في منتصف نهار أحد أيام شهر أبريل/نيسان من العام 1995، دخل رجل في منتصف العمر إلى أحد بنوك مدينة بيتسبيرج بولاية بنسلفانيا ليسرقه. وبعد أن نجح في السرقة الأولى، غادر إلى بنك آخر قريب ثم سرقه، الغريب في الأمر أنه

لم يُكلِّف نفسه ارتداء أي أقنعة

ليُخفي هويته، والأغرب أنه ابتسم لكاميرات المراقبة وهو يحمل النقود في طريقه للهرب.

في وقت لاحق من تلك الليلة، ألقت الشرطة القبض على «مكارثر ويلر»، وبدلًا من الابتسام كانت تغمره المفاجأة؛ عندما عرض عليه ضباط الشرطة صور المراقبة من كاميرات البنك، حدَّق بها «ويلر» في عدم تصديق، متمتمًا: «ولكنني ارتديت العصير!».

على ما يبدو، اعتقد «ويلر» أن وضع عصير الليمون على جلده سيخفيه عن الكاميرات، لماذا اعتقد هذا؟ لأنه كان يعرف أن عصير الليمون يُستخدم في الحبر السرِّي، وطالما أنه لم يقترب من مصدر حرارة، فمن المفترض أن يكون غير مرئي تمامًا، مثل الكلمات عندما تختفي.

استنتجت الشرطة أن «ويلر» لم يكن مجنونًا أو يتعاطى المخدرات، ولكنه مجرد أحمق آخر، اعتقد أن بإمكانه سرقة بنكين، بدون أن يرتدي حتى قناع «سلفادور دالي»، وبدون خطة محكمة يضعها «البروفيسور».

هنا يتدخل علم النفس


استرعت هذه القصة الغريبة انتباه أستاذ علم النفس «ديفيد دانينج»، من جامعة كورنيل آنذاك، والذي طلب من تلميذه «جاستين كروجر» معرفة ما يجري. واستنتجوا أنه في حين نحمل جميعًا وجهة نظر إيجابية حول قدراتنا في مختلف المجالات الاجتماعية والفكرية، إلا أن بعض الناس يُقيِّمون قدراتهم بشكل خاطئ على أنها أعلى بكثير مما هي عليه في الواقع. وهذا ما يُسمى «وهم الثقة»، والذي يُعرف الآن باسم «تأثير دانينج-كروجر»، وهو يصف التحيُّز المعرفي لتضخيم تقييمنا لأنفسنا.

في عام 1999،

نشروا ورقتهم البحثية

، في دورية الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، لتفسير تلك الظاهرة الغريبة، حيث اقترح الاثنان أنه في العديد من المجالات الفكرية والاجتماعية، الأشخاص الأقل أداءً يقيِّمون مهاراتهم وأداءهم بصورة أقل واقعية، بل يبالغون في مدى جودة هذا الأداء بالمقارنة مع أقرانهم.

في واحدة من الدراسات، سألوا الطلاب الجامعيين مجموعة من الأسئلة حول قواعد اللغة والمنطق والنكات، ثم سألوا كل طالب أن يُقيِّم درجته الكلية في هذا الاختبار، وأن يصنِّف أيضًا هذه الدرجة مقارنة بالطلاب الآخرين. من المثير للاهتمام، أن الطلاب الذين أحرزوا أقل مستوى في هذه المهام المعرفية، بالغوا دائمًا في مدى جودة أدائهم، بل ذكروا أنهم أجابوا أفضل من ثلثي الطلاب المشاركين في الاختبار!

وهم التفوق في كل شيء


وهم التفوق يمتد إلى أبعد من الفصول الدراسية ويتخلل الحياة اليومية أيضًا؛ في

دراسة لاحقة

، ذهب «دانينج» و«كروجر» إلى ميدان رماية بالأسلحة النارية، حيث سألوا مجموعة من الهواة حول وسائل أمان الأسلحة. وعلى غرار النتائج التي توصلوا إليها سابقًا، أولئك الذين أجابوا على أسئلة أقل بشكل صحيح بالغوا جدًّا بمدى معرفتهم عن الأسلحة النارية.

خارج المعرفة بالحقائق، يمكن ملاحظة «تأثير دانينج-كروجر» أيضًا في التقييم الذاتي لمعظم قدراتنا الشخصية الأخرى. إذا كنت تشاهد أي برامج للمواهب اليوم، فسترى الصدمة على وجوه المتسابقين ممَّن فشلوا في الاختبارات ورفضهم حكام المسابقة. بالنسبة لك سترى الأمر بشكل هزلي تقريبًا، أما بالنسبة لهم، لا يدركون حقًّا مقدار التضليل الواقع عليهم بسبب شعورهم بتفوقهم الوهمي.

بالتأكيد، يبالغ الناس في قدراتهم ومعرفتهم، أحد العوامل التي تُسهم في هذه الظاهرة، هي أن القليل من المعرفة حول موضوع ما يمكنه أن يقود الناس إلى الاعتقاد الخاطئ بأنهم يعرفون كل ما يمكن معرفته عن ذلك الموضوع، وبأنهم وصلوا إلى مرحلة الخبرة. وهو ما نراه كثيرًا، على سبيل المثال، في قيادة السيارات، حيث وجدت

إحدى الدراسات

أن 80 في المائة من السائقين يقيِّمون أنفسهم فوق المتوسط، وهو بالطبع أمر مستحيل إحصائيًّا. دائمًا ما تتردد هذه الجملة: «أنا قائد ممتاز، وأفضل من الآخرين، لن أتعرض للحوادث أبدًا». لكن لحظة من فضلك، من أين تأتي كل هذه الحوادث إذًا؟ ربما لأنك لست قائدًا ممتازًا، وتبالغ في تقييم قدراتك ومهاراتك في القيادة!

المشكلة الحقيقية هنا، أنه عندما يفتقد الشخص
للكفاءة ويستحوذ عليه وهم التفوق، لا يصل إلى استنتاجات خاطئة ويتخذ قرارات مؤسفة
فحسب، لكن تُسلب منه القدرة على إدراك أخطائه أيضًا، فيقع فيها مجددًا، غير مدرك
أنها أخطاء من الأساس!

فبدلًا من أن تصيبه الحيرة أو يبذل مزيدًا من التفكير حول طرقه الخاطئة، يُصر أنه على صواب، بل يتحدث معك بكل ثقة. ولعل أكثر ما يعبر عن هذا هو ما كتبه «تشارلز داروين»:

الجهل غالبًا ما يولِّد الثقة، أكثر بكثير ممَّا تفعل المعرفة.

قد يحدث العكس أيضًا

الأمر المثير للاهتمام، والذي ظهر في

الدراسة الأولى

، أن الأذكياء فعلًا يفشلون أيضًا في تقييم قدراتهم الحقيقية. حيث وجد «دانينج» و«كروجر» أن الطلاب الذين حققوا درجات مرتفعة في الاختبار، لم يتمكنوا من تقييم كفاءتهم بل قلَّلوا منها كذلك. افترض هؤلاء الطلاب أنه إذا كانت هذه المهام الإدراكية سهلة بالنسبة لهم، فمن ثمَّ يجب أن تكون بنفس السهولة بالنسبة للجميع.

يُعرف هذا

باسم «متلازمة المُحتال»

، ويمكن تعريفها أنها عكس «تأثير دانينج-كروجر»، حيث يفشل المتفوقون في التعرف على مواهبهم، ويعتقدون أن الآخرين يمتلكون نفس الكفاءة. وربما اعتقدوا بعدم استحقاقهم لنجاحاتهم وإنجازاتهم، مع أنها تمت بمجهوداتهم وقدراتهم بالفعل، وقد يتوهمون أن هذا النجاح مجرد ضربة حظ أو أنهم قد احتالوا على الآخرين للوصول لذلك الإنجاز.

الفارق الجوهري هنا هو أن الأكفاء يمكنهم ضبط تقييمهم الذاتي بناءً على ملاحظات وتعليقات مناسبة من الآخرين حول مستواهم الحقيقي، في حين أن غير الأكفاء لا يستطيعون فعل ذلك، بل يرفضون هذه الملاحظات والتعليقات على مستواهم من الأساس. وكما

قال الفيلسوف الإنجليزي

«برتراند راسل»:

مشكلة العالم الآن أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائمًا، أما من يملكون المُخيلة والفهم فيملؤهم الشك والتردد.

كيف تتغلب على «تأثير
دانينج-كروجر»؟


إذًا هل هناك أي شيء يمكنه أن يقلل من هذه الظاهرة؟ هل هناك نقطة يعترف عندها غير الأكفاء بحماقة ما يفعلون؟ أو هل يتوقف الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» عن الكلام فيما لا يعرفه بكل هذه الثقة؟

بينما نحن جميعًا مُعرَّضون لأن نُعاني من تأثير «دانينج-كروجر»، إلا أن تعلم المزيد عن كيفية عمل عقولنا، وعن الأخطاء التي قد نقع بها، قد تكون خطوة مفيدة نحو تصحيح مثل هذه الأنماط. اقترح دانينج وكروجر بأنه كلما زادت خبرتنا حول موضوع ما، تنخفض الثقة ​​عادةً إلى مستويات أكثر واقعية.

أي أنه كلما تعلمت وعرفت أكثر حول ذلك الموضوع، فستبدأ في إدراك مدى افتقارك للمعرفة والقدرة الحقيقية، وأنك ما زلت في البدايات، ولن تتحدث بتلك الثقة المفرطة مثلما كنت تفعل عندما بدأت في دراسة هذا الموضوع. ثم بعد أن تكتسب المزيد من المعلومات وتصبح لديك خبرة كافية بالموضوع، ستبدأ مستويات الثقة في التحسن والارتفاع مرة أخرى.

حسنًا، السؤال الآن هو:

ما الذي يمكنك فعله

لتحصل على تقييم ذاتي أكثر واقعية لقدراتك الخاصة في موضوع معين، إذا كنت غير واثق من تقييمك الذاتي الحالي؟

1. استمر في التعلُّم والممارسة

بدلًا من افتراض أنك تعرف كل ما يمكن معرفته عن الموضوع، استمر في الغوص لمستويات أعمق. وبمجرد اكتسابك لمزيد من المعرفة، ستدرك على الأرجح أن هناك الكثير مما يمكنك تعلُّمه. وهو ما يمكن أن يقاوم الميل إلى افتراض أنك أصبحت خبيرًا، حتى لو لم تصل إلى هذه المرحلة بعد.

2. اطلب آراء وتقييمات الآخرين

وهي استراتيجية أخرى فعَّالة، أن تسأل الآخرين ممن تثق في آرائهم عن تقييمهم ونقدهم البنَّاء حول أدائك. في حين أنه غالبًا يصعب علينا أحيانًا سماع النقد، إلا أن تلك الآراء والتقييمات ستوفر لك معلومات قيِّمة ومهمة للغاية حول مستواك وقدراتك الحقيقية.

3. تشكك دائمًا فيما تعرفه

حتى وأنت تتعلم أكثر وتحصل على ردود فعل الآخرين، فإنه من السهل أن تولي اهتمامك فقط للآراء التي تؤكد ما كنت تعرفه بالفعل. وهو مثال على نوع آخر من التحيُّز النفسي والمعروف باسم «الانحياز التأكيدي». لذا، من أجل تقليل هذا الانحياز، استمر في تحدي معلوماتك وتوقعاتك الخاصة، ابحث عن المعلومات والآراء التي تتحدى أفكارك الخاصة دائمًا.

«تأثير دانينج-كروجر» هو واحد من بين الكثير من التحيُّزات المعرفية التي بإمكانها التأثير على سلوكياتك وقراراتك، من أبسط الأمور إلى أعقدها. وفي حين أنه من السهل عليك التعرف على هذه الظاهرة لدى الآخرين، من المهم أن تتذكر أنها قد تؤثر على الجميع. الخدعة هنا هي ألا تنخدع بأوهام التفوق، وأن تتعلم كيفية إعادة تقييم كفاءتك وقدراتك باستمرار.

وفي المرة القادمة، إذا كنت تريد سرقة بنك أو حتى مطبعة النقود، فارتدِ قناع «سلفادور دالي»، وتواصل مع «البروفيسور» ليضع لك خطةً مُحكمةً كما فعل في «La Casa de Papel».