صدرت المجموعة القصصية «مقهى»، للكاتب الفلسطيني «إبراهيم حمدان»، عن دار «سمير منصور» للنشر والتوزيع في غزة – فلسطين 2021. يُصنَّف الكتاب تحت بند القصص القصيرة، ويحمل في طياته 37 قصة قصيرة تتحدث عن المقهى وعن أحاديثه، بل يشمل أيضًا صمته المنسي ورفقته الدائمة للحيارى والحُزن.

يتمكن الكاتب من كسب دهشتك فقط من إهدائه الذي يقول:

إلى كل من عثرت عليه قصة.

قد تكون هذه الجملة بحد ذاتها قصة قصيرة. منْ منّا لم تعثر عليه قصة، بل وعاشها بكل عنفوانها واضطراباتها، بل وفي أسوأ الأحيان حزنها وجبروتها! نحن قصة متحركة نتنقل بين الأيام كومضات سينما الأبيض والأسود في قاعة كبيرة مكتظة هي الحياة؛ تضربنا يمينًا ويسارًا، نتقهقر ونحزن. وقد ننطفئ أو نرحل ولربما يتم هجرنا أيضًا. لكن رغم كل ذلك تقف القصص شامخة وشاهدة علينا جميعًا ومتسلحة بكل ذكرياتنا وندوبنا.

كل مكان صالح لأن يصنع قصة، حتى المقهى! وهذا ما تم سرده في هذه المجموعة القصصية بذكاء. حيث تناول الكاتب إنسانيتنا وتساؤلاتنا، وحتى بقايانا ورفاتنا المتحلل بفعل الماضي! والأشرس أنه وضعنا في مواجهة أنفسنا حين كتب في قصة «بعد الإشارة الصوتية»:

ماذا عن تلك الرغبة التي تدفعنا لمحاسبة الآخرين على خياراتهم إن رفضونا أو قبلونا، إن تمسكوا بنا أو تركونا في منتصف الطريق؛ ليكملوها مع شخص آخر؟ ما بالنا نحاسبهم وقد كنا مكانهم نملك نفس الخيارات ولا نقبل أن يحاسبنا أحد؟

ينتقل الكتاب بسرد سلس بين قصص عدة تبدأ بقصة «أيقونة الحرب»، التي ما كفت عن وسمنا بكل الكوابيس والشهقات، وحتى أنها تمادت وأصابت معظمنا بحساسية الضوضاء التي تجعل قلبك يثب متأهبًا فقط من صفقة باب، وصولاً إلى قصة «بقايا»، التي تثير فينا شهوة الفرح بالأشياء شديدة البساطة.

يستمر الكاتب باعتلاء القصص ونسجها واحدة بواحدة، وموزعة على عواطفنا الإنسانية العميقة كالحب مثلاً، وكأن الحب مجرد «فارق توقيت!» (إحدى قصص المجموعة)، أو كأن تستعمر رأسك كل أفكار المجرات والعوالم مجتمعة، فقط في خمس دقائق رغبت أن تغمض عينيك فيهما، علّك تتنفس بعمق وتستريح من الحياة بإغفاءة عجولة.

الليل يُعرِّي الوقت والحياة وكل مشاعرنا، هو جلّادنا أمام الزفير، كما أنه من رواد المقهى المنسيين الدائمين المُعتَرَض عليهم دومًا بالإنارة الكهربائية. وعليه فإن هناك «طاولات مسائية منسية»

،

يتساءلن عن الاحتراق والظل وحتى التكيف في قارورة الحياة الخانقة. فتقول «طاولة (1)»:

هل ترضى أن تحترق؟ هل تطيق أن تبقى في الظل؟

وفي
مقاربة أخرى عن الحب يقول الشاعر العراقي «عدنان الصائغ»:

كغريبين، معًا… مرّا… وافترقا… رجلاً يتسكع وامرأة محترقة.

هل تختار المرأة الاحتراق في الحب، أم أنه أثر جانبي للعشق أو للتسرع؟

يطرح الكتاب تساؤلاً عميقًا عن فكرة التكيف. فهل حقًا أن الإنسان يعتاد على كل شيء؟ ومن السهل التكيف ضمن الحدود التي يفرضها إطاره أو أيديولوجيات معينة ينتمي لها. هل الحياة فقط عبارة عن تأقلم وانتظار الأيام لتمر كسابقتها في دائرة مفرغة كي لا يتألم الإنسان؟ منْ منّا حقًا يُمزِّق إطاره ويدفعه بعيدًا ليرى على الأقل هذه المرة بدون شوائب؟ منْ منّا مستعد كفاية لأن يبحر عكس التيار المتفق عليه ويخرج من الظل إلى النور؟

الحزن الجذّاب والمؤجل لا يستوطن سوى العيون أو القلوب إن ثقلت. ولا يمر ولا يشفى. يبقى فقط «ندبة منسية»لا يستشعرها إلا مُنصِت وشريك بالجريمة. فالحزن إن حفر الروح ندبًا، يكون قد ارتكب جريمة عظمى كالقتل بل أشد! وبالذات إن كان هذا الحزن الجذّاب بفعل خيبة الحب! يا لسوئها من خيبة ويا له من جُرح غائر لا يكتفي بالندب بل يمتص الروح.

يقول
الكاتب ببساطة الراوي واحتراق الملتاع:

سقوط المُغرمين يأتي قاتلاً أحيانًا.

وإن تكلل بالغياب فإن احتراقه مستعر وظاهر، فيقول في حفلة الشتاء التي تقطن بحة أصوات الناس جميعًا وبالذات روّاد المقاهي:

إنك هناك وهنا، وأينما كنت، فأنت ترفع نصيبي من الحزن، وأنني لا أعلم ما تفعله في الغياب الآن، رغم أن فعل غيابك فيَّ ظاهر غير خافٍ.

الحزن كان طاغيًا على قصص الكتاب. ربما لأن الحزن هو العاطفة الوحيدة الحقيقية، أو لأنها أطول العواطف عمرًا بعد الوصب. فما بين حزن جذّاب وندوب ظاهرة، كانت وحدها الحقيقة باقية وشامخة، تسأل كل عواطفنا وتجلد انكساراتنا وصمتنا في وجه الحياة. كأنها أمنا حين حفّزتنا لنخطو أول خطواتنا، ثم نتعثر بالغياب فننضج أكثر، تمامًا كالقهوة، إن كثر هيلها في شتاء بارد ومُنصِت.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.