تلك الرواية بالتحديد –لأنها عمل متفرد- تمهلت أكثر من عام لأقرر قراءتها، دائمًا كنت أقول في نفسي «لست مؤهلًا لقراءتها»، ولا أعلم حتى بعد الانتهاء، إذا ما كنت على صواب أم على خطأ.

الذي يؤخرك عن قراءة عمل مثل هذا أن الكل يضع الرواية -كما يقول كونديرا- نوعًا من «الكيتش» وبالتحديد الكيتش الأدبي، بأن الرواية هي الأفضل وهي الأجمل، ولا أحد يجرؤ على الكلام أو الحديث عنها، تُعلِّق فقط كعلامة امتياز لمن يقرؤها، وترفض كل الآراء المجاهرة بأن الرواية لا تستحق فعلًا كل هذا الصخب.

كأن القراءة هي مجرد بديهيات المثقف العربي، وبدونها هو جاهل، وخصوصًا قراءة الروايات التي يُتفق على أنها الأفضل، وليس بمهم رأيه، المهم أن يُحصِّل ما يقدر من عناوين للقراءة تجمع بين الغرابة والشهرة.

إذن، الرواية هي وصول الإنسان لعالم ما بعد الحداثة، وأجزم بأن مجرد الادعاء بقراءة الرواية في وقت أقل هو محض هراء ولا ليس أقل من هراء، حتى لو كان الشخص محترف قراءة فقط، ويملك رصيدًا واسعًا من قراءات النقد والفلسفة والتاريخ وغيرها من الكتب، فنحن لسنا أمام سرد عادي، لأن قيمة ما تقرأ في «هضمه» وليس «اجتراره»، فالتجربة الإنسانية المسطورة أمامنا لا تؤخذ إلا بطواعية ذهن صافٍ وعقلية متذوق، لا عقلية متحفز للانتهاء من سباق ليس به أحد سواك.

وميلان كونديرا تعمَّد أن يكتب بشكل سردي يختلف عنما كتب سابقًا، ففي روايته «إدوارد والرب» هو يتحدث بكل ثقة ويسرد لك كما يريد بالطريقة المتعارف عليها (البداية، العقدة والحبكة، ثم النهاية)، وفي «حفلة التفاهة» يفرض الحوار مباشرة عليك بدون مقدمات.

لكن
هنا، الأمر يختلف.

منظور مختلف للحياة

ميلان كونديرا هنا يفرض عالمًا مكتملًا، وككل كاتب إمَّا أن يسعى للخيال ويرتمي بين أحضانه، وإما أن يشق الطريق الأصعب، بأن يُجلسك أمام الحياة وجهًا لوجه، بكل ما فيها من «ما بعد الحداثة»، لكن ولسبب وجيه، لم يتحمل ميلان كونديرا كل الحياة، فأخذ في تقسيمها وتنويعها وتفكيك كل جزئية فيها، بين أربع شخصيات (طبيب، فتاة ريفية بخبرة بسيطة في الحياة، فنانة رسامة، ودكتور جامعي).

لك أن تتخيل، ما حجم الحياة التي نعيشها الآن، وما هي الحياة التي تريد. هنا في الرواية، أنت لا تخرج عن هذين السؤالين، بل يُفرضان عليك فرضًا.

بين
الثقل والخفة التي لا تطاق، بين الجسد والروح، بين الحياة والحياة نفسها.

ميلان يغوص غوصًا في أعماق النفس البشرية، ويؤثِّر فينا بدون أن يُخل بعرضه الفلسفي الواضح. نلاحظ ذلك في كل كلمة في الرواية. فعلى سبيل المثال:

تلك اللحظة التي وافق فيها توماس على طلب تيريزا بعد كل المغامرات الجنسية التي كان يقوم بها بالذهاب للريف. كان جالساً على السرير ينظر إلى المرأة النائمة إلى جواره، والتي كانت تمسك بيده أثناء نومها، كان يشعر نحوها بحب لا يفسر.

يتمعن كونديرا في سرد الأحلام والهواجس بشكل لا يُصدق حتى لحظة التنبه من الأحلام، وكأنه يقول بكل وضوح: لا بد أن تعترف بالحب الذى يأتي لك بين يديك، فهو الحب الفعلي والحقيقي.

وكذلك لنتمعن ما قاله عن الخيانة كمثال صريح، فمثلًا شخصية «سابينا» التي لا تعترف بالزواج كإطار اجتماعي واضح، بل إن المرأة التي تنشأ في كنف أسرة متماسكة، تكره وجود كل هذا الثقل، وتبحث عن كسر المألوف -نرى ذلك تفسيرًا لذهنية المرأة لدى كونديرا باختياراتها غير المفهومة- فتترك فرانز خليلها وصديقها لأنه ترك زوجته.

لا أحد يقول إن النفس البشرية سهلة وسريعة الفهم لنا، بل إن الرواية تهدم بكل فلسفتها وتنظيرها الواضح محاولات «تأطير» النفس ووضع قواعد لها. خصوصًا وأنت في نظام حكم قمعي يُفرض عليك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة من روسيا، فالرواية هي قماشة كبيرة للمجتمع الأوروبي شرقه وغربه، بين المتناقضات الحية في التفكير وأسلوب الحياة، بين الانحلال وتفسخ الحياة جرَّاء الحروب والعذابات المتكررة في التمسك أو خيانة أوطان ليست بأوطان.

يمنح كونديرا القارئ آفاقًا غير محدودة وتحليلات كاملة عن العلاقات الإنسانية: الجنس، الحب، الخوف، الخيانة، الترقب، الأحلام، والأفكار بكل ارتفاعهم وانخفاضهم في شخصياته الأربع، إنها تعرية كاملة من كونديرا لكل ما هو ثابت ومستقر في الأذهان، فالداعر قد يحب، والساذج قد يتحكم، والمنطلق قد يكتفي، والذي يحق له الحب قد لا يجده بسهولة.

كل هذه الثنائيات والرباعيات -لا يوجد منطق التثليث إطلاقًا فيما كتب- هي عبقرية مطلقة.

العادة في النقد أمام رواية تنظيرية

الحديث عن تفاصيل الرواية -وتلك الرواية بالتحديد- عن شخصياتها وبناء الشخصية وتكوينها ونسج العالم المحيط بها: غباء تام. إذن، لماذا تسمى رواية إن تحدثنا عن تفاصيلها الكثيرة، في منطق الحداثة السائلة أو ما بعد الحداثة، ذلك العالم المخفي تمامًا عن أعين العرب؟ إن الأمر لا يستحق أن تحكم عليه بقواعد صماء، والذي يقرأ الرواية حاليًّا يقرؤها لأجل الاقتباسات التي بها فقط.

إذن
هل تستحق الرواية أن نضعها كل يوم باقتباس؟

هل تستحق منا نحن -من نسمي أنفسنا قُرَّاء ومثقفين- أن نسلك سلوكها ونفككها هي –كرواية- كل فكرة على حدة، وهو كاتبها قد جمع فيها ما استطاع، لأن الحياة هي أمر لا تحتمل خفته، ولا تتطلب تجزيئها وجبر مكنوناتها أمامنا، بالرغم من التفاهة والعدمية؟

ولا
يهم أن العالم المنسوج في الرواية يحمل كل التناقضات والمبادئ؟

هل سأقرؤها ثانية بعد عام أو عامين؟ تلك تساؤلات متروكة لمن يقرأ الرواية بتمهل. الرواية هي للكل وليست للفرد، لكن وبشكل عابر، أنت في المستوى الديكارتي، على أحد محاور الشخصيات، وتعقيداتها، وحواراتها اللامتناهية، اقرأها لتعرف مكانك فيها، ومكانك أمام ذوات مبهمة، وأمام ذاتك المبهمة هي الأخرى.

لعلنا كنا يومًا ما أو ما زلنا في عالمنا الحالي: كائنًا لا تحتمل خفته.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.