«فارس الظلام» سر الخلطة النولانية

هذا المقال حلقة ضمن سلسلة: في بداية عام 2008، بينما العالم يترقب بدء مراسم حفل الأوسكار. تحدث الكثيرون من الأصدقاء عن فيلم جديد (مكسّر الدُّنيا)، على حد زعمهم! حينما سألت عنه قالوا إنه أحد أفلام سلسلة «باتمان».

بداية، لا أخفي عليكم نفوري من هذه النوعية من الأفلام عامة، بل إني أراها أقرب إلى أفلام الرسوم المتحركة الموجهة إلى أطفال!. لذا شكرتهم على الترشيحات الحماسية، دون أن أولي حديثهم أي اهتمام.

لكن بعد أيام قلائل، فوجئت باحتلال الفيلم المركز الرابع، في قائمة أفضل 250 فيلمًا بالعالم، على موقع «IMDB» (قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت)، وهو أمر لو تعلمون عظيم! سألت نفسي، كيف لفيلم لم يستمر في دور العرض لأكثر من 5 أشهر أن يزاحم الكلاسيكيات العالمية، مثل «الخلاص من شاوشنك – The Shawshank Redemption» و«الأب الروحي – The Godfather»؟

ثم جاء حفل الأوسكار ليحصد هذا الفيلم جائزتين، أحدها جائزة أحسن ممثل مساعد. هنا كانت الوقفة، واتخذت قراري: لا بد من مشاهدة هذا العمل، كي أحكم بنفسي.

«أهلًا بك في عالم بلا قواعد»

بهذا المبدأ -الذي شغلت كلماته جزءًا من أفيش الفيلم- صيغ الفيلم الملحمي «فارس الظلام – The Dark Knight»، الذي قام ببطولته الرجالية «كريستيان بيل» في دور «باتمان»، و«هيث ليدجر» في دور «الجوكر»، والمبدع «جاري أولدمان» في دور «جيمس جوردون». الفيلم هو الجزء الثاني في الملحمة الثلاثية للمخرج والمنتج والمؤلف المبدع «كريستوفر نولان».

سبقه الجزء الأول بعنوان «بداية باتمان – Batman Begins»، الذي نال حظًا قليلًا من الشهرة والنجاح مقارنة بالجزء الثاني (موضوع المقال). يتناول الفيلم فكرة الصراع الأزلي بين قوى الخير (متمثلة في باتمان)، الذي يحمي مدينته «جوثام»، وإلى جواره مجموعة من رجال الشرطة والقضاء الأخيار، وبين قوى الشر (المتمثلة في شخصية «الجوكر»)، وعدد من العصابات المختلفة، الذين يسعون إلى التمكين لـ«الفوضى – Chaos» ونشرها في العالم الذي يبسطون نفوذهم عليه.

في هذا العمل يرسّخ «نولان» فكرة «مبدأ الخير»، حيث نرى معالجته للقصة التي أبدعها مع أخيه، على أساس كون الإنسان أصل كل تغيير، سواء إيجابي أو سلبي، خير أم شر. فلا يحتاج البشر إلى انتظار معجزة من السماء تصيغ لهم أقدارهم.

في بداية الفيلم يظهر على مسرح الأحداث «هارفي دينت» -المدعي العام الجديد- الذي يشير إليه الجميع ويرون فيه «الفارس الأبيض» المنتظر، ليصبح المخلص والقدوة الذي سيخرج مدينتهم -جوثام- من ظلامها، ويصنع التغيير. لقد قرر «هارفي دينت»، ومعه مجموعة من رجال الشرطة والقضاء الشرفاء؛ العمل على تخليص المدينة من الجريمة والفساد.

ثانية، أكسب «كريستوفر نولان» العمل جمالًا خاصًا من خلال اللعب على تيمة محورية دور «الإنسان». فهو الأساس، وحده يملك التغيير إذا أراد، وقد تساعده أحيانًا قوة خارجية -مثل باتمان– تظل قوة بشرية، لها العديد من نقاط الضعف.

يرمز «نولان» إلى «الأمل» بشخصية المدعي العام الجديد، ويحتاج الأمل كي يحيا إلى رمزية «التضحية» التي جسدها في الفيلم «باتمان». أما شخصية «الجوكر»، فترمز إلى قوى الشر والفساد، التي من شأنها تغيير طبائع وصفات الإنسان «الخيِّر»، فتجعله أداة ولقمة سائغة لعوامل الشر.

مع تصاعد الأحداث تتكتل قوى الشر ضد هذا المدعي العام «الخيِّر»، الساعي إلى القضاء على جذور الفساد. ينجح معسكر الخير -جزئيًا- تحت قيادته ومعه «باتمان»، في الإيقاع بالمجرمين الفاسدين. عندئذٍ يدرك الجوكر أن معركته الحقيقية ليست ضد «باتمان»، وإنما ضد «الإنسان» الذي يمثل قوى الخير، أي المدعي العام.

الأفكار النولانية

كريستوفر نولان أثناء إطلاق الإعلان الرسمي لفليلم «فارس الظلام – the dark knight».

إما أن تموت بطلًا، أو تحيا بما فيه الكفاية، لترى نفسك أصبحت مجرمًا!

تظهر هذه الفكرة جلية في نهاية الأحداث عندما ينجح «باتمان» في القبض على «الجوكر». هنا يوضح له أنه «أداة خير» غير قابلة للإفساد، وأنه قد نال مبتغاه عن طريق تلويث شخصية «المدعي العام» بعد قتل خطيبته وزميلته في العمل، وتشويه وجهه، ثم إيهامه بأن سائر معسكر الخير الذي يسانده قد خذلوه وأسلموه وحده إلى هذه النهاية البائسة.

تتحول شخصية المدعي العام في نهاية الأحداث من الشخص المخلص الخيِّر، الذي يمثل الأمل في عيون من آمنوا به؛ إلى شخصية شريرة قاسية، تسعى إلى الانتقام من كل من «خذلوه»، حسب ما ادعى «الجوكر». يستدعى هذا صراعًا بين أبطال الخير، ومن اخترقتهم قوى الشر؛ ليموت «هارفي دينت» خلال هذه الجولات. أما مؤلف العمل ومخرجه، له وجهة نظر أخرى.

يستحق الناس أحيانًا مكافأة على إيمانهم

هنا تظهر فكرة التضحية التي يمثلها «باتمان». فهو ذلك الشخص الذي يظهر حيثما احتاجت إليه مدينته، ولا بد الآن من التضحية. حينئذ يدور نقاش أعتبره أحد أروع الحوارات السينمائية التي رأيتها، بين «باتمان» ورئيس الشرطة الصالح.

يدفع «باتمان» رئيس الشرطة إلى إبلاغ الناس بأنه –باتمان- هو قاتل المدعي العام وأفراد الشرطة، لا «هارفي دينت»، حتى لا يرى الناس فارسهم الأبيض، الخيِّر، المدعي العام؛ ملوثًا بأيدي الفاسدين. عند هذه المرحلة سيذهب إيمان الناس هدرًا وسدى، مما سيكون له أسوأ الأثر وأقساه عليهم، إذ إن ضياع الأمل ورمزيته كافٍ لتحطيم أقوى العزائم.

أحيانًا لا تكون الحقيقة جيدة بما فيه الكفاية

جعل «نولان» من «باتمان» في عمله رمزًا للتضحية. ارتضى دور «فارس الظلام» الذي يعمل لصالح مدينته، حتى وإن كان أهلها يلعنونه، ويظنونه المجرم قاتل المدعي العام، بل يريدون الإيقاع به وسجنه.

لقد نجح العبقري «نولان» في صنع تيمة جديدة ورمزية رائعة في سلسلة أفلام باتمان، وهي تيمة «التضحية والأمل».استطاع «نولان» إخراج شخصية «باتمان» من إطار البطل الخارق الذي يحطم ويفجر ويصنع المستحيل، إلى إطار الإنسان الذي يبتغي الخير، والرمز الذي يمثل التضحية، ويبث الأمل في نفوس مجتمع يرزح تحت نير الفساد والجريمة.

حقائق عن الفيلم

1. يعد «هيث ليدجر» الذي أدى دور «الجوكر»، أحد أفضل وأصغر من قام بهذا الدور. فما يزال الناس إلى يومنا هذا تتذكر أداؤه جيدًا، وسؤاله الأشهر في الفيلم «لماذا أنت جاد هكذا؟ – ?Why So Serious». كما يستخدم كثير من شباب مواقع التواصل الاجتماعي صورته في شخصية الجوكر صورة عامة في صفحاتهم.

2. توفي «هيث ليدجر» قبل عرض الفيلم في المسابقة الرسمية لحفل الأوسكار عام 2008 نتيجة سكتة قلبية، وفاز على الرغم من ذلك بجائزة أفضل ممثل مساعد.

3. أثناء التحضير للفيلم، أراد العديد من نجوم هوليوود لعب دور «الجوكر»، منهم «أدريان برودي» و«روبن ويليامز»، لكن استقر رأي «نولان» على «هيث ليدجر». وعندما سئل المخرج عن سر تمسكه بالممثل، أجاب ببساطة: لأنه خائف من الدور، هكذا سيعطيه أفضل ما عنده!.

4. فارس الظلام أول فيلم غير وثائقي يستخدم كاميرات IMAX، أحد أفضل كاميرات التصوير في العالم، ومن أعلاها تكلفة أيضًا. عند التصوير، كان عددها 4 كاميرات في العالم فقط، حطمت إحداها بالخطأ خلال تصوير أحد مشاهد العنف الثانوية.

5. يعتبر «كريستيان بيل» أصغر من أدى دور «باتمان»، حيث كان عمره 30 عامًا فقط عند بدء التصوير.

6. كان «هيث ليدجر» يضع لمسات الماكياج النهائية الخاصة بشخصية «الجوكر» بنفسه.

7. «كريستوفر نولان» هو المخرج الوحيد الذي أتم ثلاثية لشخصية «باتمان» على طول تاريخها السينمائي.

8. كره «كريستيان بيل» ملابس «باتمان» كثيرًا، حيث أحس أنها تقيد حركته وحريته في التمثيل، وهو ما انعكس على أدائه الصوتي في الفيلم!.

9. كان الممثل «هيو جاكمان»، الشهير بأدائه لشخصية «وولفرين»، الأقرب إلى لعب دور «هارفي دينت» المدعي العام، كما شارك «كريستيان بيل» بطولة فيلم «الهيبة – The Prestige» لـ«كريستوفر نولان» من قبل، لكن الدور أسند إلى الممثل «آرون إيكهارت» في النهاية.

10. كان يفترض ظهور «هيث ليدجر» بشخصية «الجوكر» في آخر أجزاء الثلاثية، لكن القدر لم يمهله، فاتخذ القائمون على الأمر قرارًا بحذف شخصية «الجوكر» من الجزء الثالث تمامًا.

11. يعد فيلم «فارس الظلام – The dark knight» من الأفلام النادرة التي تعلق فيها شخصية ثانوية بأذهان الناس، وهي «شخصية الجوكر»، إلى درجة أن الشخصية المحورية –باتمان– قد لا تخطر على الأذهان إلا قليلًا.

12. تموج في جنبات الفيلم موسيقى تصويرية رائعة، تعاون فيها اثنان من عمالقة الموسيقى التصويرية في العالم، هما «هانز زيمر» و«جيمس نيوتن هاورد»، في سابقة تحسب للفيلم وصنّاعه.

هذه أول مرة أشاهد فيها أحد أفلام ثلاثية «باتمان» دون الشعور بأني أشاهد أفلامًا رسوم متحركة، أو حبكة تقليدية، أو حتى مادة خام للتسرية والترفيه. أكبر دليل على حديثي هو احتلال الفيلم للمركز الرابع في قائمة أفضل 250 فيلمًا بالعالم، وهو الوحيد من بين أفلام الأبطال الخارقين الذي نال جائزتي أوسكار. هذا عمل يستحق المشاهدة عن كثب، ويعد مخرجه وكاتبه ومنتجه «كريستوفر نولان» أحد أعظم مبدعي هوليوود على الإطلاق!