القوات العسكرية الجزائرية تحتشد على الحدود الجزائرية الموريتانية بانتظار إشارة من الرئيس الموريتاني

مختار ولد داداه

بعد أن خضعت طواعيةً هي وقائدها العام الرئيس الجزائري

هواري بومدين

لتصرف الرئيس الموريتاني؛ لتهب نجدةً للقوات الموريتانية في حال تدخلت فرنسا عسكريًا، إذ ستقوم الحكومة الموريتانية بمواجهة الاستغلال الفرنسي المُجحف لمناجم الحديد الموريتانية عبر شركة «مفيرما» بتأميم تلك الشركة، وكذلك عرضت الجزائر آلات ومعدات لتحل محل المعدات الفرنسية حال رحليها.

كان ذلك المشهد الأخوي البديع في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1974، بعد أشهر قليلة من رفض ولد داداه عرض بومدين، بإقامة فيدرالية تضم الجزائر وموريتانيا كما

جاء في مذكراته

، وهذا مشهدٌ آخر من مشاهد التقارب الشديد بين الدولتين.

لكنه مع ذلك طمأنني وأكد على أن كل مقدرات الجزائر رهن إشارة موريتانيا





الرئيس الموريتاني «مختار ولد داداه»

صحيحٌ أن الأمر مضى بسلام ولم تُضطر القوات الجزائرية للتدخل، وأن الأسباب وراء ذلك الفعل قد تكون متعلقة برغبة الجزائر في تمريغ أنف فرنسا بسبب ما لحق بها من خراب، وجثث الشهداء الذين لم تجف دماؤهم بعد، أكثر من كونها متعلقةً بالدفاع عن موريتانيا، ولكن يبقى أن الجزائر قد هبت لأجل موريتانيا.

ولأن موريتانيا من أكثر الدول هشاشة في بنيتها التحتية فقد حاولت كثيرًا أن تستعين بالآخرين لمساعدتها على النهوض، وأكثر دولة ورد ذكرها في

مذكرات ولد داداه

كانت الجزائر، حتى حين أرادت موريتانيا إنشاء ميناء في نواكشوط، تبرعت الجزائر بكامل المبلغ الذي بلغ حينها 250 مليون فرانك، وحين أعلنت الصين أنها ستتكفل بهذا المشروع جملةً وتفصيلًا، رفضت الجزائر استعادة المبلغ وأبقته هبةَ للشعب الموريتاني، ومستشفى مدينة «آلاك» تشهد على ذلك.

لقد أظهر بومدين كثيرًا من الاستعداد والرغبة لمساعدتنا في مرحلة حاسمة من نضالنا، بروح نضالية وبتجرد ملحوظ، مما ترك أثرًا عميقا في نفسي، وأعتبر أن له وللجزائر دينًا كبيرًا عليّ وعلى بلادي، بالرغم من أذاه الشديد بعد لقاء بشار في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1975





الرئيس الموريتاني مختار ولد داداه


موريتانيا لن تعيش في جلباب الجزائر

المختار ولد داداه، موريتانيا

الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه

كانت بداية انتهاء الود في لقاء القطيعة الذي جمع الرجلين في مارس/آذار 1975،بمطار بشار، والسبب القديم الجديد، وبل يمكن تسميته السبب الدائم للخلافات، هو المغرب ومفاوضات الصحراء الغربية . كانت موريتانيا تفضل الاستمرار في المفاوضات والوصول إلى حلٍ وسط، بينما رأت الجزائر الانسحاب من تلك المفاوضات؛ إذ رأت فيها رغبةً من المغرب في سحق الشعب الصحراوي، وأعلنت الجزائر أنّها لن تترد في إرسال مقاتليها لأجل حرية الشعب الصحراوي.

وقبل توقيع

اتفاق مدريد

1975 بأربعة أيام، والذي بموجبه تم تقسيم الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا إلى جزءين، جنوب الصحراء الغربية ويجب على سكانها الاندماج مع المغرب وشمال الصحراء الغربية ويجب على سكانها الاندماج مع موريتانيا، طلب بومدين لقاء ولد داداه وخيره بين المغرب والجزائر، فأجابه الأخير أن مصالح بلاده تتلاقى مع المغرب لا الجزائر.

أطلب منك أن تسحب بلادك من هذه المفاوضات وألا توقع على الاتفاقية التي يجري الإعداد لها، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة بالنسبة لبلادك وبالنسبة لك شخصيًا





هواري بومدين – الرئيس الجزائري

وبهذه الصورة بدأ فصل جديد تمامًا على المغرب العربي كاملًا، فالعلاقات الموريتانية الجزائرية انقلبت رأسًا على عقب فصارت موريتانيا عدوًا للجزائر، وحليفًا للمغرب الذي قطع في 1960 علاقاته مع تونس احتجاجًا على إعلان الحبيب بورقيبة اعترافه باستقلال الجزائر. واتخذت الجزائر منحنى جديدًا في سياستها مع المغرب، إذ اعترفت بتقديم دعم مادي مباشر لجبهة البوليساريو.


موريتانيا الحائرة: المغرب أم الجزائر؟

على الرغم من تفضيل المغرب على الجزائر، إلا أن موريتانيا لم تنس موقف المغرب الرافض حتى وقت قريب لاستقلالها، ونظرة المغرب الدائمة لها بأنها جزء من الإمبراطورية المغربية، ولهذا ظلت

العلاقات بين البلدين

حذرة حتى في مرحلة ما بعد الاعتراف المغربي بموريتانيا إلى درجة أن موريتانيا لم تعيّن أي سفير لها في المغرب حتى الآن.

وكذلك يبقى الشك المغربي موجودًا في ولاء موريتانيا، ولهذا عارض المغرب تولي موريتانيا كرسيًا في مجلس الأمن، نظرًا لعدم وضوح موقفها من الجزائر والبوليساريو، بل وزعمت المغرب حينها أن موريتانيا دائمًا ما تميل إلى البوليساريو والجزائر في أي نازلة.

إلا أن عودةً في السنوات الأخيرة إلى الحضن المغربي بددت بعضًا من هذا الشك، منها زيارة زيارة رئيس الحزب الحاكم، سيدي محمد ولد محمد، في 2015 واستقباله بترحاب شديد. ثم زيارة وزير الخارجية المغربي، صلاح الدين مزوار، إلى موريتانيا ليُعيد الدفء إلى البلدين.

وأظهرت موريتانيا ودًا غير مسبوق حين قامت منذ عامين بطرد المستشار الأول بسفارة الجزائر في نواكشوط، «بلقاسم الشرواطي»، لاتهامه بالوقوف خلف مقال يتحدث عن شكوى موريتانية إلى الأمم المُتحدة تتهم فيها المغرب بإغراق حدودها الشمالية بالمخدرات، مما اعتبرته موريتانيا مسيئًا إلى علاقاتها الخارجية، لتشتعل بذلك أزمة جزائرية موريتانية جديدة، قامت الجزائر على إثرها برد الصفعة وبطرد المستشار الأول بسفارة موريتانيا.



عادت الأزمة بين الجزائر وموريتانيا بعد إعلان مجموعة «الدول الخمس في الساحل» إنشاء قوة عسكرية مشتركة ولم تدع إليها الجزائر

«ولكن آفة حارتنا النسيان»، وآفة السياسة ألا شيء يُنسىى، حيث قامت موريتانيا في ديسمبر/كانون الأول 2011، بطرد مدير مكتب وكالة الأنباء المغربية بنواكشوط، عبد الحفيظ البقالي، لنفس التهمة، وهى الإساءة إلى علاقاتها الخارجية، ولنفس السبب، وهو نشر عدة مقالات تتحدث عن علاقات موريتانيا والجزائر، ووصل الأمر إلى الاتهام بالتجسس. وأفرطت موريتانيا في جفوتها فلم تقم باستقبال رسمي لوزير الدولة المغربي آن ذاك عبد الله باها، خلال زيارته لموريتانيا بدعوة من بعض الأحزاب الموريتانية.

أما على الصعيد الجزائري، هدأت الأوضاع المتأزمة الناتجة عن طرد الدبلوماسيّين من البلدين، وذلك بفضل وساطة تونسيّة استطاعت طي صفحة أزمة استمرت 5 شهور متواصلة. ولكن سرعان ما انتشر الدخان معلنًا عن أزمة جديدة بين البلدين؛ إذ أعلنت مجموعة «الدول الخمس في الساحل» وهي: موريتانيا والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو ومالي. إنشاء قوة عسكرية مشتركة للتدخل في المنطقة إذا لزم الأمر، ولكن تلك القوة لم تُدع الجزائر إليها.

إذ ترى الجزائر أن تلك القوة ستضر بالمنطقة أكثر مما ستفيدها، وأن ما يُعرف بمجموعة الساحل تتحرك بناء على سياسات خارجية أجنبية. ولعل ما تقصده الجزائر هو خلافها مع فرنسا، الراعية والمتولية أمر التمويل المالي والتمثيل الدولي لدول الساحل، بسبب أن فرنسا ترى عدم جدية الجزائر في محاربة الإرهاب. وهو ما ذكرته فرنسا بأنّها جربت الجزائر في أكثر من موقف مثل تحالف «دول الميدان» الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر.

كما ترى الجزائر في هذا الإقصاء دليلًا جديدًا على ميل موريتانيا نحو المغرب؛ إذ تزعم أن المغرب هو من سرب معلومات إلى دول الساحل حول عدم جدية الجزائر في محاربة الإرهاب.


السعودية تُشعل الأزمة الخليجية والأزمة المغاربية

في ظل هذا المناخ المليء بالتوتر وعدم الاستقرار تطفو على السطح مؤخرًا الأزمة الخليجية، والتي صارت محور المفاصلة والتمايز بين الحلفاء والفرقاء. ومن تلك الدول التي لم تترد في الانحياز منذ اليوم الأول إلى السعودية كانت موريتانيا. ولم يبدُ هذا الموقف مفاجئًا، فللسعودية حضور ديني وثقافي واقتصادي في موريتانيا منذ استقلالها.



تلعب السعودية دورا كبيرا في توطيد العلاقات بين موريتانيا والمغرب علي حساب العلاقات بين موريتانيا والجزائر، لأن المغرب هي الحليف المفضل للسعودية

وكذلك عملت السعودية دائمًا على توطيد علاقات موريتانيا مع المغرب وتهدئة حدتها، إذ إن المغرب هو الحليف المُفضل للمملكة السعودية، وآخر ما تبقى من الممالك بجانب السعودية، ولم تسمح السعودية أيضًا بعودة التقارب مع الجزائر؛ إذا سيأتي بشكل سلبيّ على التقارب مع المغرب.

وتأتي

الأزمة الأخيرة

التي أثيرت منذ أيام بإغلاق موريتانيا حدودها مع الجزائر وإعلانها منطقة عسكريةً يحظر على المدنيين التواجد فيها. وكان السبب المُعلن الصعوبة التي تواجهها وزارة الدفاع الموريتانية في التفريق بين المهربين والمدنيين، إذ تشتهر تلك المنطقة بالمنقبين عن الذهب واتساع عمليات التهريب عبر الحدود. إلا أن الواقع يجعل السبب الحقيقي واحدا من اثنين:

إما أن الأمر جاء بإيعاز من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ إذ جاء الإغلاق بعد أيام من اجتماع

ماكرون مع دول الساحل

الخمس المذكورة آنفًا في مالي. أو جاء بإيعاز من السعودية بسبب موقف الجزائر من الأزمة الخليجية والتي وصفته قطر «بالمُشرف».

وسواء كان هذا أو ذاك، لن يغير من حقيقة الأمر شيء. فستبقى موريتانيا كـ«كرة التنس»، لا تلبث أن تصطدم بمضرب لاعب حتى تهرع إلى أحضان اللاعب الآخر فتجد منه ما وجدت سابقًا؛ فتعود إلى الأول، وهكذا تكتمل دورةٌ من العذاب وضياع السيادة وضعف الشخصية الوطنية.

والمُؤذي هنا أن شرط بقاء الكرة في ملعب الأحداث هو أن يستمر سحقها من اللاعبين، وإلا خرجت من اللعبة نهائيًا، فأمام موريتانيا باعٌ طويل إن أرادت الاستقلال السياسي بعد أن نالت الاستقلال الجغرافي.