شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 78 أقمت في هذا البيت فترة طويلة. أمضيت أيامي في الغرفة التي عيّنوها لي بمشاعر ضيف يجب أن يكون خفيفًا. وددت ألّا يشعر بي أحد. أقضي الوقت مُتطلعًا إلى الفضاء خلف البيت. هناك حيث مساحة خالية بها نخلتان وتوتة وشجرة كافور. يُحيط بالبيت سور تهدّمت حوافه. أراقب الأولاد يتسلقون السور ويعبرون إلى الداخل. يلتقطون أشياء صغيرة، أوراقًا وحشرات، وبعض البلح غير الناضج. لم يحدث أن شعروا بي. كانوا تسليتي. يتطلعون إلى النافذة المفتوحة كأنهم يحدسون وجودي، لكن لا يبدو عليهم الاقتناع بأن هناك شخصًا يراقبهم. أهل البيت تحمّلوا وجودي لأنني «قريب»، لا يمكن التخلص منه. أشعر كل يوم أنهم ينتظرون رحيلي، حتى الخادمة الصغيرة التي تتطّلع لي كل يوم، بصينية عليها غذائي في مواعيد الطعام، لم تعد تبتسم في وجهي، كما كان يحدث في الأيام الأولى، ولم تعد تتحدث معي. تترك الصينية مغطاة بقطعة من القماش الأبيض وتمضي. في الأيام الأخيرة بدأت تنظر إليّ نظرة استطلاع كأنها تسأل بتعجب: لم لا أرحل؟ لم لا أسافر وأعود من حيث أتيت؟ لا أعرف طبيعة ارتباطي بهذا البيت، ولماذا بقيت فيه تلك المدة، ومتى ستنتهي إقامتي. كان الأمر غامضًا؛ لمَ كان هذا البيت، دون كل البيوت، هو المكان الذي استرحت فيه وتركت نفسي لجاذبيته؟ ربما لو عرفت لكفّ الغموض، ولا يعود هناك أي مبرر لبقائي. سوف أجد نفسي أحزم حقيبتي وأرحل دون أن يطلبوا مني. لكنني لا أعرف، وغير قادر على اتخاذ قرار الرحيل، لذلك تركت الأمور تُسيِّر نفسها. في الصباح أدخل الحمام. تلك أصعب لحظات يومي، فلا يعلن وجودي عن نفسه في غير تلك اللحظة. أشعر بالقلق من حركتي، حتى أنني رغبت أن أحبس وجودي حتى يتحول إلى أنفاس إلى هواء، لكي أطيل فترة وجودي هنا. أشعر بالأسئلة الصامتة تحيط بي، سائلة في الصمت، وفي صوت السلم الخشبي الذي يقود إلى الطابق الثاني حيث تقع غرفتي في نهاية ممر طويل؛ الأسئلة عن مدة بقائي ومتى أغادر. رغم القلق الذي سبّبته لي هذه الهواجس، فلم أكن قادرا أبدًا على اتخاذ قرار الرحيل، ولم يطالبني أحد بالرحيل، وظل الأمر مُعلقًا. في بعض الأحيان أسمع سيدة البيت تقول ناهرةً زوجة ابنها، بأنه لا يصح أن تتكلم بهذا الشكل على ضيف له مكانتي، فرع من شجرة العائلة، ولا يصح أن يطلب منه أحد الرحيل. علينا أن نحترم إقامته. كان يمكن للكلمات التي تقولها سيدة البيت بصدق وبإصرار، أن تُهدِّئ من قلقي، أن تساعدني وتطمئن وجودي، فهناك على الأقل من يدافع عني ويعتبر وجودي هنا من حقي، لكن ذلك لم يُخفِّف توتري. ففي كل صباح تنتابني نفس المخاوف، أن أجد أحدهم يطلع إلى الطابق الثاني، ويقول لي جهّز حقيبتك وغادر البيت من فضلك، فلو حدث ذلك ستكون معضلة كبيرة، فليس لي أي مكان أذهب إليه الآن. ذات يوم سمعت زوجة الابن تقول متعجّبة: كيف يمكن لإنسان أن يعيش في مكان واحد مائتين وعشرة أيام. عرفت في تلك اللحظة أنني أمضيت هنا سبعة أشهر. الأمر مُخيف، وبدا مجرد ذكر عدد الأيام مُحيرًا، الرقم مُقلق في حد ذاته، ويطرح السؤال الذي ظل مُضمرًا طول الوقت: متى أرحل؟ كان ذلك أول الشهر، على ما ظننت، لأنه يعني أنها لم تحسب الأيام الإضافية للشهور التي تزيد عن ثلاثين يومًا. أصبح الأمر مخيفًا، وبدا السؤال مشروعًا بالنسبة لي أيضًا، كيف تحملت هذه الأيام وحدي؟ وهل يمكنني أن أتحمل أكثر من ذلك؟ ورغم أنني أدركت الخطر في الموقف الجديد، الذي كشف لي أن شخصًا يعد لي أيام وجودي، وأنني لا بد أن أتصرف. كل يوم أقضيه هنا، مُسجَّل؛ يعده عدّاد في ذهن أحدهم. سوف يزيد التعجب، ويثير الظنون في صحتي العقلية، ويزيد موقفي غرابة، وبصراحة فإن تراكم استغرابهم من وجودي لن يجيء خير من ورائه، وفي النهاية سوف يؤدي إلى المخاوف، ربما الرجل مجنون أو هارب من جريمة، وأي سبب مُتخيَّل حول رجل لا يخرج من غرفته ولا يرى الطريق لمدة مئتين وعشرة أيام، سيكون معقولًا. رغم كل ذلك لم أكن قادرًا على اتخاذ القرار، بل كل يوم يزيدني التصاقًا بالمكان، ويُوقعني في وهم أنني وجدت مكاني، وأنني لن أخرج منه بإرادتي، رغم أنني في بعض الليالي، فكّرت بهدوء في أنه لا يجب أن أترك وجودي يضغط على هؤلاء الناس الذين تحملوني فترة طويلة. يجب أن أترك لهم بيتهم وأرحل. في تلك الليالي كنت أعدّد في ذهني عددًا من الأقارب الذين يمكن أن تمنحني بيوتهم حسًا طيبًا مُماثلًا، وربما أكثر جاذبية، منْ أدراني؟ وأن وجودي هنا يحرمني من فرصة العيش في بيوت أخرى، وتجربة مناخات أخرى. في بعض الأحيان يأخذ التفكير في الرحيل شكلًا جادًا. ويبدو لي أنني في الصباح سأجد نفسي وقد حلت فيّ القدرة على أن أحزم حقيبتي، وأغلق الغرفة والنافذة، وأنزل السلم، أقابل بنفس الاحترام سيدة البيت وأشكرها على تحملها لي ثم أستأذنها في الرحيل. لكن في الصباح، تأخذ العادة مجراها، ولا أكون قادرًا على ذلك، بل لا أكون قادرًا على تصور الأمر برمته، وأرى بالفعل أنها كانت أحلام ليل، وفي بعض الأيام أراها ساذجة، وأسخر من فكرة الرحيل، وأتعجب كيف توهّمت أنني أمتلك القدرة على ذلك. وبدلًا من ذلك أفكر في حل بديل، مثل أن أخفّف قليلًا من التعجب من حبسي لنفسي طول الوقت، بالخروج قليلًا، بابتكار مشاوير أو مصالح، وفكرت جديًا في الذهاب إلى هيئة المساحة والبحث في السجلات القديمة كما كنت أخطط قبل مجيئي إلى هنا، عن أصل البيت، وعن سلسلة التوريث التي أدت إلى أن يؤول هذا البيت القديم إلى هذا الفرع من العائلة دون غيره. المشروع القديم الذي قضيت سنوات طويلة أفكر أنني سوف أتمه، عندما أحُال إلى التقاعد، يصحو أحيانًا، لكن بوهن، وبطريقة لا تشير إلى أية نية جادة أو إرادة للقيام به. يصحو هذا المشروع أحيانًا كأنه يمكن أن يحل طرفًا من تعقيد وضعي، لكن أفكار النهار لا تختلف كثيرًا عن أفكار الليل، ربما أكثر واقعية ولكنها غير قابلة للتنفيذ أيضًا. تعقّد الأمر عندما سمعت الابن نفسه يسأل الأم إن كان الأوان قد آن ليرحل هذا الضيف، فقد أمضى ما يقرب من ثلاثمائة يوم هنا، لا ضيف يبقى في بيت مثل هذه المدة، وردت الأم كما ردت في المرة السابقة، بنفس القوة واليقين، بأن هذا الضيف له حق أن يبقى كما يشاء، وأكدت: حتى لو بقي طول عمره. ولم تُخفِّف العبارة من الضغط بل زادت ورطتي، فعدد الأيام التي تزيد كل نهار، سيُشكِّل ضغطًا على الأم أيضًا، ومهما كانت قادرة على الدفاع عني، فمن يضمن أن تزايد عدد الأيام لن يوهن عزيمتها؟ ثم منْ يضمن لي أنها سوف تعيش، فلو ماتت غدًا ما الذي سيبقى لي هنا؟ علي أن أساعدها وأفكر بجدية في مغادرة البيت. في الأيام التالية أصبح موضوعي المفضل هو التفكير في مغادرة البيت، أقضي فيه سحابة النهار، وأعدّد لنفسي بيوت الأقارب في نفس المدينة. أفكر في أقارب يقيمون في بيت قديم، له سور من الحديد مدهون باللون الأسود، تتسلّقه نباتات الأسيجة، وتفرش ورودًا شديدة الحمرة، كانت زيارتي لهم تتم أثناء الحرب الثانية، وكان عندهم فتاة صغيرة كنت أحب بسمتها، ورغبت أن أتزوجها، لكنها تزوجت مبكرًا ورحلت لتعيش بعيدًا. وفكرت في أقارب آخرين يقيمون فوق محلات عطارة في شارع ضيق تغمره الشمس في منتصف النهار، وتهيج رائحة العطارة فيبدو الهواء خانقًا، كأنني أتنفس غبار نباتات ميتة. وآخرون يسكنون في بيت شبه ريفي وعندهم حظيرة مواشٍ وحنطور. لكن الأمور لم تتعدّ التفكير، حتى سمعت أحدهم يقول ذات يوم: لا يمكن تحمل هذا، كيف يمكن لشخص أن يعيش في نفس الغرفة ثمانية عشر شهرًا؟ لم ترد عليه سيدة البيت، ولم أسمع صوت السلم، ولم أسمع شيئًا، وقضيت اليوم أنتظر أحدهم يطلع ويطلب مني الرحيل. قضيت اليوم مُنتظرًا أتابع الأطفال يتسلقون السور ويفتشون عن أشياء في حديقة البيت الذي يظنون أنه لا يسكنه أحد. (انتهى) قد يعجبك أيضاً المسلمون في كيبيك: 3 سنوات على مجزرة مسجد كيبيك الكبير كورونا: هل تحتاج الديمقراطية إلى بيريسترويكا؟ ساباث في الفضاء الانقلابات العسكرية في جمهوريات الموز شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram عادل عصمت Follow Author المقالة السابقة اجتهاداتُ الفقهاءِ في أحوالِ السُّفَهاءِ المقالة التالية وداعًا «شيرين أبو عاقلة»: دماؤنا تُخرِجُ الحي من الميت قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك اقتصاد «المولات»: الطريق الأسهل للاستثمار في مصر 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فلا اقتحم العقبة: كيف تقاوم رغبتك في الخلود إلى الراحة؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك قراءة في المدونة الإسلامية (2) 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مولانا جلال الدين الرومي والمغول 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «أنا أُحبكِ»: حين اعترف الإمام عليّ بحبه للزهراء 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كأنها نخبة: بين «جمهورية كأن» و«قريبًا من البهجة» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أبشع الجرائم: قتل المصلين والآمنين في مساجدهم ومعابدهم 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الأفلاطونية: قراءة في فكر النخب العربية المحافظة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ثنائية الفلسفة واللغة: رحلة الترجمة في الكلمات والأزمنة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك المقاومة هي الاستسلام: ما الذي يجب فعله حيال الرأسمالية 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.