب أبناءها، وتحرص على تربيتهم تربية تليق بوسطهم، وتكون مقبولة شرعًا.
  2. المهر والزفاف: ويكون دفع المهر يوم الزفاف، فإذا التأم الجمع فإن الوليين يتصافحان والشهود حضور يستمعون، فيطلب ولي الخاطب من ولي المخطوبة يد كريمته له، على سنة الله ورسوله، والآخر يجيبه بالقبول على شرط واحد هو «أن يفقهها في الدين»، وعلى صداق يبين قدره، ويكتب ذلك كله في وثيقة الزواج.
  3. الالتزام بالحقوق المتبادلة بين الزوجين، على أساس المساواة، ولا يستأثر الرجل في جزولة إلا بحق الرئاسة أو القوامة على شئونهما المشتركة، عملاً بقوله تعالى: «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة، والله عزيز حكيم» (البقرة:226). وعلى هذه الأسس يكون الخلاف بين الزوجين أشد استحالة من الغراب الأعصم، إلا ما هو عادي، ولذلك كان الطلاق قليلاً جدًا أو منعدمًا في جزولة، وهذه الحالة تشبه ندرة الطلاق بين الأكراد في شمال العراق وجنوب تركيا، ويحتاج وجه الشبه هذا إلى دراسة مقارنة لمعرفة الأسباب. وإذا وقع الطلاق، فكثيرًا ما يكون طلاقَ خُلعٍ إذا رأت الزوجة من زوجها انحرافًا في الأخلاق، أو تهاونًا في الدين، أو تنكرًا لواجباته. كما يقلُّ جدًا أن يكون للرجل أكثر من زوجة في جزولة، إلا في حالة الاضطرار الشديد، وبعد موافقة الأولى، فالمرأة الجزولية لا تتعصب إذا كان الحق في جانب الرجل، وهي تحنو عليه كما تحنو على ابنها أو أشد.

ثانيًا: دور المرأة الجزولية في حياة العائلة والقبيلة

وهنا يرصد المؤلف دورها في جزولة، ويوضح كيف أنها هي عماد الأسرة في العمل والإنتاج؛ فهي تقوم بنقل حاجيات المنزل، ورعي الماشية، وحرث الحقول، وجمع المحاصيل، ونسج الملابس بعد غزلها. ولذلك اعترف لها الفقهاء بالسعاية والكد، ومشاركة الرجل في الدخل والأرباح والميراث، فالجزوليون حيث تشتغل المرأة يعطونها نصيبًا من كل ما يدخل إلى المنزل إذا شاركت في تحصيله بأي وجه بعد تقويم العرفاء، وبهذا يحكم قضاتهم، فكتب علماء جزولة زاخرة بأحكام السعاية، وهي لم تكن مستحدثة، وإنما جاء أصلها في الأثر عن عمر بن الخطاب. (يشير المؤلف إلى فتوى ابن فرحون المعروفة بفتوى الكد والسعاية، والتي أباح فيها للمرأة أن يكون المال الذي شاركت زوجها في كسبه قسمة بالسوية بينها وبينه).

وللمرأة الجزولية دور أيضًا في حياة القبيلة، فقد كانت تؤدي كل ما يلزم الجماعة من مؤونة طعام أو نقد، وتسهم في الأعمال الخيرية المحلية وفي التمريض، وهي موصوفة بالعفاف والحياء، ومتمسكة بلباسها التقليدي وخمارها الشرعيين، وهي تقدم واجبات الضيافة، وتحافظ على الصلاة في دارها بواسطة المسمِّع من المسجد. وأورد المؤلف ثلاثة نماذج لنساء جزوليات كانت لهن إسهامات بارزة وهن: عائشة بنت الطيب، وعائشة بنت الشيخ الكبير الجشتيمية، وعائشة بنت محمد الحسني (ص 72ـ73)، وثلاثتهن كن قدوات حسان في العلم والإرشاد ومكارم الأخلاق.

ثالثًا: مظاهر التدين وممارساته في المجتمع الجزولي

وقد رصد المؤلف مظاهر التدين في ممارسات قبائل جزولة في حياتها اليومية، وأرجعها إلى أصول شرعية، وأهمها: أداء الأمانة لأهلها، وندرة وقوع حوادث خيانة الأمانة، والتعاون في المسرات والملمات وإنجاز الأعمال بأسلوب المزاملة دون الحصول على أجر نقدي، وكرم الضيافة والاحتفاء بالغريب الذي ينزل ديار جزولة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وإقامة الاحتفالات والأفراح مع المحافظة على الأخلاق القويمة، وإصلاح ذات البين، وتوظيف الأدب الشعبي لنشر الفضائل والحض عليها والدعوة إلى الإصلاح، ومنها: قصة «الحج» للريس بلعيد، وله أيضًا قصة «إضبيب» [الطبيب] التي يوصي فيها المحب بأن يتوصل إلى محبوبه بالطرق الشرعية وأن يبتعد عن السفاسف. وقصة «تُوتْمين» [النساء] وهي في ذم السفور. وقصة «واش أحبُّوض» [البطن المنحوس] للريس بو بكر أزعري، وهي في ذم الطمع والجشع والتنفير منهما.

ومن تلك المظاهر أيضًا: كثرة المساجد التي تقام فيها الجمع والجماعات في أحياء جزولة وفي أسواقها، هذا إضافة إلى أن كل بيت في جزولة فيه مسجد خاص بأهله؛ عملاً بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وأن تنظف فيما رواه أبو داوود والترمذي. ومن المظاهر أيضًا: كثرة مدارس العلم، واحترام المدرسين، يقول: «وليس في جزولة قبيلة لم تر أن من الواجب عليها تشييد مدرسة علمية خاصة بها، تدرس فيها العلوم العربية والمواد الإسلامية، قائمة بها بثلث أعشارها وبأحباس (أوقاف) أثريائها». وصدق الشيخ محمد المكي الناصري في قوله: «قبائل سوس الأقصى هي أشد القبائل خضوعًا للدين، وتضحية في سبيله».

رابعًا: القضاء والتحكيم

وقد تجلت مظاهر التدين والالتزام بأحكام الشريعة وأصولها في هذا الجانب بأوضح ما يكون. فمنطقة جزولة ظلت بعيدة عن الإدارة المركزية لفترات تارخية طويلة، وبخاصة قبل الانتداب الفرنسي. ولم ينتظم فيها القضاء الرسمي التابع للسلطة «المخزنية» إلا في بعض النقاط المحدودة. ولعل هذا كان سببًا من الأسباب التي جعلت أهلها يجترحون هيئتين عرفيتين للقضاء وإقامة العدالة بينهم وهما:

  1. هيئة العلماء القضاة، وكانوا يتولون الفصل في قضايا الأحوال الشخصية، ومشاكل الإرث، وذلك عن طريق التحكيم بين الخصمين، باعتبار أن التحكيم جائز بالكتاب والسنة والإجماع، بشرط أن يكون المحكم عدلاً غير خارج عن مذهب المتحاكمين. وكان العلماء المحكَّمون يتقاضون أجرًا نظير قيامهم بهذه المهمة برضاء طرفي القضية التي تطرح أمامهم للفصل فيها.
  2. أعيان الجماعة [إينفلاس]، وكانوا يتولونَ الفصل في الجنايات والمشكلات المدنية، وما يحدث في الأسواق من الغش والنقص في الكيل والوزن وما إلى ذلك. وكان مرجعهم للفصل في تلك القضايا قانون تصدره الجماعة وتصادق عليه بالإجماع، وهو ما يسمى «اللوح»، وتسجل فيه المخالفات وعقوباتها، ويقوم الأعيان بتطبيقه بحزم بعد التثبت من وقوع الجريمة أو المخالفة. وكانت أحكام الأعيان نهائية وغير قابلة للاستئناف، بخلاف أحكام العلماء التي كانت تقبل الاستئناف أمام عالم آخر، أو أمام المفتي. وكان من مهمات الأعيان تنفيذ أحكام الفقهاء والعلماء؛ أي أنهم كانوا يملكون صلاحيات تشريعية في القضايا الجنائية والمدنية، وصلاحيات تنفيذية في قضايا الإرث والعقارات ومخالفات الأسواق. وليس للأعيان أجور أو مرتبات لا من بيت المال ولا من القبيلة، بل كانوا يكتفون بنسبة مئوية مما يحكمون به على المخالف أو الشخص المدان.

ويتبين من المعطيات الاجتماعية التي درسها المؤلف: أن «العرفَ» كانت له سلطة إلزامية قوية في جزولة، وأن هذا العرف قد تركَّز في القضايا المدنية والجنائية، وكل ما تتدخل فيه «السياسة الشرعية»، وتتبعُ فيه «المصالح المرسلة» وفق مذهب الإمام مالك. وكان هذا أقصى ما يمكن لأهل جزولة عمله في ظل غياب السلطة القضائية المركزية عن ديارهم. وكانت وسيلتهم لتحقيق قدر من الانضباط في التقاضي أن يسجلوا ذلك في صيغة «ألواح». وقد جمع المؤلف خمسين لوحًا منها ودرسها دراسة أصولية وفقهية واجتماعية. ووجد أنها أسهمت في تكوين نظام قضائي مستقر، ومساير للشريعة في مقاصدها العامة، وفي الوقت نفسه مساير لمقتضيات الحياة وتطورها، مع مراعاة السياسات الشرعية في المسائل التي تتبع فيها أعراف البلاد، ويتولى أمر الفصل فيها أعيان الجماعة بحسب المصلحة التي ورد النص عليها في «الألواح».

وإلى جانب القواعد والضوابط والجزاءات التي كانت ترد في «اللوح»؛ فإن هذا اللوح كان يشتمل أيضًا على إجراءات تنفيذ العقوبات، وبخاصة تلك التي تتعلق بالمخالفات التي تمس شرف الإنسان أو ماله أو بدنه، أو تعرض الأمن الداخلي أو الخارجي للخطر. ورغم تعدد الألواح بتعدد قبائل جزولة، إلا أنها كانت متناسقة وغير متضاربة فيما بينها، مما يدل على استمدادها من مرجعية واحدة هي المرجعية الشرعية.

ومن سمات «الألواح» أنها كانت مرنة وليست جامدة؛ بمعنى أنه كان من الممكن تعديلها، أو حتى إلغاؤها باتفاق الإينفلاس (الأعيان) وإجماعهم. وقد درج الجزوليون على الاحتفاظ بتلك الألواح لدى أكبر الأعيان سنًا، أو في خزانة المسجد أو المدرسة أو الحصن. ويرجح الأستاذ العثماني أن تسميتها بالألواح مستمدة من قوله تعالى: «وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء» (الأعراف:145)، ومن قوله تعالى: «ولما سكت عن موسى الغضبُ أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون» (الأعراف: 154). وقيل إن الألواح كانت تطلق على عقود الالتزامات في اللغة الشلحية القديمة. وقيل أيضًا إنها قد تكون مأخوذة من الرومانيين الذين سموا قانونهم باسم «قانون الألواح الإثنى عشر». والثابت في جميع الأحوال هو أنها قديمة الوجود في المجتمع الجزولي.

وأقدم ألواح جزولة هو «لوح حصن أكَادير» المؤرخ في سنة 904هــ/1498م، وسنعود إليه في مناسبة أخرى. وكانت هناك عدة طرق لإشهار اللوح وتعميمه حتى يكتسب الصفة الإلزامية وأهمها: أنه كان يصدر بحضور جميع من يعنيهم الأمر، وإذا وضعه جماعة مفوضون بكتابته، فإن القبيلة كلها كانت تجتمع في صعيد واحد، ويُقرأ عليها اللوح في صيغته الأخيرة، ويُفسره أحدهم فقرة فقرة باللغة التي يفهمها أبناء القبيلة، حتى يكونوا على معرفة بمضمونه، ثم يقررونه بالإجماع في صورة تشبه ديمقراطية أثينا المباشرة.

وكان إشهار الألواح يجري أيضًا بواسطة المنادين في الأسواق والأندية، وعلى سطوح المساجد ومن فوق مناراتها. تلك الوسائل في زمن ما قبل الاستعمار كانت تقوم بما تقوم به «الجريدة الرسمية» في العصر الحديث بتعميم القوانين الجديدة لتكون ملزمة للكافة.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.