«رسالة من امرأة مجهولة» هي قصة طويلة للكاتب ستيفان زفايج (1881 – 1942)، وهو أديب نمساوي من أصل يهودي. يعد من أبرز كتّاب أوروبا في الفترة بين عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. له نمطان رئيسان في مؤلفاته: التراجم المسهبة لمشاهير من الأدباء والرحالة أمثال تولستوي وديستوفسكي، وبلزاك وماجلان، كاشفًا فيها عن الجوانب الشخصية والحقائق المجهولة في حيواتهم. وصدرت النسخة العربية منها في سلسلة «بناة العالم»، عن دار المدى للإعلام والنشر والثقافة.

والنمط الثاني هو ما حمَله على أكفّ الشهرة وحلّق به في سماء الذيوع: الروايات النفسانية التي عُرف فيها بأسلوب سردي خِلوٍ من رتوش التجميل وصقل البلاغة، لكنه متألق في عمق الفهم وبعد النظر ودقة الوقوف على خبايا النفوس التي منها تتولد الحبكات وتتعقد، فجاءت رواياته سلسالًا متصلًا من المرايا العاكسة والعدسات المحدبة المقعرة في آن معًا، لا يكاد ناظر ينظر فيها حتى يبصر نفسه أو بعضًا من نفسه، ولا يغادرها إلا وقد حمل منها أو انطبع بها في نفسه.

ومن أشهر ما ألّف روائيًا (ترجِم منها إلى العربية العناوين الخمسة الأولى):

حذار من الشفقة

24 ساعة في حياة امرأة

فوضى المشاعر

لاعب الشطرنج

آموك

عاشقة في خريف العمر

رسالة من امرأة مجهولة

والأخيرة هي التي نتناولها بالعرض في هذه المقالة بعون الله.


إطلالة عامّة

«رسالة من امرأة مجهولة Letter from an Unknown Woman» هي قصة طويلة أو رواية قصيرة (نوفيللا Novella) نشرت عام 1992 . القالب السردي للقصة يتخذ شكل رسالة طويلة من امرأة مجهولة الاسم والهوية، إلى كاتب غني ومشهور – وإن لم يذكر اسمه في النص كذلك – تخبره فيها بمأساة عشق لم يقاسِ لهيبه سواها، بينما هو عنها في شغل شاغل.


ملخص الأحداث

تبدأ القصة حين انتقل الكاتب المشهور كمستأجِر شقة في نفس البناية التي تعيش فيها البطلة مع أمها، في فيينا بالنمسا. كانت هي آنذاك مراهقة في فورة الصّبا، في الثالثة عشرة من عمرها، تعيش وحيدة مع أمها بعد وفاة والدها، بمعزل عن بقية الجيران ومخالطتهم، وكان الكاتب في بداية مسيرته المهنية بشكل عام.

على مدى 25 صفحة كُتبت فيها الرسالة تمضي تلك المرأة المجهولة تحكي تفاصيل إغرامها بذلك الكاتب عن بعد، وركام الخيالات الذي نسجته حوله مما تتسقطه من أخباره ذات اليمين وذات الشمال، وتسهب في وصف دقيق مراقبتها لأوقات دخوله وخروجه، وترقّبها لكل سكنة تصدر منه فيما يظهر لها من ثقب مفتاح الباب، وتخيّلها لما يمكن أن يكون منه حين يختفي عن ناظريها. كل هذا بغير أن يفطن هو إلى تلك العينين المعلّقتين به في دخوله وخروجه، أو يرى فيها أكثر من طفلة من أطفال الجيران، تجلس في شرود على السلالم!

ثم كان أن انتقلت الفتاة بعد زواج أمها إلى محافظة أخرى، وما كادت تتم الثامنة عشرة وتستقل بنفسها، حتى عادت أدراجها إلى فيينا حيث مسكنهم السابق، وحيث الكاتب! لم تخفت حرارة الوَجد في قلب تلك الغادة طوال تلك السنوات. فحصّلت وظيفة وسكنًا في مكان مجاور لسكنه خصيصًا، وظلت تراقبه وتتبّعه وترصد جدوله اليومي، حتى ظفِرت بجواز مرور إلى شقته كخليلة بعد أن عرَضت نفسها عليه، غير أنها كانت أوفر من سابق الخليلات حظًا في تكرار زيارته ثلاث ليالٍ متتالية، فارقته على إثرها لأنه لم يتذكرها البتة، ولا بدا أنه رأى فيها شيئا سوى “صحبة لطيفة” لإزجاء الوقت والشهوة!

غير أنها دخلت غرفته فردًا وغادرتها اثنين! ولشدة تعلقها بالرجل صممت أن يحيا طفله نفس نمط الحياة الوادعة الميسورة، فاتخذت من عِرْضِها تجارة، وحَلَفت له في رسالتها أنها ما أسلمت الرجال سواه إلا جسدها، أما روحها فظلت متيّمة به حِكْرًا عليه. وتمر بها الأيام مرًا وتطويها الليالي طيًا حتى تقابله ثانية، فتُسلِم نفسها له للمرة الرابعة في محاولة يائسة عساه يتذكُرها، لكنه لفرط سكره لم ينتبه حتى إلى أنه قضى معها ثلاث ليالٍ قبلًا! فغادرته وقد تصدّع قلبها، وأيقنت أن يدها مما علقت به صِفر، فزهدت في الحياة والأحياء أو ماتت دونهم وهي بين أظهرهم.

واستأجرت شقة حقيرة في ضاحية فقيرة، وضعت فيها طفلها بعد معاناة، ولم يلبث الوليد إلا يسيرًا حتى أصابته حمى الإنفلونزا التي تفشت في منطقة سكناهما، فتوفي على إثرها، وبقي في أمه بضع أنفاس تتردد من بعده قبل أن يفتِك بها نفس المرض، فرأت أن توجه أثَارتَها إلى ذلك «الحبيب الأوحد»، في رسالة تموج بالألم، وتعصف بالمشاعر، تخبره فيها عن هوّيتها دون ذكر اسمها، وعن روحها التي هامت به دون أن تجد إليه سبيلًا، وعن طفلهما الذي خرج من رحمها ليُدفن في رحم الأرض.

وتنهي المجهولة الرسالة بشكرها له على كل شيء رغم كل شيء! وقد سرّى عنها أنها باحت له بخبرها على إدراكها أنه لن يفهم عنها تمامًا، وأنها لم تكلفه يومًا بحبها عبئًا ولا طالبته بمردود، وكان غاية رجائها منه أن يصدّقها ويؤمن بصدق حبّها له! وتُختتم القصة بمشهد الكاتب يضع الرسالة جانبــًا بيد خائرة القوى، شاعرًا كأنه غارق في حلم بين ظلال آدمية. ويمرر كفّه على جبهته جاهدًا أن يتذكر تلك المرأة، فلا تلوح له إلا خيالات مرتعشة لذكريات غابرة، عن جارة وابنة لها نحيلة، ورائحة موت قريب تلفح المكان.


ركائز الحَبْكَة

نُقِل عن زفايج في مقدمة روايته «حذار من الشفقة»:

ليس هناك ما هو أبعد من الحقيقة من الظن السائد بأن خيال الروائي دائب النشاط في رأسه، وأن قدرته على الخلق والابتكار لها رصيد من القصص لا ينفد ومعين من الحوادث لا ينضب. فالواقع أن كاتب القصة ليس في حاجة إلى أن يبحث عن موضوع لها بقدر حاجته إلى أن يدع الشخصيات والوقائع تبحث عن هذا الموضوع إذا توافرت للمؤلف ملكة الملاحظة والإصغاء.. وهكذا يحدث أن يفضي الكثيرون بقصصهم طائعين إلى الشخص الذي طالما حاول أن يتعقب مصائر البشر!

هكذا كان نهج زفايج في كتاباته: تعقّبُ نفوس البشر بالملاحظة والإصغاء. لذلك نبرة السرد عنده وإن خلت من وعظ إلا أنها عامرة بالحِكَم، زاخرة بالمفاهيم، التي لا تتكشف لمن يتوقف عند ظاهر النص وحد السطر. وفي قصتنا هذه نقف على أهم المفاهيم التي ارتكزت عليها حبكة الرواية، ونُسجت حولها الأحداث وتداعياتها:

طاقة التخيّل وعنفوان التخييل: جنّة وجحيم!

برع الكاتب أيما براعة في تصوير حبائل الفتنة وهي تعقد جدائلها بإحكام حول القلب الفتيّ، وتتفرع خيوطها بتؤدة وفي إصرار لتنسج شباكًا تطوّق حنايا صدرها في سلطان عَضوض، فلا فِكاك من بعد ولا خلاص! وكذلك أتقن في سبر أغوار ذلك الوَلَه العاتي والوقوف على تطوراته في نفسها، وكل ذلك بشخص لم يعرفها يومًا ولم تعرفه حقيقة لو أنها عَقِلت! وإن القارئ ليخيل له أن خمسًا وعشرين صفحة من الدفق الوجداني ووصف لُجاجات القلب مملة، لكن الحق أنها تحبس الأنفاس لعمق ما تجول وتصول بك في نفسية الفتاة وتقلباتها.

فتبدأ في البداية بحاجبين مستويين يطالعان قصة لصبيّة جَنَح بها الخيال ، ثم لا يلبثان يتقوسان وأنت تشهد مُضيّها بجدية في إذكاء صبابتها وتصديق صبوتها، ليعلو التقويسة بعد ذلك جسر من الذهول ارتسم فوق عينيك إذ ترى كيف قادتها خيالات الهوى كما قيد مغلول يدين أسيرًا!

وتكرار مصطلح «الخيالات» لا يعني تسطيح دلالات ما وجدت الصبيّة في نفسها، أو نفي صدق وجدانها من وجه. وقبل بيان ذلك الوجه يحسن أن نقف عند مدلول مصطلحي التخيل والتخييل وظلالهما كما يُقصدان في هذه المقالة . التخيّل هو فعل التصور والاستحضار لمعنى في النفس، بينما التخييل هو الأثر الذي يقوم في النفس بعد تشكّل الصورة والانفعال الذي ينشأ وفاقًا لما تراكب. فالتخيل هو عملية تفاعل لمؤثرات معيّنة، والتخييل هو نتاج الاستجابة النفسية والإدراكية لذلك التفاعل.

وأولى معطيات التخيّل ومادته هي مدخلات الحواس، فهو يقوم على استعادة الذهن لما تَحصّل عليه الحس من قبل. وفي ذلك يذكر الإمام الغزالي:

إذا أدرك [الإنسان] بالحواس شيئًا حصل منه أثر في القلب […] فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر […].

ذلك لأن المُتخيِّل يتجاوز غالبًا مجرد استحضار صورة ما على ما الوجه الأصيل الذي أدركته الحواس بها، إلى الإضافة والتركيب عليها من صور مختلفة متعددة، مخزونة في كيانه الإدراكي من قبل، وذلك من مُدخلات حسية وخبرات وجدانية وتصوّرات ذهنية سابقة، ابتغاء شيء جديد وصورة طريفة. والطرافة هذه هي من أقوم ركائز جاذبية عملية التخيّل ولذة أثر التخييل في النفس.

ويضرب القرطجنّي مثالًا توضيحيًا لذلك:

لذة المحاكاة [التخيّل] نابعة من التعجب، ويُمَثل على ذلك بمنظر الشمعة، فهو جميل بحد ذاته، لكنه إذا انعكس على صفحة ماء صافية جاء أجمل بكثير، أولًا لحدوث اقتراحات جديدة، وثانيًا لأن هذه الصورة أقل حدوثًا [وإلْفًا] من منظر الشمعة ذاتها! والنفس في ذلك أميل ذهابًا مع الاستطراف.

يترتب على ما سبق سؤال: هل كل الخيال إذن طريف الوَجاهَة ومُسالِم الأثر؟ والجواب أن ثمة فارقًا بين أنواع التخيّل، وتفرقة بين كون التخييل الناشئ عنه وهمًا مغيّبًا للكيان الإدراكي أم شاحذًا لملكاته، وذلك من حيث مدى حضور المتخيّل ووعي إدراكه أثناء عملية التخيّل.

فمن هذه الجهة ينقسم التخيّل الابتكاري (أي الذي يتجاوز صاحبه استحضار الصور للابتكار فيها) عند النفسانيين إلى تخيّل سلبي وآخر إيجابي. فالأول هو الذي يُسلِمُ فيه الإنسان زِمامَه لخياله، ويَهيم في أوديته على غير هُدى باستحضار الصور وتركيبها، بلا هدف محدد ولا قصد لإنشاء شيء، بل تحميلها فوق ما تحتمل لو أريد بها شيء، ومن هذا النوع تكون صور الهلاوس والأوهام وأحلام اليقظة المَرَضيّة. أما التخيل الإيجابي فهو توجيه عملية التخيّل لغرض معين، ويكون المتخيّل هو من يمتطي بإرادته صهوة الحصان الجامح، آخذًا بعِنانه موجّها لجِماحه، ومن هذا الصنف تنشأ مختلف الأعمال الإبداعية.

وإذن يتجلّى أن ما يتولّد لدى الإنسان من انفعالات، أو «يتفجّر» منه في مواقف لا يبدو لغيره أنها «تستحق» قدر انفجاره، يكون مبعثها في الغالب تلك التفاعلات الجُوانيّة التي جَرَت في نفسه زَمَنًا، سواء كان واعيًا بها أم لا. فطاقة الخيال في النهاية جهد جوّاني حقيقي، وأثر التخييل هو ما يُلبس التخيّلات ثوب الفتنة بتحقيقها في نفس المتخيل سواء طابقت الحقيقة ووافقت الواقع أم لا.

لذلك تنشأ لا محالة عن تلك الطاقة وذلك الأثر تفاعل «صادق» معها:

وأخص الآثار الحاصلة في القلب [من الخيالات] هو الخواطر […] فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان القلب غافلًا عنها. والخواطر هي المحركات للإرادات، فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة، فمبدأ الأفعال الخواطر، ثم الخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم، والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء.

لذلك كثر التنبيه في آدابنا على مفاهيم مترابطة، يُسلِم بعضها إلى بعض، منها خواء النفس، واشتغالها بالضرورة بالباطل والسفاسف إن لم تُشغل بالحق والمعالي، إذا لا بد لها أن تشتغل. وكذلك الإسراف في فضول المباح كالأكل والمخالطة والكلام والنظر ، ومن تلك الأبواب تتسلل المفسدات للقلب والمعكّرات لصفو النفس.

وفي كتابه القيّم «صيد الخاطر» يذكر ابن الجوزي من بين مفسدات القلب ما أسماه «ركوب بحر التمنّي»، الذي يقارب اليوم ما يعرف بـ«إدمان أحلام اليقظة»:

وهو بحر لا ساحل له. وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، كما قيل: إن المُنى رأس أموال المفاليس. فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة، تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية.

وكل بحسب حاله: من متمن للقدوة والسلطان، وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان، أو للأموال والأثمان، أو للنسوان والمردان، فيمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسه وقد فاز بوصولها والتذّ بالظفر بها، فبينا هو على هذا الحال، إذ استيقظ فإذا يده والحصير. ا. هـ.

وهنا يَبطُل التعجب (الاستنكاري) مما آل إليه حال الفتاة، إذا وُقِف على الملابسات التي هُيّئت لها الأسباب ثم هيَّئتها للانغماس فيها، والتي تقول عنها بنفسها:

أتدري لماذا أحكي لك كل هذه التفاهات؟ لأنني أريدك أن تفهم كيف أن شخصك منذ البداية تسلّط على نفسي بأخذَة كالسحر، وأنا بعد طفلة خجولة منطوية. فمن قبل أن أراك حقيقة، كان شخصك قد حُفّ عندي بالفعل بهالة من الثراء والإعجاز والغموض.

وكذلك يتعطش ضحل النفس لكل جديد. وفي ذلك البيت القابع في الضواحي، كنا جميعًا نتحرّى قدومك بفارغ الصبر. وبالنسبة لي خصوصًا، استبد بي فضول محموم حين عدت من المدرسة يومًا لأجد شاحنة نقل الأثاث أمام البناية! كانت غالب القطع الكبيرة قد نقلت للأعلى، وانهمك العمّال يفرغّون ما تبقى من الصغائر . وقفت أتأملها مشدوهة، إذ كانت كل متعلقاتك مختلفًة أيّما اختلاف عما ألِفتُ مرآه!





وشد ما صدق الرافعيّ الرفيع حين قال:

وأشد سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولا تزال تشعره الحياة أن كل ما فات من العذاب إنما هو بَدْء العذاب.

الوالديّة الصورية

من العوامل الركيزة كذلك في التطور المأساوي والجموح الفائر لقلب الفتاة البيئة التربوية التي أحاطت بها، والتي كانت أمها محورها، ومع ذلك كانت آخر من يمكن أن تلجأ إليه الفتاة ليفهمها. نموذج الأم في هذه القصة هو نموذج الأم البيولوجية مجرّدًا: الوالـــدة المُنجبة، ثم المغذية المرضعة، ثم الآمرة والناهية، فالمُفسِدَة والخاسرة في آن معًا.

إن الصدمة الحقيقية في هذه القصة تنبع من أن كل ذلك الوَلَه العاتي وتلك الخواطر المتلاطمة كانت تصطخب على أشدها في أعماق الصبية، بغير أن تفطن أمها إلى أي شيء أو تلحظ أي تغيير طرأ عليها، أبسط صوره طول اختلاس الصبية النظر من ثقب المفتاح حين تغفل عنها أمها، وما أشد ما كانت تغفل! بل كانت تنظر لابنتها نظرة مخلوق بليد غريب الأطوار! والأدهى أنها منعتها عن اللهو مع أقرانها من أطفال الجيران لأنهم لم يكونوا من نفس طبقتهم الاجتماعية وإن أجبرتهم ظروف المعاش الضئيل أن يقطنوا بجوارهم، فحرمتها المتنفّس الطبيعي لتلك السن.

وبدورها لم تنبس الصبية ببنت شَفة أبدًا عما اختلج في صدرها حتى كاد يمزقه، بل قد فعــــل آخــــر المطاف. واللافت أنها كانت تحكي عن والدتها في القصة بأسلوب تقريري عارٍ عن كل عاطفة ولو سلبية، كمرارة أو ملامة، كأنما كانت أمها من وقائع الوجود الذي يُحكَى عنه ليكتمل المشهد لا أكثر! وحدها السياقات التي تحدثت فيها عنه أو وصفته حملت عنفوان عواطفها الحبيسة أمَدًا.

ذلك أنه ليس كل من سكت وانطوى ظاهرًا يعني بالضرورة أن شيئًا لا يجري في داخله، بل إن أولئك الأطفال المنغلقين على أنفسهم هم الأكثر عرضة لحمل فتائل التفجير الذاتي بين حناياهم حين يكبرون، إذا لم يلتفت الوالدان مبكرًا لبناء جسور تفهّم وحوار ولين وصال، ويقصدا لتنشئة نفوس سويّة الكرامة في غير كِبر ، حيّة الوجدان في غير خَوَر ، تحسن التعبير عما تجد في نفسها والإفصاح عما يدور بخَلَدها؛ وفي جو أسريّ لا يهاب فيه فرد أن يكاشف آخرَ بدواخل نفسه، ليناقشه ويستنصحه، لا ليحاكمه ويجلده.

ها هنا يصير نموذج الوالدين أصدقاء قدوة ومربين راشدين. وهذه القصة نموذج واقعي من نماذج تخريج كتل آدمية مخروسة المشاعر مصمتة الروح، تئول إلى الدمار النفسي والعذاب الوجداني، تمزّق شتاته بين طرفي نقيض: استهانة بحسن تعهد جانب العواطف في الطفل والحكمة في توجيهه لكيفية تهذيب جوّانياته وتصريفها، أو تهويل سيطرتها العمياء وإقرار فوضاها الهوجاء التي تسيّر صاحبها بغير أن يملك لها دفعًا.

المراهقَة : إهراق وإرهاق!

لم ترد في القصة كلها لفظة «مراهقة» أو مشتقاتها، لكن ما جعلني أوردها أن كثيرًا ممن تناولوا القصة بالعرض – ولم تحظ بعد برؤى نقدية جادّة – اختزلوها في «خيالات مراهقة»، وتكرر الاصطلاح كثيرًا حتى في الملخصات العربية لها.

وإذا تجاوزنا اختزال سلطان الخيال لأننّا بسطناه أعلاه، يبقى التوقف عند مفهوم المراهقة ذاك، الذي يبدو أنه مر بتطورات دلالية أخرجته عن كونه وصفًا لفئة عمرية معيّنة، إلى شمّاعة تبرر بها انحرافات تلك السن وطيشها، وانقلب أخيرًا إلى تصوّر ذهني مسلّم به ويغرس مع الطفل منذ نشأته أن سن المراهقة سنّ عصيبة، يتوقع معها منها كل انحطاط وخواء وضحالة، وتغتفر له لأن ذلك هو «الطبيعي في تلك السنّ» .

العرف الاجتماعي السائد الآن في غالبه يُلحِق تلك الدلالة بذلك المفهوم، ولعله في بيئتنا العربية أنكى وقعًا من الغربية التي صدّرته لنا . ومن عَجَب أن أمتنا في جاهليتها وإسلامها لم تعرف تلك «المراهقة» المُرهِقة والمهرقة لريعان الشباب وزهرة الصبا والفتوّة. فتجد على سبيل المثال لا الحصر أن عمرو بن كلثوم ساد قبيلة بني تَغلب التي قيل فيها «لولا نزول الإسلام لأكل بنو تغلب الناس» وعمره 15 عامًا، وزيد بن ثابت كاتب الوحي وترجمان رسول الله كان عمره 13 عامًا، ومعاذ ومعوّذ اللذين تنافسا على قتل أبي جهل في غزوة بدر عمرهما على الترتيب 13 و14، وقاد أسامة بن زيد جيوش الردّة وعمره 18 سنة.

وغني عن القول أن إيراد تلك النماذج سردًا دون بيئة تمهّد لمثلها أن تنشأ ضرب في عماية، فبيئات التربية اليوم في غالبها تنشّئ الطفل على الرخاوة والنعومة والاتكالية، وتلزِمه بقوالب مدرسية وأنشطة لا توقظ فيه ملكات الفكر والوِجدان بل تخمدهما، وتحرمه المهارية الحِرفيَة، وتعطّل طاقات العمل والحركة فيه.

ملابسات الهوى وحقيقة الحب

إنني أعلم تمامًا أن مثلك اعتاد من النساء كلمة «أحبّك»، لكنني على يقين ألا أحد أحبّك كحبّي لك أو أخلص كإخلاص كلب وفيّ انقطع لاتّباعك! لا شيء يماثل حبّ الطفل غير الملحوظ: إنه حب مغلوب على أمره وخانع في طبعه […] أولئك لهم من الصحبة والمعارف ما يتيح لهم تَرَف البوح، لكن أنا لم يكن لي من أستكتمه أمري، ولم يعلّمني أحد أو يحّذرني، كنت غِريرة جاهلة بالعواقب. وإنما هرعت بسذاجة لملاقاة قدري فيك. كل ما هاج في نفسي، وكل ما وقع لي في حياتي، كان متمحورًا حولك.. حول خيالاتي عنك.

المفهوم الوحيد الذي يظل ثابتًا مع البطلة حتى آخر أنفاسها هو «صدق حبي لك»، والمطلب الوحيد الذي طلبته منه هو أن يصدّق صِدقها وإن لم يبادلها إياه. ولا أجد المقام يأذنُ بالحكم على حبها أو تقويم درجته، أو يتسع لتحليل عناصره لتبين إذا ما كانت شابته أخلاط ليست من الحب في شيء.

إنما التقرير الذي ينبغي ويُكتفى به في هذا المقام هو أنه ما في الحب مَلامة أو لزوم تعليل، ولا على المُحبّ من سبيل. إنما السبيل عندنا على من يُضيع في الحب دينَه ويُهدِر خلقه، ويريق مسئولية وجوده على أعتاب وَجْدِه، فلا أرضًا قطَع ولا ظَهرًا أبقى.

ذلك ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، والحب رزق، والله هو الرازق، ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.