الكتابة الجديدة هي ثمرة من ثمرات معرفة الذات، وحسنة من حسنات الصدق من النفس، وهي أعلى مراحل الاجتهاد المفضي إلى معرفة جديدة؛ تكون نافعة ومفيدة. بهذا المعنى تخرج أنواع الكتابة الأخرى عن معنى التجديد، وتظل ترزح في مربط التقليد، مهما ادعى أصحابها غير ذلك. وقد ظهرت «الكتابة الجديدة» عند المستشار طارق البشري – طيب الله ثراه – بعد سنوات من المراجعات ونقد الذات، على نحو ما بينا في

مقال سابق

نشره موقع «إضاءات».

لم يكن المستشار البشري وحده عندما خاض تجربة نقد الذات التي أوصلته إلى الكتابة الجديدة، وإنما كان معه آخرون من كبار المثقفين المصريين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومنهم: الدكتور مصطفى محمود، والأستاذ عادل حسين، والدكتور محمد عمارة، والأستاذة صافي ناز كاظم، والدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمهم الله جميعاً. وقد سبقهم في النصف الأول من القرن العشرين على ذات الدرب ثلة من كبار المثقفين أيضاً، ومنهم: محمد حسين هيكل، ومنصور فهمي، وأحمد أمين، وعباس العقاد، وطه حسين.

كانت هزيمة يونيو في سنة 1967م سبباً رئيسياً لتشجيع نزعة «العودة إلى الذات» – بتعبير علي شريعتي – في أوساط النخب الثقافية والسياسية المصرية والعربية والإسلامية عموماً، وبخاصة في أوساط النخبة ذات التوجه العلماني. وأقول «النخبة في قسمها العلماني»، للتنبيه على واحدة من مغالطات العلمانيين المتطرفين في بلادنا، وهي أنهم يحصرون مفهوم «النخبة»، بل مفهوم «المثقف» في أصحاب التوجه التغريبي العلماني وحدهم، في حين أن هؤلاء لا يمثلون إلا قسماً من أقسام النخبة الثقافية والفكرية المصرية، والحال هو الحال على المستوى العربي والمستوى الإسلامي، أما بقية أقسام النخبة فهي تشمل بالدرجة الأولى: النخبة الأزهرية ذات الثقافية الإسلامية الموروثة، والنخبة الإسلامية الحديثة ذات التكوين المعرفي الحديث، وكذلك النخبة الأدبية التي تحافظ على التراث وفنونه العربية الأصيلة، والنخبة الفنية التي تحمل رسالة الفن وتحترمها.

كان طارق البشري – في فترة من حياته – واحداً من تلك النخبة الفكرية العلمانية التي خاضت عملية المراجعة الفكرية ومارست النقد الذاتي، وأعادت تنظيم أفكارها وفقاً لأسس نظرية ومعرفية إسلامية أصيلة.

وإذا تعقبنا تاريخ أفكار المستشار البشري، فسنجد أنه شرع في إنتاج «كتابة جديدة» بعد أن انتهى من نقده لذاته، وبعد أن اكتملت هجرته من المرجعية العلمانية التجريدية، إلى المرجعية الإسلامية الإيمانية. وظهرت أول كتابة جديدة له في مساره المعرفي الإسلامي لأول مرة في سنة 1979م، وكان ذلك في موضوع بعنوان: «رحلة التجديد في التشريع الإسلامي»، وقد نشره في مقال بمجلة العربي الكويتية (عدد مارس 1979م) ثم أعاد نشره في كتابه الموسوم: «في المسألة الإسلامية المعاصرة: الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي»، الذي أصدرته دار الشروق بالقاهرة في سنة 1996م (ص39-49). وتبدو أهمية هذا المقال من السياق الذي ظهر فيه، ومن الفكرة المركزية التي تضمنها.

ظهر المقال المشار إليه في سياق احتدام الجدل حول الشريعة الإسلامية في داخل مصر وخارجها، وكان ذلك الجدل مصحوباً وقتها بالمطالبة بتطبيق أحكام الشريعة وجعلها المصدر الرئيسي للتشريع، وكان ذلك كله في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس السادات والسنوات الأولى من عهد مبارك. وكانت الفكرة الرئيسية لهذا المقال هي: إثبات صلاحية الشريعة لمعالجة إشكاليات الواقع المعيشي المعاصر. وقد برهن المستشار البشري على هذا بما جرى من تجديد في المجال الذي تُرك للشريعة دون أن تقتحمه القوانين الوافدة منذ الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري/أواخر القرن التاسع عشر، وهو مجال الأحوال الشخصية، والوقف، والوصية، والميراث.

وانتهى في هذا المقال إلى: أن التجديد في عملية التشريع الإسلامي قد جرى باطراد في مصر – منذ نهايات القرن التاسع عشر – بما «يتمشى مع العصر من خلال الفقه الإسلامي نفسه». وأكد أن حركة التجديد كانت ستفضي إلى إيجابيات كثيرة لو أنها واصلت سيرها إلى مجال «المعاملات»، غير أن هذا المجال تم اقتطاعه من الشريعة بإحلال القانون المدني الفرنسي محلها، وذلك منذ بدء سريان هذا القانون في سنة 1254هـ/ 1883م.

وقبل مقال «رحلة التجديد في التشريع الإسلامي»، كان قد انتهى من كتابةِ مقالٍ آخر، ولكنه لم يظهر منشوراً إلا بعد أن نشر مقال «رحلة التجديد…»، بحوالي عامين؛ أي في أبريل/نيسان 1981م، وهو بعنوان: «ثلاث ملاحظات عن حركة الديمقراطية في مصر»، وقد أعاد نشره في كتابه «دراسات في الديمقراطية المصرية»، وقد صدرت منه عدة طبعات، منها طبعة دار الشروق في سنة 1987م، وطبعة دار مدارات للأبحاث والنشر في سنة 2016م. وتجلى في فصول هذا الكتاب أن المستشار البشري قد أعاد تنظيم أفكاره وأعاد صوغ «معيار» النظر لديه على الأحداث التاريخية بعامة، وما شهدته مصر في تاريخها المعاصر بخاصة، وذلك عبر آلية النقد الذاتي التي أعملها – بكل صرامة – في عدد من أهم المسلمات الفكرية والسياسية التي كانت سائدة، وبخاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات، وكان هو نفسه يؤمن بها في تلك الفترة.

في هذا المقال انتقد مقولة «تلازم الصلة بين الاستقلال الوطني والديمقراطية»، وذهب إلى أن هذا التلازم ليس حتمياً، وذلك بخلاف ما كانت تؤكده الكتابات السياسية المبنية على أسس الفكر الاشتراكي-الماركسي. واستدل على رأيه الجديد بما أسفرت عنه حركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين؛ حيث سادت البلدان العربية أنظمة استبدادية وشمولية عقب الحصول على الاستقلال والتحرر من الاستعمار العسكري، وتمت التضحية بالديمقراطية والحريات العامة.

انتقد المستشار – أيضاً في هذا المقال – مقولة «وجود علاقة غير منفكة بين تيار فكري عام، وبين قوة اجتماعية محددة». وذهب إلى أن هذه المقولة يعيبها أنها تسقط من حسابها المكونات الفكرية التاريخية للشعب، وأنها تتجاهل أن الفكر يعمل في البيئة الاجتماعية والسياسية، ولا يعمل في فراغ، ويعيبها كذلك أنها تتجاهل الحركة التلقائية للجماهير، وتحصر نفسها في «النخبة» وحدها. وانتهى إلى بلورة مفهومين من أهم المفاهيم التي تدلنا على ما حدث من تطور في فكر طارق البشري الجديد، وهما: «الموروث» و«الوافد».

أما مفهوم «الموروث» فهو يعني بحسب المستشار البشري:

الفكر الذي عشنا به اثني عشر قرناً، وضم برحابته تاريخاً طويلاً بحضارته ونهضته حيناً، وبانحداره وجموده حيناً… وليس من المسلم به أن هذا الموروث هو سبب ما عانينا في القرون المتأخرة، وجهود الإحياء المعاصرة لجوانب هذا الفكر تكشفُ عن أن التسليم بذلك أبعد عن الحقيقة.





دراسات في الديمقراطية المصرية، دار الشروق، ص254

أما مفهوم «الوافد» فقصد به: الفكر الذي جاء في ركاب الاستعمار الأوربي، الذي دهمنا في فترة الركود والوهن، وانكسر المجتمع أمام غزوته السياسية، والاقتصادية، وانزرع هذا الفكر في البيئة المحلية بمدارسه المختلفة الرجعية، والمحافظة، والتقدمية… إلخ. (دراسات في الديمقراطية المصرية، ص254).

أصبح هذا الزوج المفاهيمي «الموروث» و«الوافد» مقولة تفسيرية تنسب إلى المستشار البشري وحده دون غيره، كما أصبحت هاتان الكلمتان أداة أصيلة لإنتاج معرفة جديدة، وباتت منظوراً نقدياً رصيناً وموضوعياً مستقيماً. وأضحى هذان المفهوان كذلك من الكلمات المفتاحية الأساسية في فهم جانب كبير من البناء الفكري الجديد المرتكز على المرجعية المعرفية الإسلامية عند المستشار طارق البشري.

ولم يكن غريباً أن هذين المفهومين «الموروث والوافد» صارا في الوقت عينه من أكثر المفاهيم التي نالت هجوماً من العلمانيين الماركسيين والليبراليين في آن واحد، وقد عرفنا في

مقال سابق

جانباً من هذا الهجوم في مناقشته لأحمد صادق سعد في ندوة: «تاريخ مصر بين المنهج العلمي والصراع الحزبي». وكان مبعث قلق هؤلاء وأولئك أن المستشار البشري بوصوله إلى هذين المفهومين قد أمسك بأداة تحليلية رصينة مكنته من تفنيد أفكارهم وتعريتها تماماً، ومكنته من كشف تهافت منطلقاتهم الفكرية وعدم جدواها في الواقع الاجتماعي المصري.

انتهى المستشار البشري في كتاباته الجديدة التي توالت بعد ذلك إلى عدد من المقولات النظرية والتفسيرية المهمة؛ ليس في بيان تطوره الفكري والسياسي وحده، وإنما في بيان معالم التطور الفكري والسياسي الإسلامي المعاصر بصفة عامة، وفي مطالع القرن الخامس عشر الهجري بصفة خاصة (العقدين الأخيرين من القرن العشرين).

وتجلت اجتهاداته في كتابته الجديدة التي صدرت في سلسلة من حلقات تحت عنوان ثابت هو: «في المسألة الإسلامية المعاصرة»، وعناوين فرعية لكل حلقة منها، مثلاً: «منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي» (2005)، و«ماهية المعاصرة» و«الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي» و«الحوار الإسلامي العلماني» و«الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر» (كلها صدرت عن دار الشروق في سنة 1996م) و«بين العروبة والإسلام»، و«بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية» (صدرا عن دار الشروق في سنة 1998م)، ثم صدر له كتاب «اجتهادات فقهية» (دار البشير للثقافة والعلوم، 2017م). ثم صدر له كتاب «التجدد الحضاري» في سنة 2015م، وصدر له أيضاً كتاب «نحو إسلامية المعرفة في الفكر السياسي المعاصر» عن دار مفكرون الدولية للنشر في سنة 2019م، وصدرت له كتب أخرى عن جهاز الدولة المصرية، وعن الدولة والكنيسة، وعن القضاء المصري، وعن ثورة يناير، وعن «التجدد الحضاري»، وغيرها من الكتابات التي تناولت القضايا الكبرى، وكان ختامها مسكاً بصدور كتابه «حوارات مع طارق البشري».

كان من أهم المقولات النظرية التفسيرية التي قدمها المستشار البشري في كتاباته الجديدة، مقولة: «الاستقلال الحضاري»، وهذه المقولة – حسب ما يستفاد من كتاباته – تحمل كثيراً من المعاني والتفصيلات المتعلقة بالأبعاد السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية والثقافية، وثيقة الصلة بالمجتمع ونظمه ومؤسساته.

«الاستقلال الحضاري» عند طارق البشري هو: الإطار الأوسع الذي يجمع بداخله «الاستقلال الوطني»، وهو «معيار هوية الاستقلال الوطني ذاته». وقد ذهب إلى أن مصدر تميز الهوية هو: «الذات الحضارية»، وأن أصل هذه الهوية هو «الإسلام» (ماهية المعاصرة، ص9، وص10). وقد وضح لديه هذا المعنى تمام الوضوح، وعبر عنه في دراسة له بعنوان «نحن بين الموروث والوافد»، التي قدمها في سنة 1983م، وقال فيها:

وضع المسألة في تصوري: أنه في البدء كان الإسلام عقيدة، ورابطاً سياسياً، وثقافة شاملة مستوعبة؛ محيطة لمناحي التعبير والنشاط الذهني، وللنظم والسلوك الفردي والاجتماعي، وهذه بداية لتاريخنا الحديث صحيحة من ناحية الواقع التاريخي … وهي ينبغي أن تكون المسلمة الأولى والمشروع الأول. ثمة عقيدة تقتضي الانتماء، وثمة كيان حضاري انبنى عبر السنين، وهو بحسبانه كياناً حضارياً لجماعة ممتدة عبر التاريخ، يشكل هوية وشعوراً بالانتماء والتجانس لهذه الجماعة ومميزاً لها عن غيرها، ومن ثم فهو الميزان وليس الموزون فيما تأخذ الجماعة وما تدع.





ماهية العاصرة، ص10

ومنذ ذلك الحين – منذ مطلع القرن الخامس عشر الهجري، بداية الثمانينيات من القرن العشرين – طفق المستشار الجليل يؤكد أهمية إدراك ما جرى في بلادنا من اصطراع عقائدي فكري بين «الموروث» و«الوافد»؛ وذلك في سياق المواجهة الشاملة التي جرت – ولا تزال تجري – بيننا وبين الغرب على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين تقريباً. وهو بذلك قد أضاف ضلعاً ثالثاً ورئيسياً إلى نظريته في فهم تاريخنا الحديث والمعاصر، وهو ما عبر عنه بـ«الصراع العقائدي» (الحركة السياسية، مقدمة الطبعة الثانية 1983، ص43-46) إضافة إلى جهاد الحركة الوطنية ضد الاستعمار الأجنبي من أجل الاستقلال الوطني، وضد الاستبداد الداخلي من أجل الديمقراطية وضمان الحريات الفردية والجماعية.

وراح – منذ ذلك الحين أيضاً – يوظف مفهومي «الموروث» و«الوافد» كمفهومين تحليليين في تناوله لموضوعات شتى، تناولها في كتاباته التي ظهرت ابتداءً من سنة 1400هـ/ 1980م. ومن تلك الكتابات: دراسة بعنوان «الخلف بين النخبة والجماهير إزاء العلاقة بين القومية العربية والإسلامية» (ديسمبر 1980م)، وكتابه الضخم الذي صدر في سنة 1981م، بعنوان «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية»، وبخاصة الفصول الأخيرة منه. وفي فبراير سنة 1983م، قدم دراسته التي أشرنا إليها سابقاً بعنوان «نحن بين الموروث والوافد». ومقال بعنوان: «الأوضاع الثقافية للحوار». وقد ظهر هذا المقال كمقدمة لتقرير «حال الأمة سنة 1994م»، وتلى ذلك في سنة 1995م بحثٌ بعنوان: «منهج النظر في دراسة القانون مقارناً بالشريعة» … إلخ.

وفي عدد من بحوثه الأخرى، وفي بعض محاضراته العامة أيضاً، صار يؤكد بشكل مكثف على معنى «المرجعية الإسلامية»، في مقابل «المرجعية العلمانية». وقصد بالأولى أنها: «منهجٌ ينظرُ إلى الإسلام بوصفه أصل الشرعية، ومعيار الاحتكام، والإطار المرجوع إليه في النظم السياسية والاجتماعية وأنماط السلوك»، بينما «المرجعية العلمانية» تعني «إسقاط هذا الأمر، والصدور عن غير الإسلام، وعن غير الدين في إقامة النظم، ورسم العلاقات، وأنماط السلوك» (الحوار العلماني الإسلامي، ص8). واستفاض في شرح كيف أن التوجه العلماني في أسسه المعرفية «يسلبنا هويتنا، ويفقدنا الانتماء لأمتنا وحضارتنا».

وعلى هذا المستوى من التأصيل النظري، والتأسيس المعرفي، أتت كتابات أستاذنا البشري جديدة بالمعنى الحصري للكلمة؛ بدءاً من مشرق القرن الخامس عشر الهجري، بداية ثمانينيات القرن العشرين الميلادي. وهي في مجملها تقدم إسهامات رصينة – مفعمة برحيق القرآن – في بناء النظرية الإسلامية المعاصرة؛ في مجالات الفكر، والقانون، والتشريع، والسياسة، والاجتماع، والثقافة، والأخلاق، والتاريخ.