طبيعة المعرفة الإنسانية وتعريفها وكيفية تشكلها هو البحث الإنساني الأقدم الذي تدور الفلسفة القديمة والحديثة حوله بشكل كبير، ولا شك أن المعرفة وتراكمها وتناقلها هي الخصيصة الأبرز للإنسان عن باقي الكائنات، ويمكننا أن نلاحظ أن مسألة وعي الإنسان لذاته وللعالم من حوله هي الدافع الرئيس لتشكل المعرفة وتراكمها خارج إطار الغريزة التقليدي الذي قد تشاركه فيه الحيوانات الأخرى.

بعبارة أخرى يُمكننا أن نعتبر المعرفة هي مدار وجود الإنسان وبالتالي فإن البحث حول المعرفة أو محاولة «معرفة المعرفة» هي محاولة لفهم الإنسان في خصيصته المميزة والفريدة وجوهره المختلف، وبالطبع فإن لهذا البحث مداخل متعددة لا تُحصى، واتجاهات مختلفة، ولكن ما نحن بصدده هو علاقة المعرفة الإنسانية وإنتاجها ودورها واستخداماتها بنظام المجتمع الرأسمالي الذي ساد بشكل كبير معظم المجتمعات الإنسانية الحديثة.


مضامين لا بد منها


الرأسمالية

هي نظام اجتماعي يقوم على الاعتراف بحقوق الفرد وفي القلب منها حق التملك، حيث كل الأشياء هي ملكية خاصة بالأساس. الوظيفة الوحيدة للحكومة في النظام الرأسمالي هي حماية حقوق الإنسان عن طريق احتكارها للعنف الذي تستعمله فقط لهذا الغرض الدفاعي تحت قيود مشددة.



الرأسمالية ليست بالأساس نظرية اقتصادية محضة إنما يستتبعها نظام اجتماعي وسياسي يجب أن يكون قادرا على تحقيقها

النظام الرأسمالي: بالأساس هو الجانب الاقتصادي من النظرية الليبرالية التي تتبنى مبدأ العقد الاجتماعي، حيث يرتبط أفراد المجتمع الواحد بعلاقات تعاقدية تمنع حرب الجميع ضد الجميع لإنشاء وسط يسمح بالتعايش المشترك. بالنسبة للرأسمالية أو الجانب الاقتصادي من النظرية فإن الوسط الذي يسمح بالتبادل المشترك للمنفعة هو السوق وبالتالي يجب على السوق طبقًا لهذا المبدأ أن يخلو من أي شكل من أشكال الفرض أو العنف حتى وإن كان من الدولة، بعبارة أخرى على السوق أن يكون حرًا بالتحديد من سطوة الدولة.

تؤسس النظرية الليبرالية في الاقتصاد لنفسها على أربعة مبادئ أو أعمدة رئيسية: المبدأ الأول: أن جميع الأفراد واعون وحريصون على مصلحتهم الخاصة. المبدأ الثاني: هو أن السوق هو الأقدر على التوزيع العادل للثروات والطاقات لتحقيق النفع الاقتصادي الأفضل وبالتالي يجب أن يظل حرًا. المبدأ الثالث: هو مبدأ عدم التدخل أي أن الدولة لا يجب عليها أن تكون جزءًا من المشهد الاقتصادي ولا يجب أن يكون لها ملكية عامة. وأخيرًا المبدأ الرابع: وهو يقضي برفع كل القيود عن التجارة سواءً الداخلية أو الخارجية.


المعرفة

: هي الحقائق والمعلومات والمهارات المكتسبة عن طريق الخبرة أو التلقين والتي تعبر عن الإحاطة العملية أو النظرية بموضوعها. أي أن المعرفة بالأساس وسيط بين الإنسان والموضوع، وهي من هذه الناحية نوع من السلطة أو القيد على علاقة الإنسان بالشيء. ومن خلال هذا التعريف يمكننا أن نتبين العلاقة العضوية المتبادلة بين السلطة والمعرفة. كل سلطة هي إرادة للتغير أو الإخضاع تمارس من قبل الذات على الموضوع، هذه السلطة يجب أن تمر بالمعرفة كونها تمثل الوسيط الإدراكي للذات تجاه الشيء الذي تخضعه أو تغيره.

إدخال مفهوم السلطة في محاولة فهم العلاقة بين الرأسمالية والمعرفة ليس اعتباطا إنما هو نابع من اعتبارات عديدة، منها أن الرأسمالية ليست بالأساس نظرية اقتصادية محضة إنما يستتبعها نظام اجتماعي وسياسي يجب أن يكون قادرا على تحقيقها.



الليبرالية كما يعبر عنها فوكو ليست أيديولوجيا أو عقيدة سياسية إنما هي طريقة تفكير تؤسس لمجال سياسي يسمح بممارسة الحرية

في نقده لشكل السلطة الليبرالية أو الديمقراطية

يبين

هيجل أن نظرية العلاقات التعاقدية التي تسود السوق لكي تحافظ على بقائها أو لكي تؤسس لنفسها تتمدد إلى المجتمع المدني أو الوسط العام فتؤسس السلطة في المجتمع على شكل علاقات تعاقدية يمكننا أن نلخصها في «الديمقراطية» أو «العقد الاجتماعي». يعتبر هيجل هذا التأسيس نوعًا من القمع الذي تمارسه الطبقة البرجوازية وهي صاحبة رأس المال لضمان حماية وتوسيع مصالحها.

على خلاف الليبرالية لا يعترف هيجل بالملكية الفردية كحق مكتسب يتم الحفاظ عليه من خلال العلاقة التعاقدية في المجتمع وإنما يعتبره حقًا متوافقًا عليه، أي أن المجتمع هو الذي يتوافق على منح هذه الحقوق وذلك لأن الوعي والمحددات الاجتماعية سابقة للوعي الفردي وكذلك لاعتقاده بأن المجتمع ليس حصيلة أفراده. بالتالي إذا كان حق الملكية حقًا متوافقًا عليه فهو إذًا قابل دائما لإعادة التوافق وقابل دائمًا لإعادة التوزيع وهو ما ترفضه الطبقة البرجوازية عبر تأسيسها لسلطة ليبرالية تسود فيها الرأسمالية (العلاقات التعاقدية) كأساس للتعامل مع حق الملكية.

لكن الليبرالية كما يعبر عنها فوكو ليست أيديولوجيا أو عقيدة سياسية إنما هي طريقة تفكير أو عقلية تؤسس لمجال سياسي أو تعيد تأسيس مجال سياسي يسمح بممارسة الحرية ولممارسة التبادلات التجارية في وجه السعي القديم من الدولة للسيطرة على كل شيء. هذه العقلية عقلية نقدية بالأساس سواء للدولة أو لنفسها وهي ما تفتأ تعيد بناء المجال السياسي الذي كانت قد بنته من قبل. لكن على كل حال يمكننا خلال القرن الماضي أن نميز وجهين لليبرالية سيطرا تباعًا على الاقتصاد والمجتمع الحديث، وأثّرا في منظومة إنتاج المعرفة والتعامل معها هما: الليبرالية الكلاسيكية والنيوليبرالية التي سادَت في الثلاث عقود الأخيرة من القرن الماضي.


بين النظرية السياسية والمعرفة

كما ذكرنا فقد تبنت الليبرالية الكلاسيكية موقفا نقديا سلبيا من الدولة وهو ما عنى موقفا نقديا من السوق أيضا. والنقد هنا هو بمقصد تعيين الحد، أي أن النظرية الكلاسيكية حافظت على حد معين في تعريف السوق لهذا تميزت المجتمعات الليبرالية الكلاسيكية بالحرية في كل المجالات التي تقع بين الدولة والسوق والتي من بينها مؤسسات إنتاج المعرفة كالجامعات والمدارس.

علاقة الليبرالية الكلاسيكية بالمعرفة يمكننا أن نختصرها في كلمة «التوظيف». حيث يتم توظيف المعرفة العملية سواء التي أنتجت من داخل السوق نفسه أو المنتجة في المؤسسات العلمية خارجية في توليد القيمة المضافة لزيادة القدرة التنافسية للمنتج. هنا تكون المعرفة قيمة مضافة بينما تكون القيمة الأساسية هي التي تولدها العوامل التقليدية طبقا لنظرية الإنتاج الكلاسيكية كالعمل ورأس المال والمواد الخام والطاقة. التوسع في إنتاج المعرفة في الاقتصاد الليبرالي الكلاسيكي مرتبط بظاهرة العولمة التي زادت من دور المعرفة في إنتاج القيمة بسبب السهولة النسبية التي تحققها العولمة في نقل وتوزيع العوامل الأخرى.

يمكننا أن نعتبر العولمة إذا أول الظواهر التي أدت لتغيير العلاقة بين النظرية الكلاسيكية والمعرفة. تفترض النظرية الكلاسيكية في الإنتاج أن زيادة رأس المال عن حد معين لا تعني زيادة في العائد ولكن مع الاستثمار التكنولوجي في ظل العولمة أصبح استثمار أي قدر من رأس المال على جانب إنتاج المعرفة يؤدي تلقائيًا لزيادة في العائدات. أي أن زيادة المعرفة أصبحت تعني بشكل مباشر زيادة في الأرباح.

هذه المعرفة المربحة ليست فقط هي المعرفة المرتبطة بإنتاج السلعة، إنما أيضا المعرفة المرتبطة بالمستهلك وكيفية تهيئته أو جعله قابلًا لاستهلاك السلعة عن طريق صناعة الدعاية وإضافة عناصر جديدة إلى سلم حاجاته التي يحتاج لإشباعها.

أصبح من الضروري إذًا على الليبرالية إذا أرادت الاستمرار في تحقيق الأرباح أن تخرج من موقفها السلبي تجاه الدولة وتجاه حدود السوق وتسعى لرسملة كل ما هو قادر على تحقيق الأرباح وهنا جاء دور نظرية النيوليبرالية؛ فقد تبنت هذه النظرية موقفًا أكثر إيجابية تجاه الدولة، واعتبرت أن مسؤوليتها لا تقتصرُ فقط على توفير الحماية للسوق إنما تمتد لتهيئة الأفراد أو المواطنين القادرين على أن يعملوا بكفاءة في بيئة السوق والشركات.

إن الموقف النيوليبرالي أعمق غورًا من ذلك، فهو بالأساس ينطلق من فكرة أن منطق العلاقات التعاقدية أو آليات السوق قادرة على استخراج القيمة من أي شيء أو أي ممارسة وفعل إنساني وبالتالي يجبُ أن يتم نقل هذه الآليات إلى جميع مؤسسات ومناحي العمل الإنساني داخل المجتمع.

تبدأ النيوليبرالية من فكرة إعادة تصميم مؤسسات القطاع العام لتصبح قابلة على العمل داخل السوق وتغيير معايير التقييم والحساب والمراقبة والتحفيز داخلها؛ لتشابه تلك المتبعة داخل السوق. في نهاية المطاف يجب أن نكون قادرين على حساب منتج أي مؤسسة عامة على شكل سلعة.

إحدى النظريات الأساسية في إعادة خلق المؤسسات الحكومية هي «نظرية الوكالة»، وهي نظرية تقوم على تحديد العلاقة بين الرئيس ومرؤوسيه في العمل عن طريق سلسلة تعاقدية يعرف كل شخص في السلسلة مهمته بناء على هذا الشرط التعاقدي وهو ما أدى لظهور فكرة التخصص بدلًا من الوظيفة. أي أن العميل أو الموظف مطالب بمهام محددة متفق عليها مسبقا بدلًا من محددات الصالح العام أو المحددات العامة للوظيفة.

لم تفلِت مؤسّسات إنتاج المعرفة وهي الجامعات والمراكز البحثية من هذه الرسملة، ويمكننا في هذا السياق أن نرسم صورة مقارنة لمؤسّسات إنتاج المعرفة في العهد الليبرالي الكلاسيكي مقابل عصر النيوليبرالية سنستخدم فيها عدة محددات:

  • تنتمي الجامعات في العهد الكلاسيكي إلى القطاع العام بينما تعمل أغلبها في عصر النيوليبرالية ضمن القطاع الخاص.
  • تعتمدُ إدارة الجامعات في العصر النيوليبرالي على الإدارة الصلبة القائمة على نظرية الوكالة بينما في عهد الليبرالية الكلاسيكية تقوم على الزمالة والتصويت الديمقراطي والضمير المهني
  • من حيث الأهداف تميل الجامعات النيوليبرالية إلى تحقيق الربح وتعظيم الكفاءة في إنتاج المعرفة التطبيقية والحصول على الأبحاث الممولة، بينما في العصر الكلاسيكي كانت الجامعات تهدف للمعرفة والبحث والحقيقة والمنطق والنقد وليس الربح.
  • علاقات العمل في النظام النيوليبرالي تميل إلى التنافسية و الهيراركية والولاء للمؤسسة وعدم القدرة على نقد الجامعة، بينما في الجامعات الكلاسيكية كانت قائمة على الأخلاقيات البحثية وحرية التعبير والنقد بتعبير آخر كانت قائمة على التثقيف العام
  • بالنسبة لمحددات الأداء كانت تعتمد في العصر الكلاسيكي على البيروقراطية الوظيفية وتقييم الأقران وعلى الدور المؤسسي بينما في العصر النيوليبرالي تعتمد بالأساس على المستهلك وعلى العدد الكمي للناتج البحثي أي تم تجزئة العمل البحثي لوحدات رقمية قابلة للقياس وقابلة للعرض والتبادل مع المستهلك.
  • نظام التعليم نفسه داخل الجامعة أصبح أكثر قابلية للتقسيم والتقييم والنقل بالاعتماد على نظام الترمات والتعليم عن بعد و التعليم الصيفي والتدريب العملي بينما في الجامعات الكلاسيكية كانت يتم تدريس المعرفة لأجل المعرفة.
  • في النظام الليبرالي الكلاسيكي كانت الأبحاث مرتبطة بالعملية التعليمية داخل الجامعة ومكملا لها، تنبع أسئلتها و أفكارها من داخل الجامعة بينما تعتمد الجامعات الآن في العهد النيوليبرالي على الأبحاث الممولة من الخارج المنفصلة عن عملية التعليم والتي تتحكم فيها مؤسسة خارجية

    [1]

    .

الاقتصاد والمعرفة



يتم توظيف المعرفة العملية سواء التي أنتجت من داخل السوق نفسه أو المنتجة في المؤسسات العلمية خارجية في توليد القيمة المضافة لزيادة القدرة التنافسية للمنتج.

في الفترة الأخيرة ارتفع سهم ما يسمى «بالاقتصاد القائم على المعرفة» بين أوساط المحللين والباحثين الاقتصاديين باعتباره الشكل الأمثل لاقتصاديات الحاضر. يعتمد هذا الاقتصاد بشكل أساسي على إنتاج وتوزيع واستخدام المعرفة والمعلومات، وينعكس هذا بشكل مباشر في شكل زيادة الاستثمارات على قطاع التكنولوجيا شديدة التطور وهو ما يتطلب عمالة شديدة المهارة والتدريب أيضا.



تزيد محاولات تصنيف وتجزئة المعرفة لوحدات قابلة للنقل لمواكبة التطور السريع لأجهزة الحاسب والاتصالات وظهور «مجتمع المعلومات» على الساحة الاقتصادية بقوة.

مع أن المعرفة كانت لمدة طويلة جزءًا مهمًا من عوامل النمو الاقتصادي إلا أن الاقتصاديين الآن يحاولون إيجاد طرق مباشرة لإدراج المعرفة في مؤشرات التنمية وهي مهمة صعبة باعتبار أن المعرفة صعبة التجزئة والتقييم، والتقدم التكنولوجي والعولمي القائم يجعل من الصعب إيجاد آليات لحساب المعرفة المنتجة والمتناقلة في جسد الاقتصاد وحول العالم.

يوما بعد يوم تزيد محاولات تصنيف وتجزئة المعرفة لوحدات قابلة للنقل لمواكبة التطور السريع لأجهزة الحاسب والاتصالات وظهور «مجتمع المعلومات» على الساحة الاقتصادية بقوة، والنموذج الجديد للابتكار في سوق التكنولوجيا والسلع الاقتصادية أصبح مختلفا ومعتمدا بشكل آخر على دوائر التفاعل والتقييم بين المنتج والمستهلك بسبب التطور في تجزئة وتصنيف ونقل المعلومات بدل النموذج الخطي السابق الذي لم يكن فيه مساحة للتفاعل المعلوماتي وإعادة التقييم.

منظومة العمل والتوظيف كذلك اختلفت في الاقتصاد الجديد القائم على المعرفة عن الاقتصاد القديم. يمكننا أن نلاحظ الطلب الشديد والمتزايد على العمالة شديدة التدريب بالذات في مجالات التكنولوجيا المتطورة التي تعتبر أهم المجالات الاقتصادية ديناميكية وتغيرا في سوق العمل. بسبب هذا التغير السريع زاد الطلب بشكل كبير على العمالة المدربة بدلا من العمالة التقليدية. لذلك فإن السياسات الحكومية في هكذا اقتصاديات تتجه للاستثمار في رأس المال البشري بشكل كبير ومتزايد بالذات من خلال تطوير شبكات بث ونقل المعلومات وزيادة مراكز التدريب.

في هذا السياق يبرز الفصل في النظريات الاقتصادية الجديدة بين إنتاج المعرفة وبث المعرفة ونقل المعرفة، وتتطلب كل مرحلة مؤسسات واستراتيجيات مختلفة في جسد الاقتصاد. كما أسلفنا فإن التغير الجديد في مؤسسات إنتاج المعرفة على الطريقة النيوليبرالية جاء لمواكبة التقدم السريع والازدياد المهول للطلب على المعرفة في الاقتصاد الجديد. بث المعرفة مصطلح يدل على مرحلة التعليم والتدريب سواء في الجامعات أو عبر الإنترنت أو مراكز التدريب أو داخل الشركات نفسها وفي هذا الإطار تظهر الحاجة لآليات وشبكات جديد لبث المعرفة التي ينتجها السوق أو الشركات من خلال التفاعل الآني. إننا يمكن أن نلاحظ الطفرة الهائلة التي حدثت في وسائل نقل المعلومات بين مختلف أرجاء العالم وهو ما زاد من قدرة الشركات ورأس المال على اكتشاف الفرص والتنقل السريع بين الأسواق و مواكبة التكنولوجيا

[2]

.


المراجع



  1. ”Neoliberalism, higher education and the knowledge economy: from the free market to knowledge capitalism” ,Mark Olssena; Michael A. Petersb, University of Surrey, UK b University of Glasgow, UK
  2. ”The knowledge based economy” ORGANISATION FOR ECONOMIC CO-OPERATION AND DEVELOPMENT, paris 1996