في مستهل القرن العشرين صدرت في القاهرة الطبعة الأولى من كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» للمفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي والذي شخّص فيه داء الاستبداد السياسي وآثاره في جميع جوانب الحياة.

ورغم مرور أكثر من مائة وعشرة أعوام على صدوره إلا أن قارئ هذا الكتاب يشعر أنه يعالج الحالة العربية الراهنة، وهو ما يدلل على أن الواقع السياسي والاجتماعي في الوطن العربي لم يتزحزح كثيرًا خلال هذا الزمن الطويل، كما أنه يشير من زاوية أخرى إلى أن الأفكار القيمة التي احتواها الكتاب بقيت حبيسة الرفوف يعلوها الغبار ولم تقع في تربة خصبة تحتضن بذورها وتنميها وتقطف ثمارها.


أصل الاستبداد

ينطلق المفكر عبد الرحمن الكواكبي في كتابه من أن أصل الداء في بلاد المسلمين هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، وأن كل الأسباب التي يتوهم الباحثون بأنها أصل الداء هي فرع لأصل ونتيجة لا وسيلة.

ويرى الكواكبي أن الاستبداد هو الأصل ما لم تكن الحكومة تحت الرقابة الشديدة الذي لا تسامح فيه، ويذكر أن من الأمور المقررة طبيعةً وتاريخًا أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة، والجنود المنظمة. ويصف الكواكبي المستبد بأنه إنسان مستعد بالطبع للشر و بالإلجاء للخير، «فعلى الرعية أن تلجئ حاكمها للخير رغم طبعه».


المسئولية الاجتماعية عن ولادة المستبد

ينفذ الكواكبي عميقًا إلى البنية الاجتماعية التي ينشأ عنها الاستبداد، فالاستبداد وفق تحليله ليس مجرد مرض يتعلق بالسلطة، بل إن ثقافة الشعب تتحمل المسئولية عن ولادة المستبد. يقول الكواكبي:

إن الله عادل لا يظلم أحدًا ولا يولي المستبد إلا على المستبدين، وإن كل فرد من من أسراء الاستبداد مستبد في نفسه لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته والبشر كلهم وحتى ربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره، فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار.


الاستبداد والعلم

يخلص الكواكبي إلى أن المستبد يخشى العلم لأن الاستعباد لا يكون إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامه جهل وتيه عمياء، لكن الكواكبي بتناوله العميق يفرق بين علوم يتلهى بها الناس فلا يخشاها المستبد وعلوم تعرفهم بحقوقهم فيرتعد منها المستبد. المستبد لا يخاف من العلوم الدينية الغيبية التي يغتر بها أصحابها فلا يرون علمًا غير علمهم، بل إن المستبد يستخدمهم في تأييد أمره في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم ويسد أفواههم بلقيمات من مائدة الاستبداد، وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية لأن أهلها يكونون صغار النفوس صغار الهمم يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز.

أما العلوم التي ترتعد منها فرائص المستبد برأي الكواكبي فهي الحكمة، والفلسفة، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان حقوقه وكيف يطلبها وكيف يحفظها.

وكما يبغض المستبد العلم لنتائجه يبغضه أيضًا لذاته؛ لأن المستبد يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علمًا. يستنتج الكواكبي مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حربًا دائمة، فالعلماء يسعون إلى تنوير العقول ويجتهد المستبدون في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا، وإذا علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا.


علاقة المستبد بالعوام

يرى الكواكبي أن العلاقة بين المستبد وشعبه قائمة على الخوف، وأن خوف المستبد من نقمة رعيته أكبر من خوفهم من بأسه؛ لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه وخوفهم عن وهم التخاذل فقط. و ينقل الكواكبي قول أحد المحققين: «إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه»، وينقل من قواعد المؤرخين المدققين أنك إذا أردت الموازنة بين مستبدين كتيمور ونيرون مثلاً فيكفي أن توازن درجة ما كانا عليه من الحذر والتحفظ، وإذا أردت المفاضلة بين عادلين كأنوشروان وعمر الفاروق فالموازنة بين مرتبتي أمنهما.

ومن مؤشرات قياس الاستبداد التي يوردها الكواكبي فخامة القصور، وعظمة الحفلات، ومراسيم التشريفات، وعلائم الأبهة، ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضًا عن العقل، ومؤشر آخر يدل على عراقة الأمة في الحرية أو الاستعباد باستنطاق لغتها هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلاً، أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية؟.


الاستبداد يفسد الأخلاق

يرى عبد الرحمن الكواكبي أن الاستبداد يفسد أخلاق الشعوب؛ فهو يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ويعين الأشرار على إجراء غيّ نفوسهم آمنين من كل تبعة، والاستبداد ينشر في الناس الخوف لذلك تشيع قواعد باطلة مثل قولهم: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب». الأخلاق لا تكون أخلاقًا وفق الكواكبي ما لم تكن ملكةً مطردةً على قانون فطري.

ويرد الكواكبي في هذا السياق على شبهة أن للاستبداد حسناته في تلطيف الطباع، مثل أنه يعلم الصغير حسن الطاعة للكبير، فيبطل هذه الشبهة بالقول إنها طاعة عن خوف وجبن لا عن اختيار، ويبطل شبهة أن الاستبداد يقلل الفسق والفجور بالقول إنه امتناع عن فقر وعجز لا عن عفة ودين، و يبطل القول إنه يقلل الجرائم والحق أنه يمنع ظهورها ويخفيها فيقل تعديدها لا عدادها.


مقاومة الاستبداد

لا يكتفي الكواكبي بوصف داء الاستبداد وأضراره في كافة جوانب الحياة، إنما يتجاوز ذلك للحديث عن سبيل مقاومته، وفي هذا الصدد يخلص الكتاب إلى أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم بالحكمة والتدريج، حيث إن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس، ويفسر الكواكبي رأيه أن الاستبداد لا يقاوم بالعنف كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدًا، وأن الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجةً تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًا، لكن دور العقلاء إذا حدث ذلك هو أن يتباعدوا عن الفتنة ابتداءً حتى إذا سكنت ثروتها نوعًا، حينئذ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة.

يؤكد الكواكبي أنه يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد، وأنه من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد، وأن هذا الاستعداد الفكري النظري لا يجب أن يكون مقصورًا على الخواص بل لا بد من تعميمه ليكون معضودًا بقبول الرأي العام.


الأفكار التي قتلت صاحبها



خوف المستبد من نقمة رعيته أكبر من خوفهم من بأسه؛ لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم وخوفهم ناشئ عن جهل

لم تتسع أجواء الاستبداد التي سخّر المفكر عبد الرحمن الكواكبي عمره في التحذير منه لقلمه الثائر، فمات عام 1902 متأثرًا بالسم الذي دُس له في فنجان من القهوة شربه في مقهى يلدز بالقاهرة، واتهم السلطان العثماني بالمسئولية عن قتله، وقد نعى الشاعر المصري حافظ إبراهيم العلامة عبد الرحمن الكواكبي ببيتين من الشعر نقشا على قبره:

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى :: هنا خير مظلوم هنا خير كاتب

قفوا و اقرؤوا أم الكتاب وسلموا :: عليه فهذا القبر قبر الكواكبي



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.