في عام 1980م، قامت الحكومة الأمريكية بإصدار أول مجموعة من الإرشادات الغذائية بعد العديد من المشاورات والمناقشات مع كبار علماء التغذية في أمريكا، وقد ساهمت تلك الإرشادات في تغيير شكل أنماط الغذاء في أمريكا والعالم، حيث أصبح المواطنون يعتمدون عليها في تخطيط غذائهم تبعًا لما تقرّ تلك الإرشادات أنه صحي ومفيد، وأصبح الكثير من أطباء التغذية يعتمدون تلك الإرشادات كمرجع للنصائح الغذائية التي يقدمونها للمرضى وكذلك أصبحت شركات الأغذية تطور منتجاتها لتكون متوافقة مع تلك الإرشادات. وقد كان لتلك الإرشادات أثر ممتد حتى خارج الولايات المتحدة، حيث قامت الحكومة البريطانية بإصدار عدد من النصائح المشابهة لتلك التي أصدرتها الولايات المتحدة.

كانت النصيحة الرئيسية في تلك الإرشادات هي الإقلال من تناول الدهون المشبعة والكوليسترول (وقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يُنصح فيها الناس بالإقلال من تناول نوع معين من مكونات الغذاء، بدلًا من النصيحة الدائمة بتناول ما يكفي من كل نوع من الأنواع)، وقد كانت محاولة الحدّ من انتشار السمنة (وما يتتبعها من أمراض) أحد أهم الأهداف وراء إصدار تلك الإرشادات، لكنه على الرغم من توجه الناس للالتزام بالتعليمات الصادرة في تلك الإرشادات (حيث تحول الناس من استعمال الزبد إلى استعمال

السمن النباتي margarine

وقاموا بالتحول إلى عصير البرتقال بدلًا من الحليب،

والحبوب

بدلًا من البيض)، فإن معدلات السمنة والمرض استمرت في الازدياد بدلاً من أن تنقص.


ماذا حدث لمعدلات السمنة؟


http://gty.im/77931886

بفحص الرسوم البيانية لمعدلات السمنة فيما بعد الحرب العالمية الثانية، يمكننا أن نلاحظ بوضوح أن ثمة خطأ ما قد حدث في الثمانينات. ففي الولايات المتحدة، كانت نسبة المصابين بالسمنة حوالي 12% عام 1950م، أما في العام 1980م فقد كانت نسبة المصابين بالسمنة حوالي 15% من المواطنين الأمريكيين ثم تضاعف الرقم خلال العشرين عامًا التالية ليصبح 35% بحلول عام 2000م. في بريطانيا أيضًا يمكننا أن نلاحظ أن معدل السمنة كان شبه ثابت لعدة عقود حتى منتصف الثمانينات حين تحول للازدياد المطرد بشكل مفزع. ففي عام 1980م كان 6% فقط من البريطانيين يعانون من السمنة، ثم تضاعف ذلك الرقم ثلاث مرات خلال العشرين عامًا التي تلته، وحاليًا فإن ثلثي البريطانيين يعانون من السمنة أو زيادة الوزن، مما يجعل بريطانيا الدولة الأكثر إصابة بالسمنة في الاتحاد الأوروبي. ومع ازدياد معدلات الإصابة بالسمنة، فقد ازدادت معدلات الإصابة بمرض السكر من النوع الثاني في كلا البلدين، حيث يرتبط المرض ارتباطًا وثيقًا بالسمنة.

مما سبق يمكننا أن نستنتج أن الإرشادات الغذائية الرسمية لم تفشل فقط في تحقيق أهدافها، بل يمكننا القول أنها تسببت -بدرجة ما- في كارثة صحية استمرت لعقود. وكنتيجة لذلك كان لابد من البحث عن المتسببين الحقيقيين في حدوث تلك الكارثة. ويمكننا ملاحظة الكتابات المنتشرة من علماء التغذية التي تهاجم الشركات المنتجة للسكر وسلاسل الأطعمة سريعة التحضير وغيرها في محاولة لإلقاء اللوم على أحد الجهات، ويروّج العلماء أنه لم يكن من الممكن لأحد أن يتوقع أن يقوم مصنعو المواد الغذائية بزيادة محتوى السكر في المواد الغذائية قليلة الدهون التي ينتجونها كرد فعل على التوجيهات والإرشادات التي تدعو للإقلال من تناول الدهون وفي محاولة منهم لجعل تلك المواد الغذائية مستساغة ومقبولة الطعم.

يقوم علماء التغذية بتوجيه اللوم للجميع، فهم يلومون الصحافة التي تقوم بتشويه النتائج التي يتوصلون إليها، والسياسيين الذين لا يتبنون تلك الآراء، والمواطنين العاديين لأنهم يأكلون أكثر من اللازم ولا يمارسون الرياضة بالشكل المطلوب. باختصار، الجميع مخطئون من وجهة نظرهم، باستثناء علماء التغذية بالطبع!.


أين أخطأ العلماء بالضبط؟


في عام 2009م قام البروفيسور روبرت لستيج المتخصص في علاج السمنة لدى الأطفال بإلقاء محاضرة مدتها تسعون دقيقة بعنوان «السكر: الحقيقة المرّة» (والتي تمت مشاهدتها على موقع يوتيوب أكثر من ستة ملايين مرة)، يقوم فيها بمناقشة أن الفركتوز (وهو أحد أنواع السكر المنتشرة في الوجبات الغذائية الحديثة) هو المسئول الرئيسي عن انتشار السمنة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو نفس المنطق الذي كان يدعمه أحد كبار علماء التغذية الإنجليز الدكتور جون يودكين الذي دق ناقوس الخطر بخصوص السكر عام 1972م في كتابه المسمى «Pure, White, and Deadly». وعلى الرغم من أن الكتاب قد حقق نجاحًا مقبولًا، لكن يودكين دفع ثمنًا كبيرًا حيث تحالف بعض علماء التغذية البارزين (المعارضين لرؤيته التي يطرحها في الكتاب) مع كبار مصنعي المواد الغذائية لتدمير سمعته، وفي النهاية توفي جون يودكين في عام 1995م محبَطًا ومهمَلًا بدرجة كبيرة، فقد كانت الدهون المشبعة هي العدو الغذائي الأساسي خلال العقود الثلاثة السابقة. ففي منتصف الستينات من القرن الماضي وبينما كان يودكين يقوم بتجاربه على تأثيرات السكر على الجسم البشري، كانت هناك مدرسة جديدة في علم التغذية تقوم بفرض سطوتها، وكانت ركيزتها الأساسية هي أن أي نظام غذائي صحي لابد وأن يكون قليل الدهون، وكان يودكين يتقدم مجموعة صغيرة من العلماء الذين يعتقدون بأن السكر -وليس الدهون- على الأرجح هو سبب أمراض كالسمنة وارتفاع ضغط الدم.



مع مرور الوقت تتراكم الإشارات التي تفيد بأن النصائح الغذائية التي كنا نتبعها خلال العقود الثلاثة السابقة معيبة بشكل جوهري.

قد يكون من السهل افتراض أن يودكين قد خسر ذلك الجدال العلمي؛ لأنه في ذلك الوقت كانت الأدلة المتاحة عن أضرار الدهون أكبر من الأدلة المتاحة عن أضرار السكر، وهو ما يفترض أن يكون الطريقة العلمية الصحيحة. إلا أن هناك الكثير من الإشارات التي تلمح لوجود ما هو أكبر من العلم المجرد في هذا الموضوع. مع مرور الوقت تتراكم الإشارات التي تفيد بأن النصائح الغذائية التي كنا نتبعها خلال العقود الثلاثة السابقة معيبة بشكل جوهري، ولا يمكننا حقيقة أن نلقي بتبعة هذا الخطأ على الشركات الرأسمالية التي تحاول توجيه الأبحاث العلمية لخدمة أرباحها، كما لا يمكننا ادعاء أنه خطأ علمي غير ضار، حيث أن ما تعرض له يودكين من سخرية وتهميش يكذّب ذلك الادعاء.(1)


كيف أصبحت الدهون المشبعة هي العدو؟


http://gty.im/159858895

لم يكن تهاوي نظرية يودكين وسيادة نظرية الدهون المشبعة مرتبطًا بالعلم بشكل مباشر، هذا ما كشفته الصحفية «

نينا تيكولز»

في كتابها المعنون «The Big Fat Surprise»، حيث تتبعت نينا أصول النظرية التي تقول بأن الدهون المشبعة تسبب أمراض القلب، وتكشف عن مدى تدخل العوامل الشخصية المرتبطة بشخصيات من يتبنون تلك النظرية في تحولها من نظرية إلى حقيقة مقبولة على حساب المنهج العلمي السليم، وكذلك يصف الكتاب كيف أدى عدم ثقة مجموعة من علماء التغذية في سلطتهم الطبية، وخوفهم من الانتقاد إلى تركيزهم على نظريتهم الخاصة بالدهون مهاجمين كل من يقومون بتقديم أدلة علمية تشير إلى ما هو مختلف عنها. وبينما يكافح علماء التغذية حاليًا في محاولة لفهم الكارثة الصحية التي تسببت بها نصائحهم ولم يكونوا يتوقعونها، فإن مجال التغذية يمر بمرحلة صعبة من إعادة التقييم، حيث يبتعد عن التحذيرات المعتادة بالابتعاد عن الدهون وتجنبها، ويركز بدرجة أكبر على التنبيه والتوعية بأضرار السكر.



بدأ السكر يحتل مكانته المستحقة كالعدو الغذائي الأول للصحة.

على العكس من الظروف التي أحاطت بيودكين وأدت إلى قتل بحثه تمامًا، فإن روبرت لستيج (بصفته أحد أكبر المهتمين بأضرار السكر) يتحرك في ظروف أفضل بمراحل، حيث يمكننا أن نلاحظ عدد الأبحاث المنشورة التي تبحث في الآثار الضارة للسكر على أجسادنا. ولأول مرة، فإن النسخة الأخيرة من الإرشادات الغذائية في الولايات المتحدة تحتوي على توصية بحد أقصى للطاقة التي يحصل عليها الإنسان عن طريق السكر، وفي المملكة المتحدة تم إعلان ضريبة جديدة على المشروبات السكرية، حيث بدأ السكر يحتل مكانته المستحقة كالعدو الغذائي الأول للصحة.


(1)لمزيد من المعلومات عن جون يودكين يمكنكم قراءة

هذا المقال

.


المراجع




  1. 1980 Dietary Guidelines

  2. Dietary Guidelines for Americans 2015-2020

  3. Fat guidelines lacked solid scientific evidence, study concludes

  4. Butter is bad – a myth we’ve been fed by the ‘healthy eating’ industry