أخذَ فقهاء المذاهب في أغلبهم بمبدأ «الاحتياط» عند تناولهم مسائلَ «الإقرارِ» درءًا لاحتمالات إساءة استعماله؛ لأن إساءةَ استعماله تلحق الأذى –غالبًا- بحريات الأفراد الذين قد يتوجَّب عليهم الإدلاء بإقرار في قضية معينة، أو في أمرٍ ما، مثلما قد تنال من حريات الآخرين الذين تربطهم علاقة ما بموضوع الإقرار.

ومن بابِ الاحتياط، وضعَ الفقهاءُ من شروط صحة الإقرار شرطًا يسمونه «عدم التُّهْمَة»: ويقصدون بهذا الشرط: خلوَّ الإقرارِ مما يقدحُ في صحَّتِه؛ و«التهمةُ» في العرف الفقهي تُخِلُّ برجحان الصِّدق على جانب الكذب في الإقرار. والتُّهمة ترِد من مصادر عدة، ضرب الفقهاء أمثالًا لها من واقع الحياة الاجتماعية، ومنها: أن يُقرَّ المرءُ لشخصٍ تربطُه به صداقة، أو له معه طولُ مخالطة، وأن يكون المقرُّ مدينا محجورًا عليه، أو يكون مفلسًا، أو يكون مريضًا مرضَ الموت.

والحاصلُ
هو: أن التهمةَ تخلُّ برجحان الصدق على الكذب في الإقرار، وبما أن الإقرار يعتبر
شهادة على النفس، فإن الشهادة -في عرف الفقهاء- تُردُّ بالتهمة، ودليل اعتبار
الإقرار شهادة، قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله
ولو على أنفسكم» (النساء: 135).

وللفقهاء،
كثير من التفريعات والأمثال الشارحات لشرط «عدم التهمة»، وكلها يصبُّ في نقطة
واحدة هي: صَوْنُ «حرية» الشخص الذي يقع عليه عبء الإقرار، وحماية حرية غيره من
الانتهاك، وجعلها من الثوابت التي لا يجوز زحزحتها أو النيل منها تحت أي ظرفٍ من
الظروف، أو ذريعةٍ من الذرائع.

جاء في مبسوط السرخسي الحنفي: «ولو أنَ قاضيًا أكره رجلًا بتهديدِ ضربٍ، أو حبسٍ، أو قيدٍ حتى يقرَّ على نفسه… كان الإقرارُ باطلًا، لأن الإقرارَ متمثلٌ (يقصد يتأرجح نظريًا) بين الصدق والكذب؛ وإنما يكون الإقرار حجة إذا ترجَّح الصدقُ على جانب الكذب، والتهديد بالضرب أو الحبس أو القيد يمنع رجحانَ الصِّدق» [1]. ولاحظ هنا -أيّدك الله- أن مردَّ قوله «والتهديد بالضرب… إلخ» هو إلى ردة فعل النفس الغضبية التي تنافح عن صاحبها ساعة تعرضه للخطر، وأيضًا إلى حكمِ العقل عند ذوي العقول السوية.

وذهب
الإمامُ مالك إلى أن «المذعورَ لا يلزمه ما صدرَ منه في حال ذعرِه، من بيعٍ وإقرار
وغيره». وعلةُ ذلك هي: أن الذُّعرَ حال يفقد فيها المرء رشدَه وتتحكم فيه غريزة
الخوف والشعور بالهلعِ، وتُسلبُ منه قدرتُه على الاختيار بوعي ورضى نفس. وأسوأ
أنواع الذعر هو «الذعر الجماعي» الذي قد يصيب الأعداد الكبيرة من الناس، وفي هذه
الحالةِ لا يعتدُّ برأيهم، ولا برأيِ الواحدِ منهم؛ لأن حرياتهم في التفكير
والتعبير والاختيار تكون منعدمة أو قريبة من العدم. وقد لخَّصَ الحطَّاب المالكي
هذه المعاني في كلمات معدودات فقال: «شرطُ صحة الإقرار ألا يكون بإكراه» [2]، يعني
أن يكون في حال الحرية بمعناها الواسع الذي أومأنا إليه.

الشافعيةُ
من جانِبهم نبَّهوا إلى احتمالِ أن يعرض الإقرار صاحبه إلى الضرر، ومن ثم إلى
الانتقاص من حريته. وتحاشيًا لهذا الاحتمال؛ اشترطوا ألّا يجني المقرُّ على نفسه
ضررًا بإقراره؛ لأن ذلك يمسُّ حريته، والمساس بحريته إهدارٌ لكرامته، وبما أن الذي
كرَّمه هو الله تعالى؛ فلا يجوز الإقرار على النفس بغير حقٍ، لأن ذلك يلحقُ بها
الضرر سواء كان موضوع الإقرار ماديًا، كعقار يملكه ويقر بأنه للغير دون مسوغٍ، أو
كان الإقرارُ معنويًا كرأيٍ لم يقله ولا يعتقده ويكره على أن يقر بأنه قاله أو
يعتقده، أو جريمة لم يقترفها ويرغم على أن يعترف بأنه اقترفها، أو ذنب لم يرتكبه
ويقر به عنوة؛ ففي هذه الحالات كلها تكون حرية المقر قد انتُقصت أو ألغيت
بالكليةِ.

وأوجز
الشافعية رأيهم في المسألة فقالوا: إنه يجب أن يتوافرَ شرطان في الشيء المُقر به
هما: ألَّا يكونَ الحقُّ المُقَرُّ به ملْكًا للمقِر حين يقر به. وأن يكونَ الحقُّ
المقر به في يد المقرِّ ليسلمه بالإقرار إلى المقر له، وإلا لم يتحقق مقتضى
الإقرار. [3]

وعند
الحنابلة نطالعُ جانبًا آخر يعبِّرُ عن إدراكِهم لأهمية صون الحرية والاحتراز من
انتهاكها بذريعة «الإقرار»، أو «الاعتراف»، وبخاصة إذا كان بسبب «الضعفِ»، وليس
بسبب الإكراه أو الضغط، كما في حالة اختلال علاقة الغني بالفقير، أو القوي
بالضعيف، أو الرجل بزوجته مما يدفعها للإقرار على نفسها بما يقيد حريتها أو يسلبها
بعض حقوقها.

ويسوقُ
الحنابلة أمثلة متنوعة لشرح مقصدهم هذا فيقولون مثلًا: لو أقرت المرأةُ أنَّها لا
مهرَ لها على زوجها لم يصح؛ إلا أن يُقيم الزوجُ بينة على أنها أخذته وبرئت ذمته
[4]. ويقولون أيضًا: إنَّ إقرار شخص فقد حريته لأيِ سببٍ بالقِصاص في النفس لا
ينفَّذ؛ لكونِه في حالِ الضَّعف وفقدان حريته، فلا يترجَّح جانب الصدق في إقراره؛
لأنه ربما يكون وليدَ إكراهٍ أوضغطٍ لا يتحمله، وإنما يطالبُ بالقصاص بعد استرداد حريته،
فإن أقرَّ اقتُصَّ منه، وإلا فلا.

وثمة مسائل جزئية –أخرى- لا حصرَ لها في أبواب «الإقرار» نطالعها في كتب الفقه القديم -لم يعد لها حضور في كتب الفقه الحديث- حاصِلها: أن مجهتدي المذاهبَ قد بذلوا وسعهم من أجل إحاطة « الإقرار» بما يحول دون إساءة استعماله، وبما يسد ذرائع التوصل من خلاله إلى إهدار الحريات أو العدوان عليها، أو حتى المساس بها. ومن تلك المسائل الجزئية يتبينُ أنهم أرادوا فتح ذرائع ردِّ الأمرِ إلى نصابه في حال جاء الإقرار مشوبًا بشبهة، أو محوطًا بتهمة تجعل من العسير رجحان جانب الصدق على الكذب. ومن ذلك مثلا:

  1. مسألةُ تكرارِ الإقرار، وبشأنها ذهب الأحناف والحنابلة والزيدية إلى وجوب تكرار الإقرار بالزنى أربع مرات حتى تثبت به الجريمة، ويؤسسون ذلك على قياس الإقرار على الشهادة من جهة، وعلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع «ماعز» في واقعته مع الغامدية من جهة أخرى. ويضيف الزيدية تعليلًا مؤداه: أن في طلب تكرار الإقرار إتاحة الفرصة للمقر كي يعدل عن إقراره ومن ثم فلا توقع عليه عقوبة الحد، وفي ذلك فتح لباب التوبة، وهي أفضل شرعًا من توقيع العقوبة [5]. ويمكن أن نضيف تعليلًا آخر مشتقًا من مقصد «الحرية» مؤداه: إن في تكرار الإقرار فتحًا لذريعة إطالة وقت التفكير بحرية والاستقرار على الإقرار أو العدول عنه إنقاذًا للنفس من قيد الإثم (في حال تأكيد الإقرار) وهو قيد لا يقل وطأة في إيلامه للنفس الحرة عن إيلام قيد البدن أو معاقبته بالقصاص منه، أو قد يكون فتح الذريعة لإنقاذ النفس من فقدان الحياة برمتها (في حالة العدول عن الإقرار)، وفي كلا الحالتين هناك فرصة لحرية الاختيار مع تمام الرضا.
  2. مسألة العدول عن الإقرار، وبشأنها ذهب فقهاء المذاهب الأربعة إلى جواز عدول المتهم عن إقراره في جرائم الحدود، بخلاف جرائم المعاملات (وهي المعاملات المدنية في اللغة السائدة للقانون المعاصر). وإذا كان الأصل هو «درء الحدود بالشبهات»، فإن العدول عن الإقرار يورث شبهة تحول دون التأكد من صدق الجاني فيما أقرَّ به، ولا يجوز توقيع الحد مع وجود الشبهة.

وقد
انتقد العلامة العوَّا تفرقة بعض قدماء الفقهاء بين الحدود والتعزيرات في جواز
العدول عن الإقرار؛ حيث أجازوه في الحدود، ولم يُجيزوه في التعزيرات، وانتهى به
اجتهاده إلى أنه لا مسوغ لهذه التفرقة، وأن الأنسب هو توحيد القاعدة الإجرائية
التي تحكم العدول عن الإقرار في النوعين من الجرائم، وما انتهى إليه في هذه
المسألة أدنى إلى إعمال مقصد الحرية باعتباره من المقاصد العامة للشريعة.

انتهى
العلّامة العوا أيضًا إلى أن دور الإقرار في الإثبات الجنائي بعامة دورٌ محدود إذا
قسناه بدوره في الإثبات المدني (المعاملات)؛ يقول: «فالشارع في الإثبات المدني
يُغلب جانب عدم الإضرار بالأفراد، ويراعي ألّا يمكن أحدًا من الاعتداء على حق أحد،
والناس يتحرَّجون –عادة- من أكل أموال الآخرين بالباطل، فيقرون بما عليهم من حقوق».
[6]

وهذا اجتهاد معتبرٌ يُهيئ للنظرِ في مسألة العدول عن الإقرار من زاوية مراعاة مقصد «الحرية» أيضًا؛ حيث يفتحُ «العدول» هنا ذريعة درء الضرر الذي قد يصيب حريات المتهم -مثل حريته في التنقل، وحريته في التعبير- في حال ثبوت إدانته بإقراره، وبخاصة في قضايا الحدود التي قد تعصف عقوباتها بالحريات كافة، وقد يصلُ الأمر عند تطبيق عقوباتها إلى سلب حق الحياة كما في جناية القتلِ العمد.

ولا يعني هذا فتحًا لباب الهروبِ من الجزاءات الجنائية في قضايا الحدود أو في غيرها؛ حيث إن الافتراضَ الأساسي هو أن حرص الشخص (المتهم) على صون حريته يبدأ من صميم داخل نفسه التي بين جنبيه، وأنه في حالِ كان المتهم الذي أقرَّ بجريمته قد ارتكبها فعلا؛ فإن سعيه لتحرير نفسه من داخلها من أسر هذا الجرم من المفترض أن يدفعه إلى الثباتِ على الإقرار لا إلى العدول عنه، فالإِثمُ حزَّازُ القلوبِ؛ لا يدع قلبَ الآثمِ يهدأُ أو يستريح حتى يتخلص منه بالاعتراف أو بالإقرار أو بالتوبة أو بمزيج من هذا كله، ولهذا الاحتمال شواهد من بعض القضايا التي وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها قضية ماعز والغامدية.

وفي
الأحوال جميعها سيظل هناك من ينزعون إلى الإفلاتِ من العقاب بشتى الوسائل، وأمثال
هؤلاء تتكفل التدابير والإجراءات وأساليب التحقيق المتنوعة بإقامة أدلة إدانتهم،
واقتضاء حقوق الغير منهم. وحديثنا مستطردٌ إن شاء الله في مسائل فقه الحرية وأحوالها.


المراجع



  1. السرخسي، المبسوط، ج24/ ص70، 71.
  2. الحطاب ج5/216، و217.
  3. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، (دمشق: دار الفكر، د. ت) ج8/6102.
  4. شرح الزرقاني 6/94، والإنصاف 12/137.
  5. محمد سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة، ط4، 2009)، ص425.
  6. المرجع السابق، ص428.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.