لماذا نكمل الرحلة؟ لماذا نستمر في المحاولة؟





من فيلم «Ad Astra» – تأليف «جيمس جراي» و«إيثان جروس»

ربما سنتذكر في نهاية العام هذه الكلمات كأحد أكثر جمل سينما 2019 رسوخاً في الأذهان، تلك الكلمات التي سمعناها على لسان رائد فضاء وحيد ومشتت خلال أحداث فيلم «Ad Astra»، الفيلم الذي قام ببطولته «براد بيت»، وتأليف وإخراج الأمريكي «جيمس جراي»، وتم عرضه للمرة الأولى خلال مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في دورته رقم 76 المميزة للغاية.

منذ أن شاهدنا الفيلم وإلى اليوم، لم يتوقف هذا السؤال عن مطاردة من شاهدوه، وخصوصاً بعد أن ارتبط بكلمات أحد الأصدقاء من الحضور داخل قاعة السينما، حينما قال: «يبدو أن السبب الوحيد للخروج إلى الفضاء هو محاولة البحث عن الإله».

نعم بكل تأكيد، هذا أحد أهم الأسباب، فطبقاً للأديان الإبراهيمية وحتى بالنسبة للميثولوجيا الإغريقية فالسماء هي ملكوت الإله، ما الذي يدفعنا لاقتحامها إذن!

قد يبدو الأمر لأول وهلة محاولة بعيدة للتفلسف، لكننا أمام فيلم ممتلئ بالإشارات الدينية، لكن السؤال الأهم هنا، كيف قدم جيمس جراي هذه الرحلة، وإلى أي نهاية يقودنا هذا البحث.

عن الأب والإبن


تدور أحداث الفيلم عن رائد فضاء متميز يسمى «روي ماكبريد» يقوم بدوره «براد بيت». نتعرف على هذا الرجل الذي يعيش في المستقبل القريب بصفته الرجل الذي لا تزيد عدد ضربات قلبه على 80 ضربة لكل دقيقة مهما كانت الأجواء من حوله، نتحدث عن أجواء تتضمن سقوطاً حراً من السماء وانهيار أبراج إلكترونية داخل الفضاء.

على جانب آخر يتورط هذا الرجل في مهمة للبحث عن والده (ماكبريد الأب) رائد الفضاء الشهير الذي ترك الأرض منذ سنين للبحث عن أي أثر للحياة داخل مجرة درب التبانة، والذي ظن (ماكبريد الابن) أنه مات منذ أن رحل، حتى فوجئ بتكليف من الحكومة الأمريكية بمحاولة التواصل مع أبيه الغائب، والمشكوك في مسئوليته عن تغييرات في الطاقة تحدث داخل المجرة، وقد تتسبب بتدمير الأرض.

هنا يمكن تلخيص الفيلم في كونه رحلة بحث الابن عن الأب، رحلة تحمل قدراً من التشويق على السطح ككل أفلام الطريق، تشويق يصل في بعض الأحيان لمشاهد قتال داخل الفضاء، قتال بشري وحيواني في بعض الأحيان، لكن وفي العمق يتطور معها إدراك الابن لذاته ولغايته في الحياة.

رحلة يبدؤها الابن وهو شخص أناني للغاية، يحلم فقط بملامسة النجوم، ولا يتورع في سبيل هذه الغاية عن التضحية بكل شيء آخر، حتى لو كلفه هذا التخلي عن حبيبته التي نراها فقط في ذكريات مشوشة (فلاش باك) بين حين وآخر، ولا مفاجأة هنا في أن التفصيلة الوحيدة التي نعرفها عن هذه الحبيبة هي أنها تدعى Eve أو (حواء).

هذه هي الحكاية إذن، يبقى السؤال، كيف يقوم (جيمس جراي) بسردها.

الصورة المضادة للزمن


تكمن هنا بالتحديد نقطة قوة الفيلم ونقطة ضعفه الأهم أيضاً. فالصورة هي عنصر قوة فن السينما بالأساس، والصور المضادة للزمن، هي ما نقصده هنا بالتحديد، تلك الصور التي تبقى مطبوعة في أذهاننا حتى بعد مرور سنوات على مشاهدتنا الأولى للفيلم، والتي تدفعنا للتساؤل حيناً بعد حين عن معانٍ أخرى أكثر عمقاً للحكاية التي شاهدناها، كما تدفعنا في النهاية للوصول لعلاقة أكثر نضجاً مع أنفسنا ومع العالم.

هنا يبقى في الذهن عقب مشاهدة أد أسترا صورة معبرة للغاية عن سباحة (ماكبريد الابن) في عمق مياه ذات لون أحمر داكن داخل كوكب المريخ، في محاولة منه للتسلل للمركبة الفضائية التي قد يجد من خلالها (ماكبريد الأب)، هنا يمر الابن بتحوله الأهم في الرحلة، ضربات قلبه تزداد للمرة الأولى في هذا الفصل من الحكاية، يبدو وكأنه يهتم للمرة الأولى أيضاً بعلاقة وحيدة تربطه بمثل أعلى، بكيان خُلق على صورته.

لكننا وعقب نهاية كل هذا، وفي العمق من هذه الصورة، نشاهد رجلاً يسبح في رحم عالم جديد سيخرج منه كرجل آخر لحياة أخرى، وهذه رمزية يمكنك تذكرها حتى لو نسيت الفيلم ونسيت الحكاية.

يقدم (جيمس جراي) هذه الصور المضادة للزمن بشكل مبهر برفقة مدير التصوير المتميز السويسري (هويتي فان هويتيما)، يصاحبها موسيقى (ماكس ريختر) التي تكتمل معها التجربة الفنية والنفسية، تبدو موسيقى ريختر وكأنها مرتبة في شكل موجات منتظمة، ترتفع تدريجياً حتى تصل للحظة ذورة ثم تهدأ تدريجياً حتى تقترب من الصمت التام ثم ترتفع مجدداً، وكأننا نشاهد شاشة لمتابعة ضربات القلب، حياة جديدة تولد في كل لحظة من رحم الموت.

هذا المنتج الفني المذهل قلل من قيمته فقدان (جيمس جراي) لروح المغامرة في كثير من الأحيان، هذا الفقد الذي دفعه لإقحام العديد من المونولوجات الداخلية الطويلة التي يبدو (ماكبريد الابن) فيها وكأنه يشرح مغزى ما تقدمه الصورة، وهذا بالتحديد هو العنصر الذي أفسد العديد من مشاهد الفيلم، فنقلها من الفن ورحابته إلى الوعظ ومباشرته.

نهاية الرحلة

– عارف الواحد بيقابل مين في نهاية الرحلة؟ رحلة حوالين العالم، في الفضاء …

تتردد أصوات: ربنا؟ الشيطان؟

– أقبح من الشيطان، الواحد بيقابل نفسه.





من فيلم «الاختيار» 1970 – إخراج «يوسف شاهين» وتأليف «نجيب محفوظ».

بهذه الكلمات التي كتبها الأديب المصري (نجيب محفوظ) ضمن سيناريو فيلم (الاختيار) من إخراج يوسف شاهين عام 1970 يمكننا ختام مراجعتنا، وهي محاولة أيضاً لتفادي اقتباس الجمل الختامية من فيلم Ad Astra كي لا نفسد متعة مشاهدته على من لم يشاهده بعد.

تبدو نهاية (الاختيار)، وبشكل مبهر، مناسبة للغاية لنهاية فيلم (إلى النجوم)، وكأن صناع العملين تشاركوا نفس الهواجس التي تؤرق البشر منذ أن استقام أجدادنا على وجه الأرض وحتى اليوم.

يبدو هذا التشابه حاضراً أيضاً في العديد من أفلام الفضاء، فنراه في حبكة Interstellar الرئيسية، وهو الفيلم الذي أشرف على السينماتوغرافيا الخاصة به أيضاً مدير تصوير Ad Astra، ففي الأول نرى أن الزمن هو ما يفصل بين إشارات يبعثها بطل الفيلم لنفسه من المستقبل إلى الماضي، لا توجد قوة عليا تحرك الأشياء، فقط نحن، وأملنا في التطور ورعبنا من الفقد، أما في فيلمنا اليوم فينتهي الفيلم بنقطة تدفع البطل أخيراً إلى الإيمان بقيمة البشر في حياته.

اقرأ أيضاً:

«Arrival»: مؤثرات بصرية مذهلة بأقل تكلفة ممكنة

الرحلة إلى الفضاء تدفعنا في النهاية إلى تقدير قيمة ما تركناه في الأرض، تماماً كما شاهدنا من قبل في معالجة (داميان تشازيل) في First man، هي مجرد رحلة نتعلم من خلالها قيمة الزمن كما شاهدنا من قبل في معالجة ( دينيس فيلانوف) في Arrival، ونرى بفضلها قيمة أحبابنا وحياتنا، بكل ما فيها من أفراح وأتراح، ضحكات ودموع.

اقرأ أيضاً:

فيلم «First Man»: انعكاسات حقيقية على أقمار بشرية

هي معالجة جديدة قديمة إذن، عن رحلة فضائية مليئة بالهواجس البشرية، رحلة يمكن رسم نقطة بدايتها من تحفة كوبريك (أوديسا الفضاء)، ولن تكون (إلى النجوم) نقطة نهايتها بالتأكيد، طالما سيستمر البشر في التطور والتساؤل.