يعاني معظم الشعراء من الاغتراب بأنواعه النفسي والمجتمعي والذاتي، وذلك بسبب اللغة الرؤيوية التي تسبق الزمن، مما يؤدي إلى وجود معان ومفاهيم ورؤى متقدمة أو مفارِقة بالجملة عمّا هو جار في مجتمعهم. فتتسع الفجوة بين الشاعر ومجتمعه شيئًا فشيئًا، إلى أن ينفصل إلى حد التمام عنه ويحيا في ذهنه.

وفي حالة «أبي العلاء المعري» فقد تم إجباره، بسبب استلابه من العيان بعمائه، فأصبح اللاانتماء الجارف هذا له عوامل أخرى في حالة المعري بالخصوص. فهو مع اللغة والجوانية الناقدة تحدث صدمات نفسية وصدمات شعورية تبعده عن الاتصال والتواصل مع الآخرين، والمفارقة في عمائه هو أنه كان يرى وبعد ذلك فَقَدَ بصره، أي ذاق نشوة المرئي وبعدها ذاق عذاب السواد.

ملكة النقد عند المعري تعنَى بالرؤية التجريدية للأمور والرؤية من الخارج، مع الامتلاء بتفاصيل الداخل، فقد نَقَدَ الأبعاد التي تُسيطر على الذات العربية في محيطه ببعدها الديني والاجتماعي والسياسي.

ومن أسباب ذلك الاغتراب أو الخروج أو اللا انتماء نذكر منها: عوامل ذاتية تتمثل في عمائه وموت والدته وطبيعة الشاعر، وعوامل غير ذاتية في حالة المجتمع العباسي وطبيعته.

اغتراب المعري

تتجلى المفاهيم والمشاعر بشكل أقوى في الشاعر، لذلك فإن الصراعات
النفسية التي يعيشها الشاعر لا شك ستفضي به إلى الإحساس بعناصر الاغتراب النفسي، فيشعر
أنه في انفصال عن ذاته، وغير قادر على تحقيق الذات المثالية التي يسعى إليها، الأمر
الذي يدفعه إلى التعبير عن هذه المشاعر التي تختلج في داخله عن طريق الأشعار التي يكتبها
مُعبرًا عن هذه الحالة النفسية التي يمر بها. وإن كان الشاعر لديه أصالة معرفية وفلسفية ومعارف شتى،
فيزداد هذا الاغتراب ويَعمُق، والمعري حالة شاسعة شعريًا. [1]

إنتاج المعري المغترب يتعارض دلاليًا مع كل المجتمع الخاص به الذي اغترب عنه. فيبدأ في الخروج من المفاهيم السائدة واحدة تلو الأخرى، فالخارج والشارد من المجتمع يكون مشغولًا بالمعايير الاجتماعية التي صنّفته، والتي خرج عليها طوال حياته بدرجة ذهانية. فالشاعر يُمعِن في الاغتراب، وهذا تبسيط مخل للظاهرة، فالمبدع ليس في صراع من أجل الصراع مع مجتمعه، وإنما هو عين مختلفة ترصد المجتمع، وتطمح لكماله وسعادته، وترصد في ذلك أوجه القصور، بل وتعبر عن المجتمع في لحظات الانتصار وأزمنة النهضة وأوقات الصعود الحضاري، بمفهوم الحضارة الشامل لرقي الإنسان ماديًا وروحيًا. [2]

وربما ذلك لتقوية أسباب الخروج مع رؤية التنعم إن اعترف بأبوة المجتمع وامتثل له، وربما تبريرها لذاته بغض النظر عن خطئها أو صوابها، إمّا لانشغاله اليوتوبي بالتبشير بالنقد والكفر والخروج. وإمّا بسبب طبيعة الشاعر الحقيقي بالشك والحيرة والخروج على أي مجتمع ولو حتى مجتمع اليوتوبيا ذاته، بسبب توقه اللامحدود الذي لا ينتهي للتكون والتشكل.

فطبيعة
الكتابة الشعرية نفسها والانفصام بين الواقع ومخيلة الشاعر تجعل انبثاق الصورة الخيالية
المصطنعة والمستمدة نفسها من الواقع المادي ترسم طريق انفصال محوري بين رؤية ذاتية
تدرك الواقع بصورة طبيعية، ورؤية ذاتية أخرى تحاول أن تغير الواقع بالتمرد عليه وتحطيم
قوانينه.
وهذا موجود عند المعري بكثرة فهذا العالم على الورقة
يعذِبه لأنه لا يوجد له مثال آخر إلا في رأسه. [3]

الثورة على الدين

الثورة على الدين مرتبطة بقدرة الشاعر على الحس بالسُلطات الأولى والمفاهيم الساجنة الكاملة ومنها الدين أيًا كان نوعه، اجتماعيًا أو سياسيًا أو شعبيًا أو الدين نفسه (النص)، لأن هذه القدرة عالية جدًا عند الشاعر، لذلك يبدأ في نقده أولًا، ولأن وجود التمظهر الفاسد للدين في رجاله كان طاغيًا في العصر العباسي، فهناك انفصام بين ما يقولونه وما يفعلونه فهم كانوا يتناحرون:

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكرٌ من القدماء

فلا تحسب مقال الرسل حقاً ولكن قول زور سطّروه

وكان الناس في يمنٍ رغيدٍ فجاءوا بالمحال فكدروه

دين وكفر وأنباء تقص وفرقان وتوراة وإنجيل

في كل جيل أباطيل، يدان بها فهل تفرد يوماً بالهدى جيل؟

الثورة على الذات (التيه والزهد)

يمكن أن تستخرج من نصوص المعري بالواضح الجازم لا دينيته، ويمكن أن تستخرج أيضًا إيمانه، ويمكن أن تستخرج منها ما ينقد النبوات والرسل. ولا أحد يعرف في تلك المتاهة الشعرية ماذا كان يعتقد المعري بالتحديد. الأمر ينصب حول ذات الشاعر متعددة المزاجيات والمشاعر المتشابكة والمعقدة جدًا.

والإرادة عند القارئ في تحديده إمّا لجذبه ناحيته للتفاخر بمعتقده، وإمّا لذمه للتأكيد على الابتعاد عنه. وحتى القارئ يختلف على حسب أرضيته المعرفية، فالاعتقاد بالكفر أو الإيمان اعتقاد نسبي بين المذاهب، فعند الصوفية مثلًا لن يعد المعري كافرًا، وعند السلفية كافرًا بسبب اختلاف التقييمات والتأويلات للنصوص في المذاهب.

وهذا الاضطراب يُدخِل الذات في تيه، لأن الإيمان بالدين أو
بالله أو الكفر به يؤثر بشكل كبير على الذات. فالدين له تراث كامل من التصورات
التي هي موجودة فعليًا في بيئة المعري، والتي تُشكِّل رؤية لحياته ولما ورائه.

والتيه هو عدم وجود جهة اعتقادية ولا وجود إيمان مطلق
بشيء، وضياع المعيارية بالكامل أو بالجزء. فيثور على اعتقاده طوال الوقت ويسأل
فيه.

أمّا عن الزهد ففلسفة أبي العلاء المعري هي الحياة في فلسفة
الحانق الغيّظ المرتفع عن نعيم الحياة ولذاتها، الذي يؤثر أن يفقد كل شيء على أن يقنع
ببعض الشيء”، ومن نوازع الزهد
عنده الوحدة والتباعد عن الناس، فهو يقول في لزوم ما لا يلزم. [4]

إِذا حَضَرَت عِندي الجَماعَةُ أَوحَشَت *** فَما وَحدَتي إِلّا صَحيفَةُ إيناسي

طَهارَةُ مِثلي في التَباعُدِ عَنكُمُ *** وَقُربُكُمُ يَجني هُمومي وَأَدناسي

الثورة على الحكم السياسي

عاش أبو العلاء المعري في العصر العباسي الثالث، وقد كان
عصر تدهور، ففي الشام كان هناك صراع بين الفاطميين والحمدانيين، وحتى في زيارته
لبغداد كان هناك صراع سياسي أيضًا، ولم تكن أحسن حالًا من الشام.

ولم يكن للمعري اتصال بالسياسة العملية كبير، لأن ذهاب
بصره حال بينه وبين لقاء الملوك والأمراء، فحياؤه وحرصه على ألا يظهر تقصيره عن المبصرين
في الأوضاع العامة من جهة، وفطرته ودرسه وفلسفته وجملة حياته المادية والعقلية من
جهة أخرى، كانت تحول بينه وبين قصور الملوك والأمراء ودواوين المشورة والحكم.
[5]

ولكنه هجا وذم وتحسّر:

أَما العِراقُ فَعَمَّت أَرضَهُ فِتَنٌ *** مِثلُ القِيامَةِ غَشَتها غَواشيها

وَالشامُ أَصلَحُ إِلّا أَنَّ هامَتَهُ *** فُضَّت وَأَسرى عَلى النيرانِ عاشيها


المراجع



  1. آمال عبد المنعم الحراسيس، “ظاهرة الاغتراب في شعر مخضرمي الجاهلية والإسلام”.
  2. مصطفى عطية، “إشكالية الاغتراب في الأدب العربي المعاصر”.
  3. جنبلاط الغرابي، “الازدواجية الوجدانية في سيكولوجية الشاعر”.
  4. تغريد زعيميان، “الآراء الفلسفية عند المعري والخيام”، ص 155.
  5. طه حسين، “تجديد ذكرى أبي العلاء”، ص 160-179.