في مقدمته للحوار في مجال الفكر الديني يذكّرنا أحمد جلالي بمناهج التعليم في المدرسة الابتدائية التي تعلّم فيها، فقد كان كتاب الأدب الفارسي يضمّ قصّة من قصص المثنوي، تتحدث عن راعي غنم مجهول ونبي من أنبياء الله هو موسى عليه السلام. قرأ القصة كما يروي لنا وهو ابن تسعة أعوام كما قرأها غيره من تلاميذ المدرسة، وتعلّم فهم الدين من خلالها، ففي كلّ محاورة علينا أن نتدبر أحد أشعة الحقيقة لعرضها على الآخرين، وكذلك نتعلم إسهام ذلك الآخر في الحقيقة وإلاّ أصبح الحوار بين البشر بلا فائدة.

تذكر القصّة أن موسى شاهد راعيًا في الطريق وهو يتضرع إلى الله قائلاً: «إلهي؛ يا من تصطفي من تشاء.. أين أنت حتى أصبح خادماً لك فأصلح نعليك وأمشط رأسك ! وأغسل ثيابك وأقتل ما بها من القمل وأحمل الحليب إليك، أيها العظيم!وأقبّل يدك اللطيفة وأمسح قدمك الرقيق ، وأنظّف مخدعك حين يجيء وقت المنام. يا من فداؤك كل أغنامي! ويا من لذكرك حنيني وهيامي!».

لقد قدّم الراعي من كل قلبه أفضل ما يمتلكه، إن الماعز كلّ مقتنياته، وكلماته البسيطة ناقلة لمشاعره النقية والقوية، إن كثيرًا من كلماته قد تبدو حمقاء، يخالف بها كل الأنماط العقائدية المسموح بها عند مخاطبة (الله) حيث نحّى جانبًا كل صفات القداسة الإلهية المفروضة دينيًا، ولم يراع كل الترتيبات الكهنوتية المستقرة حول صورة الله العظيم. علّق النبي على الراعي باعتباره حاميًا كبيرًا للشريعة ومفوّضًا لتفسير الدين ومدافعًا عن الإيمان: «يا أيها الرجل، من تخاطب بهذه الكلمات الحمقاء؟» أجاب الراعي: مع ذلك الشخص الذي خلقنا. مع من ظهرت بقدرته هذه الأرض وتلك السموات!

فقال له موسى:

«حذار، إنك قد أوغلت في إدبارك، وما غدوت بقولك هذا مسلماً بل صرت من الكافرين. ما هذا العبث وما هذا الكفر والهذيان؟ ألا فلتحشُ فمك بقطعة من القطن. إن نتن كفرك قد جعل العالم كلّه منتناً! بل أن كفرك قد مزّق ديباجة الدين! إن النعل والجورب يليقان بك. ولكن متى كان مثل هذين يليقان بالشمس؟

فإن لم تغلق حلقك عن مثل هذا الكلام، فإن ناراً سوف تندلع وتلتهم الخلق! وإن لم تكن النار قد اندلعت فما هذا الدخان؟ ولماذا أصبحت نفسك مسودة وروحك مردوداً؟

وإن كنت تعلم أن الله هو الحاكم ، فكيف اعتقدت بمثل هذا السفه والوقاحة؟ إن صداقة الحمق هي عين العداوة. وما أغنى الحق تعالى عن مثل هذه العبادة! فمع من تتحدث؟ أمع العم أم الخال؟ وهل الجسم والحاجة من صفات ذي الجلال؟ إن الحليب يشربه من يكون قابلاً للنشأة والنماء. والنعل يلبسه من هو بحاجة إلى القدم. وحتى لو كان من القيل والقال موجّها لعبد الله الذي قال عنه الحق: «إنه ذاتي وأنا ذاته» هذا العبد الذي هو مغزى حديث الحق: «مرضت فلم تعدني . لقد غدوت مريضاً، وليس عبدي وحده هو الذي مرض».

وطبقًا لرواية مولانا للقصة فقداستمر النبي موسى في نقده القاسي وإدانته للراعي، شارحًا له وموضّحًا له ما ارتكبه من خطايا، بأسلوب ديني بدا معقّدًا بالنسبة لهذا الراعي البسيط، فمزّق الراعي ثوبه، وتأوه ، ثم انطلق مسرعاً إلى الصحراء ، ومضى قائلاً بإحساس الصدمة وبتعبير من البساطة والبراءة: «لقد أغلقت فمي أيها الرجل، كما أحرقت روحي في سعيها إلى التوبة».

وتستمر القصة ليحكي لنا مولانا جلال الدين الرومي أنه بعد هذه المحادثة ظهر التجلي الإلهي للنبي، وجاءته هذه الكلمات:

«لقد أبعدت عني واحداً من عبادي! فهل أتيت لعقد أواصر الوصل، أم أنك جئت لإيقاع الفراق؟ فما استطعت لا تخط خطوة نحو إيقاع الفراق، فأبغض الحلال عندي هو الطلاق! لقد وضعتُ لكل إنسان سيرة، ووهبت كل رجل مصطلحاً للتعبير، يكون في اعتباره مدحاً على حين أنه في اعتبارك ذم. ويكون في مذاقه شهداً وهو في مذاقك سمّ! إنني منزّه عن كلّ طهر وتلوث، وعن كلّ روح ثقلت في عبادتي أو خفّت. والتكليف من جانبي لم يكن لربح أنشده. لكن ذلك كان لكي أنعم على عبادي. فأهل الهند لهم أسلوبهم في المديح. ولأهل السند كذلك أسلوبهم.

ولست أغدو طاهراً بتسبيحهم، بل هم المتطهرون بذلك، الناثرون الدرَّ. ولسنا ننظر إلى اللسان والقال، بل نحن ننظر إلى الباطن والحال.

فنظرنا إنما هو لخشوع القلب، حتى لو جاء اللسان مجرداً من الخشوع.

فالقلب يكون هو الجوهر، أما الكلامُ فعَرضٌ. والعرضُ يأتي كالطفيلي أما الجوهر فهو المقصد والغرض.

فإلى متى هذه الألفاظ وذلك الإضمار والمجاز؟ إني أطلب لهيب الحب، فاحترق، وتقرّب بهذا الاحتراق! أشعل في روحك نارا من العشق ، ثم احرق بها كل فكر وكل عبارة!

يا موسى! إن العارفين بالآداب نوع من الناس، والذين تحترق نفوسهم وأرواحهم نوع آخر. إن للعشاق احتراقا في كل لحظة! وليس يفرض العشر والخراج على قرية خربة!

فلو أنه أخطأ في القول فلا تسمّه خاطئاً. وإن كان مجللاً بالدماء، فلا تغسل الشهداء.

فالدم أولى بالشهداء من الماء! وخطأ المحب خير من مائة صواب!

فليس في داخل الكعبة رسم للقبلة.

وأي ضرر يحيق بالغواص إن لم يلبس النعل الواقي من الغوص في الثلوج؟

فلا تلتمس الهداية عند السكارى. وكيف تطلب من تهلهلت ثيابهم رفو تلك الثياب؟

إن ملّة العشق قد انفصلت عن كافة الأديان. فمذهب العشاق وملتهم هو الله .

ولو لم يكن للياقوتة خاتمٌ فلا ضير في ذلك. والعشق في خضم الأسى ليس مثيراً للأسى! ولقد ألقى الله – بعد ذلك – أسراراً في أعماق قلب موسى، ليست مما يباح به.

لقد تدفقت الكلمات إلى قلب موسى، وامتزج الشهود بالكلام.

فكم ذهل عن ذاته وكم عاد إلى الوعي! وكم طار محلقاً من الأزل إلى الأبد!».

وطبقًا لما يذكره مولانا جلال الدين فإنه بعد هذا الحديث يضع الله في صميم قلب النبي موسى خوارق لا تُعبّر عنها الكلمات، وقد صبت الكلمات في قلبه، أما البصر والكلام، فقد اختلطا سوية، ويستمر الرومي قائلاً:

«فلو أنني شرحت أكثر من هذا لكان من البلاهة. ذلك لأن شرح هذا يتجاوز علمنا.

ولو أنني ذكرته لاقتلعت العقول! ولو أنني كتبته لانشق كثير من الأقلام!».

وتخبرنا القصة أنه عندما «سمع موسى هذا العتاب من الحق، هرع وراء الراعي موغلاً في البيداء. وانطلق مقتفياً آثار قدمي ذلك الحيران. فكان ينثر الغبار من أذيال الصحراء. وإن خطوة قدم الإنسان الموله لهي متميزة عن خطى الآخرين. فتارة يمضي مستقيماً كالرخ من القمة نحو القرار. وتارة يمضي بخطى متقاطعة مثل الفيل. وتارة يمضي كالموج متطاولاً رافعاً علمه، وتارة يمضي زاحفاً فوق بطنه كالسمكة. وتارة يخط وصف حاله فوق التراب ، كالرمّال الذي يضرب الرمال».

وفي النهاية أدرك موسى الراعي ورآه، وقال البشير للراعي:

«إن الإذن قد جاء! فلا تلتمس آداباً ولا ترتيباً، وانطق بكل ما يبتغيه قلبك الشجيّ!

إن كفرك دينٌ، ودينك نور للروح! وإنك لآمنٌ، والعالم بك في أمان!

أيها المعافى! إن الله يفعل ما يشاء. فاذهب، وأطلق لسانك بدون محاباة.

فقال الراعي: يا موسى. إني قد تجاوزت ذلك. إنني الآن مجلل بدماء قلبي!

لقد تجاوزت سدرة المنتهى. وخطوت مائة ألف عام في ذلك الجانب!

إنك قد أعملت سوطك، فدار حصاني، فبلغ قبة السماء، ثم تجاوز الآفاق!

فعسى الله أن يجعل جوهرنا الإنساني نجي سر لاهوته. وليبارك الله لك يدك وساعدك! فالآن قد تجاوز حالي نطاق القول. فهذا الذي أقوله ليس حقيقة حالي».

وعلى الرغم من وجود أنظمة التعليم المتقدمة حاليًا، وكذلك القفزات الهائلة في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات في جميع أرجاء العالم، فما زال الملايين من البشر محاصرين في غياهب الريبة والظنون والكراهية المتبادلة. ويفشلون في تقدير مدى فاعلية ثقافة الحوار في تحقيق التفاهم، وتقدير روعة التنوّع الخلاّق، إننا نعيش ونرى مدى الدمار الناتج عن هذا الفشل.

يمثّل أحمد جلالي تيارًا منفتحًا على الآخرين، فربما كان عمله في المجال الدبلوماسي مؤثرًا في رؤيته، فقد حصل على الدكتوراه في الفلسفة السياسية من أكسفورد، وكما قام بالتدريس في طهران درّس في مانشستر وأكسفورد وأماكن أخرى، ومثّل إيران في المجلس التنفيذي لليونسكو ونشر كتبًا كثيرة في مجال الرياضيات، ولعل فهمه للقصص المولوي قريب من فهم عبد الكريم سروش الذي بنى كثيرًا من أطروحاته الفكرية حول التعددية الدينية والصراطات المستقيمة على أفكار مولانا جلال الدين الرومي.

لكن نفرًا غير قليل من المحافظين في إيران يرفضون هذا الفهم، ويعتبرونه تحريفًا لأفكار الرومي فإذا رأى سروش أن المعرفة الدينية ـ كأي معرفةٍ بشريةٍ ـ ليس فيها ثمة قول حجّة تعبداً لشخص ما على شخصٍ آخر، كما أنه ليس هناك فهم مقدّس ومتعالٍ عن المُساءلة. يُدان فهمه فكيف يقول سروش أن كل فهم يعد فهماً رسمياً معترفاً به، وهو من هنا قادرٌ على الإيصال إلى النجاة البشرية؟ أو أن التعددية تعني الاعتراف بأي دين وتمثل اعتقاداً بأن كافة الأديان بإمكانها تأمين سعادة البشر؟! فلا رابطة منطقية عند هذا الاتجاه المحافظ بين التعددية والاعتراف بكافّة الأفهام.

ويتردد المحافظون في اعتماد ما يقوله الرومي من آراء أو يبثه من أفكار في قصصه، ويتم تفسير كلامه بصورة مذهبية، لحفظ الدين، تمامًا كما فعل النبي موسى مع الراعي في القصة، وبعد شرح وتفنيد كثير من الآراء التي تعتمد على الرومي، يوصف الرومي بكونه عرفانيًا أو شاعرًا لا يمكن التعويل أو الاستناد على أشعاره وحدها، فباطن اشعار مولوي لابد من التفتيش عنه في هذا الموضوع بالذات، لقد ارتبط مولوي بالمنهج العرفاني كما تابع وتتبّع المباني العرفانية في أشعاره، وقد تأثر مولوي جيداً بآثار الغزالي ومن ثم لفّق بين المباني العرفانية ونتائج فكر الغزالي، وهذه الفكرة التي يطرحها رضا قائمي ويتشبث بها من أجل الخروج من فكرة التعددية الدينية، وإثبات أن «الدين عند الله الإسلام» تخالف ما أراد جلالي لفت أنظارنا إليه من دروس مولانا جلال الدين الرومي.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.