شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 76 تدخل منزلها بمدينة نيس جنوب فرنسا، المكان مظلم تمامًا إلا من ضوءٍ خافت ينبعث من كمبيوتر محمول صغير، يصدح بصوت السيدة وردة، في عادة لم تستطِع أن تتخلى عنها منذ أن وطئت قدماها مدينة بيرني غرب فرنسا للمرة الأولى. محاولة طفولية لجأت إليها مروة، لكي تتغلب على خوفها من النوم وحيدة، فهي لم تعتَد على هذا الهدوء طوال حياتها، ولكنها تحسست طريقها في الظلام، فاليوم لا مجال للخوف، تنتزع من على يديها شارة بيضاء زينت بشعار نادي نيس، وعليها حرف (سي) كبير، في إشارة لكونها اليوم أصبحت كابتن نادي نيس لكرة اليد سيدات. تنظر إلى شارة الكابتن التي رافقتها للمرة الأولى منذ الصباح، وتبتسم في تحدٍ واضح، تحدٍ يليق بفتاة بدأت من مساكن زينهم على امتداد مجرى المياه القديمة جنوب حي السيدة زينب، حيث يبدأ الأمر كله، بداية ليست كالبدايات المعتادة. طفلة سمراء تشبه قريناتها كثيرًا في حي زينهم، إلا أنها تعلقت بكرة القدم في سن صغيرة، فلم تتوقف عن حب اللعبة فقط، إنما تطرقت لممارستها في الشارع وبمراهنات مالية صغيرة، إذا كان المشهد مثيرًا بالنسبة إليك فلتقترب أكثر، فالإثارة لم تبدأ بعد، دعنا نقف بجوار هذا الرجل الممتلئ ذي السترة الرياضية التي يعرف بها، يتابع المشهد في شغف كبير، عيناه لامعتان، وفمه في ابتسام دائم لم يحركه إلا بعد نهاية المباراة الصغيرة، موجهًا حديثه إلى الفتاة: اسمك إيه؟ * مروة. — بكره تعدي عليا في مركز شباب زينهم عارفاه؟ تسألي على مكان تدريب اليد، هتتدربي معانا من أول بكرة، ما تتأخريش. تنظر إليه الطفلة في بلاهة، تلتفت حولها قد يساعدها أحد على الإجابة، ثم تسمع اسمها يُهتَف به عاليًا من بعيد، فمباراة أخرى على وشك البداية، تدير ظهرها للرجل، وتنساه تمامًا وكأنه محض خيال. منزل بسيط في حي زينهم تجلس بداخله الأم بجوار واحدة من الجيران في مشهد معتاد يوميًا، ينتهي الحديث بينهما بأن طلبت الجارة من الأم أن تصطحب مروة معها لقضاء حاجة بالقرب من المنزل، تذهب معها مروة بعد أن أومأت لها أمها برأسها بالإيجاب، تقطعان شوارع زينهم في هدوء، وصولًا لمركز شباب زينهم، تنظر الطفلة عاليًا نحو وجه السيدة، فتباغتها بالرد قبل أن تسمع السؤال: — إيه مش عايزة تلعبي في الأهلي زي حنان؟ اللي عايز يوصل للأهلي لازم يبدأ من هنا. توقف إدراك مروة عند كلمة الأهلي، فمروة تعشق ثلاثة أشياء منذ أن ولدت؛ أمها، وزينهم، والأهلي. تفيق مروة من خيالها ذي اللون الأحمر الخالص على ذات السترة الرياضية التي قد قررت من قبل أنها من محض خيالها فحسب. – هي دي البنت اللي أنا كنت محتاجها بالظبط. * دي أخت حنان على فكرة. – مش ممكن! أنا بدور عليها من ساعة ما شُفتها، دي مولودة عشان تلعب يد. — منذ هذه اللحظة تحديدًا بدأت رحلة مروة؛ رحلة المصير. آه يا عشاق الحياة.. جمر الهوا جوا القلوب والع لو غاب قمر مليون قمر طالع.. يفتح سبيل في المستحيل. بدأت مروة الرحلة في مركز شباب زينهم، البداية عادةً هي أهم المراحل على الإطلاق، فبداية المرء تكسبه ما يلتصق به بقية رحلته، ومركز شباب زينهم أهدى مروة أغلى ما تملك في حياتها الرياضية إلى الآن؛ الصبر، والكفاح، والثقة بالنفس، والقدرة على تحقيق الإنجاز بأقل الإمكانيات. فلعب كرة اليد بمركز شباب زينهم أمر أشبه بالسباحة في أرض صحراء، لا مجال لديك إلا الحفر لكي تحصل على الماء الذي تسبح فيه، وملزم أن تجيد السباحة وتنافس من هم وُلدوا داخل الماء. بدأت أتدرب مع كابتن مجدي عبد السلام وكابتن أحمد زين، علموني إزاي أمسك كورة، الملعب كان أسفلت فكانوا بيجيبوا لنا مراتب عشان نطير عليها، هو مكنش في ملعب بالمعنى المفهوم أصلًا فكنا بنروح بير نجيب منه جير نخطط بيه الملعب بإيدينا وبعدين نتمرن. — مروة عيد، أثناء حديثها لـ«إضاءات». ظلت مروة عيد عبد المالك تلعب في المراحل السنية المختلفة لمركز شباب زينهم حتى عام 1997، عندما قرر النادي الأهلي أن تزامل أختها كابتن الأهلي في الفريق مقابل بعض الملابس الرياضية وكرات اليد لتبدأ الجزء الثاني من الرحلة. يفتح سبيل في المستحيل.. يا فجرنا يا سلسبيل.. مهما تغيب راجع. فتاة صغيرة أتمت عامها الرابع عشر، تم تصعيدها للفريق الأول لأول مرة؛ لكي تلتحق بمعسكر الاستعداد في رومانيا، المعسكر في الأساس تحضيري لبطولة أفريقيا للأندية، إلا أن قرار مشاركتها توقف عند حجم جسمها الضئيل مقارنة بباقي الفريق، إلا أن الصغيرة ظهرت بمستوى مبشر للغاية أثناء المباريات الودية فتقرر مشاركتها في البطولة. تلعب الفتاة الصغيرة بشكل مميز للدرجة التي قد تصيبك بالحيرة، هل هتاف المدرجات للاعبة صاحبة الرقم 40 (فالجماهير لا تعرف اسمها فكان الهتاف للرقم) تعاطفًا معها لصغر سنها وحجمها، أم اعترافًا من الجميع بأن نجمًا مشرقًا يُولد أمام أعينهم الآن؟ الأيام أثبتت دقة الاختيار الثاني، فالنجم زاد توهجًا في عامه السابع عشر، فأول مباراة للمنتخب المصري في بطولة أفريقيا أحرزت مروة سبعة عشر هدفًا تمامًا كأعوام عمرها ذلك الوقت، توجت هداف أفريقيا وأفضل جناح أيسر في البطولة. كل ما مضى هو حلم للجميع، لكن مروة كانت تدرك أنها على مقدرة بأن تذهب بأحلامها بعيدًا، أبعد حتى من أكبر نادٍ في أفريقيا والوطن العربي. يا ضحكة من نني العيون متمكنة.. كل المطارح ملكنا.. نرقص مكان ما نحب.. ونرقص الأحلام في حضن القلب. بدأ الأمر بالاختبار في أحد أندية ألمانيا، نادي بلومبرغ تحديدًا وبمساعد والدة إحدى الصديقات مدام دعاء عبد الباري، وصلت مروة إلى ألمانيا وقضت أسبوعًا في الاختبارات، لكنها كانت تبكي كل يوم، لا تستطيع أن تتفهم فكرة أنها تعود إلى المنزل فلا ترى وجه أمها وأخواتها، كانت في الثامنة عشرة فلم تستطع أن تستمر في ألمانيا أكثر من أسبوع، إلا أن هذا الأسبوع كان كفيلًا للنادي الألماني أن يرسل فاكس لإدارة نادي الأهلي بخصوص التعاقد مع مروة، إلا أن مروة رفضت وقررت أن تستكمل رحلتها في مصر. خمس سنوات أخرى نضجت فيها مروة تمامًا، فبعد أن نظمت مصر بطولة أفريقيا للمنتخبات استطاعت مروة أن تتألق وتحصد المركز الثاني بين هدافات البطولة، وقررت تمامًا أن هذا هو الوقت المناسب للاحتراف. مي عادل ومروة شوقي، دول صحابي اللي ساعدوني إني أحترف، عملوا لي (سي في) وحطوه على سايت تسويق لاعبين، وفعلًا جالي عرض من نادي في فرنسا اسمه أونيس لاروشيل، رفضت في الأول عشان نادي درجة تالتة، لكن بعد كده قلت مش مهم هسافر وأجتهد وأثبت نفسي وأحقق حلمي من هناك. — مروة عيد، أثناء حديثها لـ«إضاءات». لا تخطئه عين، تلك الهالة التي تحيط به تمتد إلى حد يصعب على المرء أن يقترب منه دون أن يشعر أنه في حضرة أسطورة حية، فالمرء لا يقابل أسطورته كل يوم، ما بالك بأسطورة كل الأجيال! دخلت مروة إلى مكتب محمود الخطيب بعد أن وصل العرض الرسمي من النادي الفرنسي إلى النادي الأهلي، ثم دار هذا الحوار: جالنا عرض من نادي في فرنسا طالبينك. * تمام يا كابتن. انتي حابّة تسافري؟ * ده حلمي يا كابتن، هبقى أول محترفة مصرية. — لو حبيتي ترجعي في أي وقت، مكانك محفوظ. * أنا عمري ما أقدر ألعب في مصر غير للنادي الأهلي، أو قبل ما أمشي همضي مع حضرتك عقد على بياض. يبتسم الرجل ثم يفتح راحة يديه المضمومة منذ بداية اللقاء، ويضع جنيهين فضة في يد مروة كتذكار شخصي من الأسطورة. مدّوا الخطاوي مشوارنا لسه طويل.. ومالوش بديل.. وكل خطوة ع الطريق قنديل. لم تنقذ إمكانيات مروة الفنية ولا طموحها الواسع من أزمة البدايات المرتجفة، ففي المباراة الأولى لها في فرنسا لم تقدم مستوى متميزًا، فهي لا تستطيع النوم بمفردها، مما يجعلها تسهر للصباح كل يوم، وما زاد الطين بلة أن الحظ عاندها في البداية، فكسرت يدها في أول مباراة لها، إلا أن القدر الرحيم تجسد لها في صورة عائلة جزائرية تعيش في فرنسا، استطاعت معهم أن تتغلب على أزمة بداية العيش في أرض غريبة. استطاعت أن تصعد بنادي أونيس لاروشي للدرجة الثانية خلال موسمين، حصلت في الموسم الأول على هداف الدوري بـ249 هدفًا، ثم كررت الأمر في الموسم الثاني بـ194 هدفًا، كما حصلت على أحسن صانع لعب في الموسمين على التوالي، أرقام كتلك لفتت نظر نادي نيس الفرنسي في الدرجة الأولى، فأتم التعاقد مع المصرية السمراء. ده بكره جايب نهار.. يستاهل المشوار.. وحلمنا لو ينضرب.. هنصد ونرد ولا بد يبقى المصير في اليد. فتاة مصرية سمراء ترتدي فستانًا وردي اللون، وتنظر في ابتسامة ثقة، تتوسط هذه الصورة الموقع الرسمي لنادي نيس الفرنسي لكرة اليد، تلك الفتاة التي بدأت من مساكن زينهم ووصلت لمدينة نيس، قررت أن تمتلك مصيرها وتحدده. مصر تعج بالآلاف ممن هم في إمكانيات مروة، إلا أنها وحدها كانت تمتلك الطموح اللازم لتحقيق أحلامها. صورة مروة عيد عبد الملك على الموقع الرسمي لنادي نيس الفرنسي. قصة مروة ليست قصة لاعبة كرة يد، قصة مروة هي قصة كل شخص فينا تنازل عن جزء من حلمه بسبب الإمكانيات، ثم عن بقية الحلم بسبب الظروف، وأصبحنا جميعًا نسخًا مكررة تحاول العيش مع بعضها البعض، ونسينا جميعًا أن كل شخص منا كان يملك حلمًا طفوليًا من الصعب الآن أن يتذكره. حسنًا، مروة تذكرنا جميعًا بأحلامنا، وتقول لنا ببساطة إننا المسؤولون وحدنا عن تحقيق تلك الأحلام أو التخلي عنها. مش قادرة أوصف لك مدى فرحتي إني شايفة حلمي بيتحقق، لعبنا الموسم اللي فات نهائي كأس الرابطة الفرنسية، طلعت على منصة التتويج، آه خسرنا في النهائي، بس بالنسبة لي الميدالية دي مجهود خمس سنين في فرنسا فاتوا وحلم من وأنا في مركز شباب زينهم إني أوصلها اتحقق. زينهم كلهم إخواتي وجيراني هما اللي مربينّي، أنا بطمن وأنا هناك الناس نفسها طيبة، الناس نفسها فيها كمية رضا غير طبيعية. أهلي عمرهم ما منعوني يوم أروح التمرين، التمرين ده شيء مقدس عندنا في البيت، لو في يوم هصحى بدري أمي أول واحدة بتصحيني وتنزل توصلني لمحطة الأتوبيس عشان أروح الأهلي، عمرهم ما قصروا معايا أبدًا دايمًا في ضهري لحد ما احترفت. كان حلمي يكون عندنا منتخب، ويكون فيه اهتمام وماتشات ودية ومشاركات عشان أحقق حلمي وألعب كاس عالم. الحياة دي هي أمي عايشة بيها وليها ربنا يديها الصحة وطولة العمر. — مروة عيد، أثناء حديثها لـ«إضاءات». مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً فيلم «A Hero»: معضلة الأخلاق عند «أصغر فرهادي» الحرب عبر فيسبوك: كيف تتلاعب روسيا بالمجتمع الأمريكي؟ من تاريخ الدول الإسلامية: كيف تفوق التلميذ على الأستاذ؟ عمر طاهر: العادي الذي يشبهنا شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram محمود عصام Follow Author المقالة السابقة الحرب عبر فيسبوك: كيف تتلاعب روسيا بالمجتمع الأمريكي؟ المقالة التالية ساندرو تونالي: رحلة على طريق مقعد الخلافة الوهمي قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك «باولو فريري» ملخص فلسفة التعليم والحرية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كن فرحاً سنموت غداً: سلوكيات الفراعنة في أوقات الأزمات 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رحلة عمرو دياب: من رصيف نمرة خمسة إلى القاهرة ونيلها 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحرافيش: حينما رأى نجيب محفوظ المهدي المنتظر 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحب والسلطة، أو الحب كإعادة ولادة للعالم من جديد 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك التوجهات الجديدة في تقنيات الويب 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الموقف الشعبي من حركة علي بك الكبير (1763-1773) 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «Only Yesterday»: دراما واقعية إنسانية مرسومة باليد 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك التاريخ العربي المُمزَّق… والانفكاك عن الواقع 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رقعة شطرنج — قصة قصيرة 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.