يُحار كثير من الناس في محاولتهم التعرف على مراد ما يطرحه البعض من قضايا وآراء يشغل بها الرأي العام، ويثير بها عواصف النقد والمداخلات والتعليقات المتباينة، وحين يتأمل المرء فحوى هذا الذي يشغل حيزًا في مناقشات العامة ووسائل الإعلام، لا يجد كبير فائدة أو أثرًا يُرجى من هذا الحَكْيِ السَّيَّالِ، بل إنه في كثير من الأحيان يتصادم مع مصلحة المجتمع، ويعوقه عن توجيه طاقاته الفكرية والحركية نحو ما يجدر بها أن تنصرف إليه.

ومن ذلك ما بات يبثه مثلًا الدكتور «سعد الهلالي» من آراء وأفكار يحرص على أن تكون ذات طابع مختلف ومذاق مثير، ولقد أكثر الدكتور في إغرابه وإطلاله حتى صار بفعل من يدعمونه حالة مفروضة على المجتمع، تُخَصَّصُ لها مساحات بث مسموع ومرئي معتبرة، ويحظى بتقدير من ذوي النفوذ والجاه الذين لا يتأخرون عنه بالتقريب والتمكين المخَطَّطِ ومَنْحِهِ عضوية هيئاتهم المرموقة، ولا يبخل الدكتور عليهم بما يريدون من ألقاب ورتب تبلغ حد النبوة.

وبالرغم من محاولات الدكتور سعد المستميتة في الظهور بمظهر الفقيه التقدُّمي المواكب للعصر والمدرك لواقعه، فإن ما تتضمنه مسالكه من خلل علمي ومنهجي يجعل محاولاته خائبة إلا في الانضمام لجوقة التنويريين الرجعيين، الذين يدَّعون التقدم، ولكنهم في الحقيقة يهدمون كل تقدم حقيقي ويرسخون لأفكار تبدو من زيفها براقة، لكنها تمثل في جوهرها نكوصًا عن التقدم ورجوعًا للتخلف الفكري والحضاري، فضلاً عن كونها غير علمية ولا منهجية.

إن ما يثور في فضاء الإعلام من آراء للدكتور سعد دفعني لتتبع بعض ما يروج من أفكار، وقد فوجئت بهذا الكم من السقطات العلمية، التي لا ينبغي لمن يحمل مثل رُتَبِهِ العلمية والاجتماعية أن يَزِلَّ فيها، حتى أعياني التتبع لها، فبعد تتبع يسير لعدد من إطلالات الدكتور سعد عبر الفضائيات، لا يجد المرء أمامه إلا حالة من العبث بالمنهج العلمي، وتطويعه لخدمة أفكار معينة، ومخالفة ما يتم إعلانه من قواعد للنظر الفقهي عندما لا تخدم هوى من يعلن عن هذه القواعد، وتشكيك في السنة وحجيتها، واستخدام الدين لخدمة بعض المفاهيم الحديثة للدولة والعلاقات الاجتماعية بما يدعم تصورات معينة بطريقة انتقائية، فضلًا عن الطعن في العلماء، والتقليل من شأنهم، وترويج أفكار تدعو إلى الحطِّ من مكانة الدين في نفوس الناس والحدِّ من مرجعيته بالنسبة لهم… إلخ.

وهذه الحلقات ستُعنى بمحاولة بيان بعض الأمور الكامنة والتبعات السلبية لهذا الخطاب، الذي تم اختياره كنموذج معبر عن حالة من حالات التجديد الزائف للخطاب الديني، هذه الحالة التي تهدف في الحقيقة إلى اعتبار التجديد الديني سبيلا لتقليص حضور الدين في الحياتين العامة والخاصة على السواء.


افتراء وتحريف لأقوال العلماء

من أعجب ما رأيت من الدكتور سعد الهلالي، وكثيرٌ مما يفعله عجيب، تعمُّدَه الكذب بنسبة قول لأحد الفرق الإسلامية ووصفًا لها، أقصد نسبة القول بجواز «إيمان المقلد» لفرقة «الماتريدية» ووصفه لأتباع هذه الفرقة بالسلفيين!

ولقد دُهشت من ذكره لهذا الرأي فتتبعت قولهم في المسألة التي أثارها الدكتور سعد ونسب فيها قولاً لهم، فوجدته يكذب عليهم وينسب لهم ما لم يقولوه، ويخلط مسائل العقيدة بمسائل الفقه؛ فيتحدث عن عدم جواز «إيمان المقلِّد»، وهو أمر يتعلق بالإيمان بالله، ومجاله في علم العقيدة، لكنه يُقْحِمُه في سياق حديثه عن الفقه الخاص بالعبادات والمعاملات، وبطريقة خاطئة ليقوم بعملية التشويه التي يريدها، وبروح تسعى لتكفير المسلمين ولا تتلمَّس لهم المخارج لتصحيح إيمانهم، في خطاب مناقض تمامًا لما يحاول الدكتور سعد باستمرار أن يظهر عليه من تسامح ومناهضة لجماعات التكفير والإرجاف في الأرض.



الماتريدية لا يدعون إلى تثبيط العقول عن التفكر والتوصُّل إلى معرفة الحقائق الكبرى في الكون بل يوجبون هذه المعرفة، على عكس ما يروج الدكتور سعد الهلالي.

ويحاول الدكتور سعد أن ينزل بحكم عدم جواز التقليد في العقائد والأصول الكلية، ليقرره على حكم التقليد في مجال الفقه والفروع، مع أن المسائل الفقهية لها مستوى مختلف من النظر والتناول، ويجوز التقليد فيها، إلا لمن بلغ مرتبة الاجتهاد، فمثل هذا يحرم عليه التقليد، أما من لم يبلغ هذه المرتبة فيجوز تقليده لغيره من العلماء، وهذا أمر مطَّرِدٌ في سائر العلوم.

فوصل الشطط بالدكتور سعد لتنفير المتلقين لكلامه من الرأي القائل بجواز إيمان المقلد وأن المقلد معذور، إلى حدِّ نسبة هذا القول إلى السادة الماتريدية، وهم مع الأشاعرة يمثلون الجسم الرئيسي لأهل السنة والجماعة، ثُمَّ

الادِّعاء بوصف الماتريدية

بأنهم: «أتباع الاتجاه السلفي المعاصر الذين يأخذون معلوماتهم وعقيدتهم من إحدى الدول الخليجية لأنهم يشجعون التقليد»، في خلط عجيب لا يمكن أن يقع فيه شخص مبتدئ، فبين الماتريدية وأتباع الاتجاه السلفي المعاصر بون شاسع، بل اتجاهات متعارضة، ويكاد كل طرف منهما أن يخرج الآخر من دائرة أهل السنة والجماعة!

ولكن هل قال الماتريدية فعلاً هذا الكلام الذي ينسبه إليهم الدكتور سعد؟

إن من يراجع كلام الماتريدية في هذه المسألة سيجد كبار علماء المذهب يؤكدون على أهمية النظر والاستدلال من كل مكلَّف، واعتبار من لم يتفكر في العقائد ليصل بتفكيره إلى الإيمان عن اجتهاد خاص به آثم مستحق لعقاب الله!

يقول العلامة البياضي في كتاب «إشارات المرام / ص 41 ط الحلبي»:

«وقد صرح الأئمة بأن المقلد في العقائد مطلقًا عاص بترك النظر مستحق للعقوبة».

ويقول أيضًا ص 84: «فأول الواجبات على المكلَّف النظر والاستدلال المؤدِّي إلى المعرفة بالله وبصفاته وتوحيده وعدله وحكمته، ثم النظر والاستدلال المؤدِّي إلى جواز إرسال الرسل وتكليف العباد، ثم الاستدلال المؤدِّي إلى ثبوت الإرسال بدلالة المعجزات وثبوت الأحكام والواجبات، ثم الاستدلال المؤدِّي إلى تفصيل أركان الشريعة لأهله، ثم العمل بما يلزمه على شروطه فيهما، كما في التبصرة لعبد القاهر البغدادي».

ولذا قال خضر بك الماتريدي في متن «جوهرة العقائد»: وللمقلد إيمان يثاب به ~~~ وإن يكن عاصيًا في ترك إمعان.

بل إن الإمام أبا منصور الماتريدي يقرر هذا المبدأ بنفسه في كتابه «التوحيد» «ص 65، ط دار صادر، بيروت، ومكتبة الإرشاد، إستانبول». حيث قال:

«فإنا وجدنا الناس مختلفي المذاهب في النِّحَل، في الدين، متفقين على اختلافهم في الدين على كلمة واحدة، أن الذي هو عليه حق، والذي عليه غيره باطل، على اتفاق جملتهم في أن كلا منهم له سلف يُقَلَّد؛ فثبت أن التقليد ليس مما يُعْذَرُ صاحبه لإصابة مثله ضدَّه».

فالماتريدية لا يدعون إلى تثبيط العقول عن التفكر والتوصُّل إلى معرفة الحقائق الكبرى في الكون، بل يوجبون هذه المعرفة، ويعتبرون من يُقَصِّر في تحصيلها آثمًا مستحقًّا لعقوبة الله على استمراره في الجهالة برغم ما منحه الله من عقل للتفكر والتدبُّر، كما هو واضح في النقول السابقة، على عكس ما يروج الدكتور سعد.

ولا أدري ما الذي بين الدكتور سعد وبين الماتريدية حتى يفتري عليهم هذا الافتراء، خاصة أن هذه المسألة تكاد تكون نظرية بحتة لا تقع إلا نادرًا أو لعلها لا تقع، لأن من يناقش مسألة إيمان المقلد، يتخيل إنسانًا مسلمًا لا يكاد يتفكر في خلق الله فيعرف أنه من مخلوقات الله، وهذا أمر صعب الوقوع؛ لأن أدنى إنسان مسلم حين يرى خلقَ الله عز وجل وما في الكون من سماء ونجوم وجبال وأشجار ومخلوقات مختلفة وما فيه من نظام بديع ورزق وافر متجدد ونِعَمٍ لا تعد ولا تحصى لكل مخلوق فإنه يقول: سبحان الله، ويدرك أن وراء هذا الكون خالقًا قادرًا على كل شيء، وإليه يلجأ ويدعو، يرجو رحمته ويخشى عذابه.

العجيب أن «وظيفة العالِم»

في نظر الدكتور سعد

التي يكررها باستمرار في لقاءاته وإطلالاته المتكررة على الجمهور، أنه ينقل العلم بصدق وأمانة للناس ويترك لهم حرية الاختيار، والدكتور سعد بطبيعة الحال هو الذي يريد أن يبدو أنه يقدِّم نموذجًا لهذا الصدق وتلك الأمانة! ولكن بعد هذا التحريف والتشويه المتعمد لمذاهب علماء المسلمين، تُرَى أي أمانة يحفظها الدكتور سعد للجمهور الذي يتلقَّى كلامه، وأي صدق يضمره في هذا الحديث، وهو يخلط في أقوال العلماء ولا يتحرى الدقة في نسبة الأقوال لهم، إن لم يكن يتعمد هذا الأمر، ليقوم بتشويههم والحط من شأنهم.


الطعن في العلماء

إن مثل هذا المسلك الذي يسير فيه الدكتور سعد لا يمكن لصاحبه أن يشعر بالراحة والاستقرار بين أصول العلم الراسخة، وبين مدارس فكرية هي كالجبال الشوامخ، وصاحب هذا المسلك لا يمكنه إلا أن يتوجَّهَ بالطعن في علماء الأمة محاولةً منه للتعمية على القضايا التي يثيرها والإشكالات الواردة عليها، ليس فقط بإهدار مناهجهم العلمية والتلفيق بين آرائهم ليُخرج منها مسوخًا مشوهة يقدِّمها للجماهير، بل أيضًا باتهامهم في ديانتهم والطعن في أمانتهم.

الدكتور سعد يحاول أن يُشْعِرَ نفسه أنه أفضل من العلماء المعاصرين الذين يصفهم بأنهم «أوصياء الدين» وربما القدامى أيضًا، ثم هو يقوم بتبجيلهم حين يكون هذا التبجيل والتعظيم سبيله لتسويق بضاعته، فهو مثلًا

يقول باستمرار

، لتسويغ الأقوال التي يميل إليها، إنها «صادرة عن عالم أو أكثر أفضل من كل العلماء الموجودين حاليًّا»، حتى يقطع الطريق على من يريد معارضة هذا الرأي، فكيف يعارض رأيًا قال به من هو أفضل منه؟

لكنه في موضع آخر يتهم هؤلاء العلماء القدامى، الذين يجعلهم أفضل من جميع العلماء الموجودين حاليًّا، بأنهم يداهنون في الدين، وأنهم غير أمناء في صدعهم بالآراء التي يتبنونها، فيطْعن فيهم في كتابه «الإسلام وإنسانية الدولة» حين يقول ص 81:

«كما أن المتفقين بالإجماع على الحكم محل الامتثال قد يكون منهم المجتهد المخالف بفقهه، ولكنه أمام الكثرة الكاثرة يعجز عن الصدع بانفراده الفقهي حتى لا يوصف بالضلال والشذوذ، أو قد يرى مصلحته في النزول مؤقتًا على قولهم»!

فهل هذا أسلوب يليق بالحديث عن العلماء الذين هم محل اتباع وتقدير من خاصة المسلمين وعامتهم؟ وكيف يُسوِّغ لنفسه أن يستشهد بكلامهم ويعتمد على آرائهم وهم على هذا النحو من قلة الديانة وسوء المسلك؟

والطعن في العلماء لا يقتصر – عند الدكتور سعد – على العلماء كأفراد، بل يتعداه إلى المؤسسات والتيارات الفكرية أيضًا؛ فينعَى على الأزهر تارة، وعلى التيارات السياسية الإسلامية تارة أخرى، وعلى الجماعات السلفية تارة ثالثة، الأمر الذي تشعر معه أن كل المجتمع باتَ من “أوصياء الدين” خلا الدكتور سعد، مع أنه هو من يمارس الوصاية في الحقيقة بتَهَكُّمِهِ وتسفيهه لما يشاء من أشخاص وآراء.

ومن خبيث صنعه أنه في الوقت الذي يهاجم فيه الأزهر، يقوم بتوصيف دوره وتحديد مهمته، على غير النحو الذي يراه الأزهريون!

فيقول

: «إن الأزهر قلعة علم لا يتبنَّى مذهبًا عقيديًّا كالأشعرية، والدليل على ذلك أن الحصول على درجة الماجستير والدكتوراه مفتوحة طوال العام»!

لا يدري المرء حقيقة رابطًا بين هذا القول ودليله، بل هو أمر يخالف الواقع أصلًا، فالأزهر بالفعل يتبنَّى المذهب الأشعري في العقيدة ويقرره في مناهجه الدراسية، وهذا أمر مستقر منذ قرون، حتى إن أحد رواد التجديد الحديث فيه مثل «محمد عبده»، حين سُئِلَ عن مذهبه ومذهب أستاذه «جمال الدين الأفغاني»، قال:

وهذه رؤية من يُدرك أن التجديد لا يكون إلا بالانطلاق، في تحقيقه، من المناهج المستقرة والبناء عليها.

إن وصاية المؤسسات أو التنظيمات على الدين ليس هذا مدخلها كما يدَّعي الدكتور سعد، بل الوصاية الحقيقية إنما تكون عند استغلال هذه المؤسسات أو التيارات للدين كأداة لتحقيق مآرب تتعارض مع مراد الشرع الشريف في بسط العدل وتحقيق الحرية وتمكين العباد من العبادة الخالصة لله، وهو أمر إن كان يقع بالفعل من بعض هذه التيارات والمؤسسات، فللدكتور سعد القدح المعلى في هذا المضمار.

يكفي أن نذكر في هذا المقام تأييده لحكم محاكمة لم تستغرق دقائق معدودات انتهت إلى الحكم بإعدام أكثر من 500 نفسٍ دون ضمانات وإجراءات تكفل لهذه المحاكمة ما يلزمها من شعور بالنزاهة والعدالة،

فقال عن هذا الحكم

إنه «صدر من قاض أراح ضميره»! فيما سَبَّبَ هذا الحكم صدمة في العالم كله، وتم استنكاره في الداخل والخارج، ثم قضت محكمة النقض بإلغائه فيما بعد لما شابَهُ من قصورٍ بَيِّنٍ، فأي راحة وأي ضمير تلك التي يتحدث عنهما الدكتور سعد مستغلًّا صفته الدينية ليبرر وضعًا خاطئًا؟


عدم الترجيح بين الآراء

«إننا سُنِّيُّون أشعريون أو ماتُريديون، ونحن في أعمال العبادات دائرون على المذاهب الأربعة».

هل يجوز للعالِم أن تكون وظيفته طرح الآراء العلمية فقط، أم يجوز له أن يتدخل في توضيح أن هناك رأيًا أقوى من رأي آخر أو أصح منه ويقوم بترجيح رأي على آخر؟

تُعَدُّ الإجابة على هذا التساؤل مدخلا مهمًّا لبيان مدى خطورة ما يسعى خطاب التنوير الرجعي مثل هذا الذي يُروِّج له الدكتور سعد الهلالي، من ترسيخ له في الواقع الفكري والثقافي والاجتماعي والديني.

يُعتبر «عدم الترجيح بين الآراء الفقهية المختلفة» من الآراء التي لها وجود مركزي في خطاب الدكتور سعد، والأمر لا يقف عند هذا الحد من المعنى السلبي لعدم الترجيح، بل إنه يتجاوز ذلك إلى القول بضرورة عدم الترجيح، والادعاء بأن هذا هو الموقف الصائب!



الطعن في العلماء لا يقتصر عند سعد الهلالي على العلماء كأفراد، بل يتعداه إلى المؤسسات والتيارات الفكرية أيضًا؛ فينعَى على الأزهر تارة، وعلى التيارات السياسية الإسلامية تارة أخرى.

والحق أن الدكتور سعد يحاول أن يصوِّر مشكلة لا وجودَ حقيقي لها إلا في عقله هو، وهذه المشكلة يصر على الانطلاق منها لبث هذا التشوش في عقول الناس، فهو

يعتقد

أن مهمة العالِم ووظيفتَه تنحصر في طرح الآراء الفقهية، وكذلك يرى أن القيام بغير هذه المهمة يعد أمرًا خاطئًا يصوره على أنه وصاية دينية، ومن يقومون به ينعتهم بأوصياء الدين! يدَّعي الدكتور سعد أنه يسلك هذا المسلك؛ لأن هناك ممن يختصون بتعليم الناس أحكام الفقه لا يذكرون إلا رأيًا واحدًا، كما يقول.

فهل هذا الادعاء صحيح؟ وهل يلزم العالِمَ أن يعرض الآراء المختلفة دون أن ينحاز لأي منها؟

في الحقيقة هذا كلام شديد الغرابة، لا أقول إن العالِمَ لا ينبغي أن يفعله، بل إنه لا يملك أن يفعله، فالأصل في العالِم أن يكون «مُتَحَيِّزًا»، وبخاصة العالم المنوط به بيان أحكام الفقه الإسلامي، وعليه أن يقول الرأي الذي يعتقده أو يتبنَّاه، فإذا كان لا يُقِرُّ بصحة الرأي الآخر، أو أنه يُقِرُّ بوجاهته ولكنه يرجح الرأي الذي يعلنه ويذكره للناس، أو يرى أن رأيين متساويان في قوة الاستدلال، ولكنه يختار أحدهما لاعتبارات تتعلق بأنه الأنسب لظروف مجتمع معين أو سائل معين، فكيف يكون «مُجْبَرًا» على ذكر الرأي الآخر أو الآراء الأخرى كلما أراد أن يُبَلِّغَ الأحكام للناس؟

إن العالِم لا يلزمه إلا أن يعلن للناس الرأيَ الذي يتبنَّاه ويعتنقه ويؤمن بصحته، فإن زاد على ذلك بذكر آراء أخرى يرى من وجاهتها ما يشجعه على ذكرها أو لأي سبب آخر فهذا لعله يكون حقًّا له وليس بواجب عليه، بل نَصَّ الفقهاءُ على أن نَقْلَ عِلم شخص ما من غير تلاميذه ومن خلال كتبه لا يُعتدُّ به في النسبة إليه؛ لأن الناقل يمكن أن يكون أخطأ في فهم مراده، لعدم اعتياده وتمرسه المُدارسة في فقهه، فلا ينبغي أن يقول عالم في الفقه إن رأي الأحناف في مسألة معينة هو الحرمة؛ بناء على ما طالعه في كتب الشافعية من أنهم ذكروا أن الأحناف يقولون بهذا الحكم، بل يجب أن يحصل على هذا الرأي من علماء المذهب الحنفي أنفسهم ومن خلال كتبهم المعتمدة، وهذا من الدقة والأمانة العلمية.

فضلًا عن أن الفقه الإسلامي معروف بتعدد الآراء واتساع الاجتهادات فيه، ولو كان مطلوبًا من كل متخصص في الفقه أن يتحدَّث عن مسألة معينة فيذكر كل الآراء الواردة فيها؛ لكان ذلك أمرًا شديد المشقة على المتلقي غير المتخصص كما أنه يثقل أيضًا على الفقيه أو طالب العلم المتخصص. الغريب أن الدكتور سعد ذكر ضرورة التوثيق والدقة في النقل عن العلماء من كتبهم ومن علماء المذاهب الفقهية، في سياق حديثه عن ضرورة عدم الانحياز لأي من هذه الآراء ممن يبلِّغها، في حين أن كل هؤلاء العلماء متحيزون لآرائهم وينتصرون لها!

إن كثيرًا من هذه الآراء تشتمل على فروق واضحة بينها، كما تشتمل أيضًا على فروق دقيقة جدًّا لا يكاد غيرُ المتخصصِ يلحظُ ما يميز بعضها عن بعض، وربما مَيَّزَها ولكنه لا يدرك للوهلة الأولى سبب وجود هذه الفروق والاختلافات، وهذا لن يتأتَّى له إلا بمُدارسة واعتياد على النظر في مسائل الفقه والتعامل معها، كما يحدث مع أي علم ينظر إليه غير المتخصصين فيه على أنه قد يصل إلى حد الطلاسم بالنسبة لهم، وإذا تحسن الحال أكثر ربما فُهمت مسائله على سبيل الإجمال دون تمييز للفروق التي تقع بينها، أو تباين الآراء فيها بين المتخصصين في هذا العلم أو ذاك، فليس هذا الحال حكرًا على علم الفقه.

لكن الدكتور سعد يأتي هذه الأيام ليدعو عمومَ الناس إلى الاطلاع على آراء الفقهاء جميعًا، والاختيار فيما بينها، وهذه الآراء أصلًا ستنتقل إليهم بطريق مطعون فيه، لأنها لم تأت لهم من طريقها الصحيح، بل بطريق الدكتور سعد، الذي يتعامل مع الآراء الفقهية باختزال شديد، فيقول مثلا هناك رأيان في مسألة معينة أو ثلاثة آراء، والحق أن فيها أكثر من ذلك، ولكن هذين الرأيين مثلا هما الأشهر، أو هما الأكثر تمايزًا واختلافًا أحدهما عن الآخر، في حين أن الآراء الأخرى تختلف عنهما بفروق طفيفة، والدكتور سعد لا يجد حيلة في دفع هذا الأمر بسبب ضيق وقت برامجه عن استعراض جميع الآراء ومناقشتها والردود عليها.

إن الفقيه صاحب رأي ومنهج وله منظوره للكون والحياة يستمده من الدين الذي يعتنقه، وهو يدعو إلى ما يذهب إليه ويعتنقه من أفكار، ولا يلزمه حين يدلي برأيه أن يذكر الآراء الأخرى، وقد يكون فيها ما يخالف رأيه ويتناقض مع وجهته، مع الإقرار بوجاهة ما يختلف معه من آراء، وهذا الانحياز والانتصار لرأي أو منهج لا يعد وصاية ولا تحكُّمًا كما

يدَّعي الدكتور سعد

، بل هو محض الأمانة في البلاغ بما يرى الفقيه أنه يبرئ ذمَّته أمام الله عز وجل.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.