بالتزامن مع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، في أغسطس/ آب الماضي، بثت مؤسسة الزلاقة، الذراع الإعلامية لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» (موالية لتنظيم القاعدة)،

كلمةً صوتية لزعيمها وأمير حركة أنصار الدين الإسلامية

، إياد أغ غالي، بعنوان «ألا إن نصر الله قريب»، قال فيها إن مقاتلي جماعته تمددوا من شمال مالي إلى جنوبها، وانتقلوا إلى دول مجاورة، بينما فشلت عملية «برخان» العسكرية التي تقودها القوات الفرنسية في وقف تقدمهم أو القضاء عليهم.

حمل ظهور غالي في ذلك التوقيت عدة دلالات مهمة، فبينما كانت القوات الأمريكية تُسارع لإتمام الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، قبيل موعده النهائي المقرر في 11 سبتمبر/ أيلول 2021، خرج زعيم

«أنصار الدين» (إحدى المكونات الرئيسية لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»)

والموصوفة بأنها «طالبان الساحل الأفريقي»، معلنًا أن جماعته ستستمر في القتال حتى تُحقق النصر، كما فعلت حركة طالبان.

وفي ذلك الحين بدت رسائل غالي وكأنها تأكيد على نهج جماعته التي يقود أفرادها تمردًا مسلحًا في منطقة الساحل والصحراء الكبرى، بيد أنها لفتت إلى نجاح تجربة بقاء «جهاديي القاعدة» وتكيفهم في مواجهة حملات مكافحة الإرهاب المستمرة، داخل صحارى مالي ومناطق الحدود الأفريقية الهشة، على مدى نحو 10 سنوات.

أزواد.. نواة المشروع الجهادي الجديد

ففي عام 2012،

اندمجت حركة «أنصار الدين»

بإمارة إياد غالي (المكنَّى بأبي الفضل)، مع «الحركة الوطنية لتحرير أزواد»، وسيطرا معًا على إقليم أزواد ومناطق أخرى في شمال ووسط مالي (تمبكتو، وكيدال، وغاو)، معلنين إقامة إمارة تتمتع بحكم ذاتي في المناطق الخاضعة لسيطرتهما.

وخلال تلك الفترة بدأت قيادة القاعدة في المغرب الإسلامي (القيادة الإقليمية للتنظيم)، رسم ملامح المشروع الجهادي الجديد لتأسيس إمارة إسلامية في منطقة الساحل والصحراء، لتكون بمثابة ملاذ آمن وقاعدة انطلاق عملياتية، تخدم غاية القاعدة الكبرى، والتي تُركِّز على توظيف الصراعات المحلية ضمن استراتيجية التنظيم لقتال «العدو البعيد» (الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتحالفة معها).

على أن صياغة مشروع «القاعدة» الجديد لم يكن سوى جزءٍ من عملية تحولات حرجة، تمت داخل التنظيم منذ اندلاع شرارة الربيع العربي عام 2011، ودفعت التنظيم إلى السعي لإعادة طرح نفسه في ثوب أقل تشددًا، يركز بصورة أكبر على كسب دعم الشعوب (أو ما يسميه بالحاضنة الشعبية)، وتقليل الصراعات مع المجتمعات والقوى الوطنية المحلية، داخل مناطق نشاط «القاعدة»، بالإضافة للتراجع عن نبرة الهيمنة والرغبة في السيطرة، التي كانت جزءًا أساسيًّا من تجارب جهادية سابقة كتجربة «القاعدة في بلاد الرافدين» التي تحولت لـ «دولة العراق الإسلامية»، ثم انفصلت تمامًا عن التنظيم وأسست خلافة مكانية باسم «تنظيم الدولة الإسلامية» والمعروف إعلاميًّا بـ «داعش».

وكمحاولة لاستيعاب أخطاء الماضي، وتأسيس مشروع «جهادي استراتيجي» جديد، صاغ عبد الملك درودكال (أبو مصعب عبد الودود)، أمير القاعدة في المغرب الإسلامي، الرؤية الجديدة للتنظيم في وثيقة مختصرة بعنوان: (

وثيقة توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي الجهادي بأزواد

– تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي).

تخطيط استراتيجي لـ «شبه دولة»

إلى ذلك، طرحت «وثيقة أزواد» تصورًا عامًّا للمشروع الجهادي الجديد، لتهيئة عوامل النجاح له وتجنيبه أسباب الفشل، خصوصًا في ظل توقع قيادة القاعدة أن تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها (وفي مقدمتهم فرنسا) بالتدخل عسكريًّا لإسقاط إمارة التنظيم الوليدة.

ورأى أمير «القاعدة في المغرب الإسلامي» أن «إمارة أزواد» مجرد «شبه إمارة/ دولة» غير ممكنة بشكل كامل، لكنه اعتبرها خطوة على طريق ترسيخ مشروع إقامة إمارة جهادية، تخدم أهداف القاعدة في نهاية المطاف؛ لذا ركز في نصائحه لأتباعه بمالي على عدم التسرع في تطبيق رؤيتهم الصارمة للشريعة الإسلامية، أو محاولة الهيمنة على المشهد السياسي والعسكري، لأن مشروعهم عبارة عن «مولود صغير» ما زال أمامه وقت طويل حتى ينضج ويصلب عوده.

وتُبين توجيهات أبو مصعب عبد الودود أن القيادة الإقليمية للقاعدة كانت تدرك أن إمكانيتها العسكرية والإدارية والمالية تحول بينها وبين إقامة إمارة/ ولاية مكانية، في تلك الفترة، وبالتالي عملت على كسب ولاء المجتمع المحلي عبر تحييد الخصوم، قدر الإمكان، والعمل على التقرب للمكونات: (العربية، والطارقية – الطوارق – والأفريقية)، وكسب ود القبائل المؤثرة، بشكل خاص، وتأخير مسألة تطبيق الشريعة التي يتبناها التنظيم لحين حصول التمكين الكامل.

الفصل التنظيمي والتخصص الوظيفي

وعلى الصعيد نفسه وضعت قيادة القاعدة تصورًا تفصيليًّا لعلاقة فرع الساحل والصحراء مع القيادة المركزية للتنظيم، وقام هذا التصور بشكل أساسي على الفصل التنظيمي بين حركة أنصار الدين وحلفائها، وبين القاعدة في المغرب الإسلامي، على أن يكون الفصل مرتبطًا بتخصص وظيفي وعملياتي لكل منهما، فتركز الحركة بشكل أساسي على الصراع المحلي في مالي والصحراء الكبرى، ويكون أفراد القاعدة الموجودون في نطاق نشاطها تابعين لها، وملتزمين بالأوامر الصادرة من قيادة «أنصار الدين»، فيما يركز «القاعدة في المغرب الإسلامي» على العمليات الخارجية وتنفيذ الهجمات التي تخدم الأجندة الجهادية المعولمة دون ربطها بالمجموعات الجهادية في مالي.

في المقابل، تعرض المشروع الجهادي الاستراتيجي في الساحل والصحراء لصدمة تكتيكية متوقعة، أوائل عام 2013، إذ أعلنت فرنسا إطلاق عملية «سرفال» العسكرية (تعني: «القط الأنمر»، وهو نوع مميز من القطط البرية الأفريقية)، لطرد الجهاديين من معاقل سيطرتهم في مالي، وذلك عقب

صدور قرار من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة

بالتدخل العسكري والسياسي في مالي.

وبالفعل نجحت القوات الفرنسية وحلفاؤها من الجيش المالي في طرد الجهاديين المحسوبين على القاعدة من المناطق التي سيطروا عليها، كما صادرت كميات كبيرة من الأسلحة وقتلت العشرات من المسلحين، خلال عمليتها التي استمرت نحو عام ونصف.

وعقب انتهاء عملية سرفال أطلقت وزارة الدفاع الفرنسية

عملية «برخان»

(تعني: الكثيب الرملي الهلالي المتشكل تجاه الريح)، والتي قالت إنها لمنع تصاعد التهديد الإرهابي، وتحجيم نشاط الجهاديين في المنطقة الممتدة من القرن الأفريقي حتى دولة غينيا بيساو (غرب القارة الأفريقية).

قيام من بين الركام

غير أن جهود مكافحة الإرهاب الفرنسية والأفريقية، لم تنجح في تحجيم نشاط فلول «القاعدة» وأنصارها في مالي وغيرها من دول الساحل والصحراء، إذ نجح الجهاديون في إعادة ترتيب صفوفهم وتشكيل كيان تنظيمي جديد، في مارس/ آذار 2017، باسم

جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»

، وذلك باندماج 4 فصائل مسلحة، هي: (حركة «أنصار الدين» بقيادة إياد غالي، و«جبهة تحرير ماسينا» بقيادة أمادو كوفا، وكتيبة «المرابطين» بإمارة مختار بلمختار، و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» القاعدية بقيادة يحيى أبي الهمام).

ويُمكن إدراك أن جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» بنيت على أساس التوجيهات التي تضمنتها «وثيقة أزواد»، عبر التدقيق في طبيعة البنية الهيراركية والتفاعلات الداخلية والنهج الحركي لكل من مكوناتها الأربعة، إذ يبدو أن الجماعة طبقت، حرفيًّا، توجيهات أبي مصعب عبد الودود الخاصة بالتخصص الوظيفي والفصل التنظيمي.

وشهدت الفترة التي تلت إعلان تأسيس «نصرة الإسلام والمسلمين» نشاطًا عملياتيًّا واضحًا للجماعة، فاستهدف مقاتلوها كمائن ودوريات الجيش المالي والفرنسي، واختطفوا العديد من جنود الجيش المالي والرهائن الأجانب، كما نفذت الجماعة، بعد عام من تأسيسها واحدًا من

الهجمات المنسقة ضد مقر رئاسة أركان الجيش البوركيني

، والسفارة الفرنسية في واغادوغو (عاصمة بوركينا فاسو).

وتكشف إحصائيات مستقلة أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين

نفذت نحو 640 هجومًا إرهابيًّا

، خلال الفترة الممتدة بين 2017-2020، أي نحو 64% من إجمالي العمليات الإرهابية التي شهدتها منطقة الساحل والصحراء في تلك الفترة.

وترتبط حالة الصحوة العملياتية التي شهدتها الجماعة في تلك الفترة بالعديد من العوامل، منها تبنيها لكل الهجمات التي تُنفذها (أنصار الدين، وجبهة تحرير ماسينا، وإمارة الصحراء الكبرى، وكتيبة المرابطين)، بجانب

اكتساب قادة وأفراد الجماعة خبرة قتالية طويلة

، خلال السنوات الماضية، وتعزيز الجماعة لحضورها في داخل مالي وبوركينا فاسو، والنيجر … إلخ.

حكومة جهادية موازية

كما حرصت الجماعة المرتبطة بالقاعدة على تمثيل وإبراز دور المجموعات العرقية المحلية، للتأكيد على تبنيها لـ «المظالم المحلية»، وظهر ذلك جليًّا في اختيارها لزعيم الجماعة إياد غالي (أحد قادة قبيلة الطوارق)، وأمادو كوفا (ممثل شعب الفولاني)، ويحيى أبي الهمام (ممثلًا عن المكون العربي)، لكنها حرصت، مع ذلك، على تماهي جميع مكوناتها داخل البنيان التنظيمي الخاص بها، وهو ما أتاح لها إخفاء نقاط الضعف البنيوية التي تعاني منها (كتعارض استراتيجيات ونهج بعض مكوناتها وحالات الانشقاق المرتبطة بها)، وإكسابها قوة رمزية كجماعة موحدة تحت قيادة كاريزمية.

ونجحت استراتيجية الجماعة المتأنية في حشد دعم العديد من المجموعات المحلية لها، خاصة أن «نصرة الإسلام والمسلمين» عملت على تقديم الخدمات التي توقفت الحكومات الوطنية عن تقديمها في الأقاليم التي تشهد اضطرابًا أمنيًّا،

بجانب تجنيد أبناء تلك المناطق كمقاتلين

، ومخبرين في شبكات جمع المعلومات التابعة للجماعة، مقابل راتب شهري.

كما تمكنت الجماعة من تعزيز مواردها المالية عبر الأنشطة الاقتصادية الموازية،

وأصبحت تجمع شهريًّا ما بين 18 و35 مليون دولار

، أغلبها من الضرائب التي تفرضها على المارين عبر مناطق سيطرتها (خاصة عصابات الجريمة المنظمة التي تستغل تلك الطرق)، والمكوس التي تُفرض على التجار وأصحاب الحرف، بجانب عمليات ابتزاز العاملين في التعدين الحرفي، وعمليات الخطف والفدية.

وركزت الجماعة، مؤخرًا، على توجيه نشاطها نحو المنطقة الحدودية بين حدود دولتي بنين وتوجو، والتي تنشط فيها عمليات التنقيب عن الذهب بصورة مكثفة، والتي قد تتمكن الجماعة من خلالها من استخلاص وبيع ذهب خام بقيمة 34 مليون دولار سنويًّا، ما يعني تضاعف تمويلها الحالي.


معضلة مكافحة الإرهاب في الساحل والصحراء

وعلى الجهة الأخرى، ما زالت فرنسا وحلفاؤها يواجهون معضلة حقيقية في مواجهة تنامي نشاط الجهاديين في الساحل والصحراء، فبعد نحو عقد من تدخلها العسكري في مالي، فشلت باريس في القضاء على الجماعات المرتبطة بالقاعدة في مالي،

وأعلنت وقف عملياتها في البلاد، في يونيو/حزيران الماضي

، بحجة هشاشة الوضع الأمني واستمرار الاضطراب في المنطقة،

قبل أن تعود وتستأنفها بعد نحو شهر

.

وفي الوقت الذي تفقد فيه القوة العسكرية الفرنسية زخمها، وتعجز عن إنهاء التمرد الجهادي في المنطقة، يقول خبراء إن

باريس لم يعد أمامها إلا التفاوض مع جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»

، لضمان خروج آمن من مالي، تمامًا كما فعلت الولايات المتحدة، التي أبرمت اتفاق سلام مع حركة طالبان، لتُغادر أفغانستان بعد 20 عامًا من «حربها غير المجدية».