لماذا كل هذا؟ الشخصية الفذة، الصبر المتناهي، القراءة المتواصلة، العلم الغزير، سعة اﻹطلاع، التفاني في أداء الرسالة، النفس الطويل





د. طه محمود طه، مترجم رواية (عوليس) للغة العربية

لطالما تحدث جيمس جويس في أكثر من مناسبة عن حبه الشديد لأوديسيوس بطل ملحمة اﻷوديسة لهوميروس، أو كما يعرف في بعض اﻷوساط بيوليسيس أو عوليس، حيث كان يرى فيه مثلما صرح في إحدى المرات للكاتب والفنان التشكيلي البريطاني فرانك بادجن بأنه الشخصية اﻷدبية الأكثر اكتمالًا وجمعًا شاملًا لشتى التجارب البشرية بين كل الشخصيات اﻷدبية، مما جعله يضعها أمامه طوال مشواره مع اﻷدب كنموذج منشود.

وهو ما نراه في تطور فكرة تقديم شخصية أدبية على هذا النسق بداية من مقالة مدرسية مرورًا بالتفكير في كتابة قصة قصيرة تحتوي على شخصية كالتي ينشدها ووصولًا إلى الرواية التي بين أيدينا هذه، ومن هنا ولد ليوبولد بلوم الذي جمعه من شذرات شتى من شخوص حقيقية عرفها وسمع بها في دبلن ومزجها مع مئات الجوانب المتخيلة.

طوال فترة قراءتنا للرواية، ندرك أن جويس لا يحاول أن يحصر بلوم في مواصفات شكلية محددة وصارمة مثلما يفعل غالبية الكتاب، نحن لا نعرف شيئًا يذكر عن طوله أو وزنه أو ملامحه الجسدية أو الشكلية، لا يمكن لشخصية بثراء بلوم أن تُحصر في قالب، وإلا لبات من الصعوبة بمكان تمثلها من قبل القارئ، وسيكون هناك حاجز عال بينه وبين من يتابعه، لذا يجعلنا أكثر متابعين لقصة حياته – أو النسخة المكثفة والمركزة من قصة حياته- التي نعرفها شذرة بشذرة عبر تتابع الفصول.

ليوبولد بلوم رجل اجتمعت فيه البشرية بأكملها بكل تناقضاتها وجوانبها العديدة، على مدار هذا اليوم نرى هذا الرجل في معظم اﻷدوار الاجتماعية التي يعرفها البشر حتى يصير شخصًا متداخل الهويات دون أن تنسبه لواحدة بعينها ودون أن تحصره في أي منها، جويس كان يصيغ بكل صبر ودأب «عوليسه» المعاصر بنكهة القرن العشرين، ويرميه في أتون صراعاته المريرة مع الذات والمجتمع على نفس درب البطل الجوال في قصيدة (اﻷرض الخراب).

لا يختار جويس بطله من بين أصحاب اﻷغلبية الدينية في أيرلندا، بل يختاره شخصًا خارج هذه المنظومة تمامًا، فانتماء بلوم اﻷولي للعقيدة اليهودية كثيرًا ما تضعه في أكثر من مناسبة في موقف عصيب، يصل لذروة هائلة في مشادته مع «المواطن» في الفصل الثاني عشر.

ونرى انعكاس ما يقاسيه من نبذ وشعور بالدونية ورغبة في التحرر منهما في لاوعيه خلال المواجهة القاسية التي يقفها مع ذاته في المسرحية أو الفصل الخامس عشر التي تفرغ كل ما كان مكتومًا من أفكار وخواطر على مدار رحلته في شوارع دبلن وعلى مدار حياته بشكل كاشف.

والتي لم تكن لنراها كلها لولا هذا الشكل المسرحي السريالي الذي صمم به هذا الفصل حيث تنعدم الفواصل بين الخيال والواقع، وتستحيل خشبة المسرح الصغيرة إلى عالم شاسع يتسع لآلاف البشر من مختلف اﻷزمنة، ويتسع حتى للأشجار والحيوانات والجمادات.

كما لا يحول جويس بلوم لشخص مثقف نخبوي يعتكف فقط مع من يماثلونه ويعيش في برج عاجي، صحيح أن بلوم شخص فائق الثقافة ومتنوع المعارف بشكل يحُسد عليه بفضل ما تعلمه في «جامعة الحياة» حتى مع عدم استكماله لتعليمه على عكس ديدالوس، إلا أنه في نفس الوقت ليس بالمثقف المتقعر إطلاقًا الذي ينظر لسكان مدينته من عليائه، وهى نقطة هامة تشكل بارزًا تشكل فارقًا في القدرة على تمثل بلوم في الحياة.

يحاول بلوم طوال الوقت أن يشعر بالتحقق الإنساني الذي يفتقد وجوده في الكثير من جوانب حياته، هناك افتقاد للحميمية كأب وزوج، فابنته اﻵن بعيدة جدًا تسعى في مسارها الحياتي الجديد مما يعيد في ذهنه طوال اليوم ذكرى ابنه الذي مات صغيرًا.

وما زالت تشكل حادثة فارقة في حياته لم يستطع تجاوزها مهما فعل، وخلفت أثرًا واضحًا على علاقته بزوجته مولي التي لم يمارس معها الجنس طوال عشر سنوات كاملة، وباتت علاقته الزوجية بها مجرد «تحصيل حاصل»، علاقة قائمة على اعتياد الوجود في حياة كل منهما بدلًا من اعتمادها على المودة والمحبة اللتين لم يختفيا بشكل كامل.

وإنما تواريا بفعل مرور السنين وراء محاولة كل منهما في البحث عن تلك الحميمية المفتقدة بعد وفاة الابن، فهو يبحث عنها مع امرأة تراسله بالبريد وتنعته بـ«الشقي» أو في التطفل على امرأة مصطافة على الشاطئ في الفصل الثالث عشر ليستمني إثر تخيلاته لها، أو توجهه لبيوت الدعارة برفقة ستيفن ديدالوس تحت وطأة السكر، أو واقعة تحرشه بالخادمة التي لا نعرفها سوى عبر دخوله في عقله الباطن أو من خلال المونولوج الطويل لمولي.



إن مخيلة بلوم لا تتوقف عن وضع تصورات ﻷحلام كثيرة ومؤجلة يحاول بها طوال الوقت التعويض عن هوان حاله وقسوة أحوال عمله كوكيل إعلانات.

لا تتوقف محاولة التعويض فقط على الجانب الحسي أو العاطفي، بل تمتد إلى الجانب الإنساني في كل اﻷحوال، بلوم يحاول أن يؤكد وجوده وتضامنه الإنساني غير المشروط مع من حوله ولا يعزل نفسه عنهم حتى مع علمنا بحالة النبذ التي يعاني منها، يشاركهم اﻷفراح واﻷحزان، ففي الفصل السادس يتوجه لتقديم واجب العزاء لصديقه ديجنام، وفي الفصل الرابع عشر يتوجه إلى مستشفى الولادة للاطمئنان على السيدة بيورفوي التي تقاسي آلام الوضع منذ ثلاثة أيام.

إن مخيلة بلوم لا تتوقف عن وضع تصورات ﻷحلام كثيرة ومؤجلة يحاول بها طوال الوقت التعويض عن هوان حاله وقسوة أحوال عمله كوكيل إعلانات كما رأينا في الفصل السابع حين يقاسي من أجل تجديد إعلان لصالح عميل، طيلة الوقت يتذكر أحلامه بالتحقق ككاتب أو شاعر أو شخص له منتج أدبي حينما يسترجع إسهاماته الكتابية المتناثرة القليلة، أو حتى التحقق ماديًا حين يشطح في أحلامه بالمنزل المنشود وما يتكون منه قبل خلوده للنوم.

بعد هذه الرحلة الطويلة التي خاضها بلوم على مدار السادس عشر من يونيه 1904، ماذا كانت نتائج رحلته؟

لن نقول إن هناك انتصارات أو انكسارات عظمى وقعت له على غرار أبطال الملاحم الكبرى، لكنه في الوقت ذاته تكشف له أن كل محاولاته للحصول على تعويض وجداني وعاطفي كانت مجرد مسكنات مؤقتة وزائلة لا تكفي إطلاقًا.

وأنه رغم كل شيء لا يزال يحمل في قلبه حبًا لزوجته كرمى للأيام الخوالي، حتى مع تباعدهما وحتى مع علمه بخيانتها له، لكن الفرص المتاحة لم تستنفد بعد، هناك نية واضحة في منح اﻷمر محاولة جديدة مما يعنيه السير في مخاطرة غير معلومة النتيجة، واﻷمر كذلك بالنسبة لها.

أما مولي، فهى لم تكن تبحث فقط عن الحميمية في نزوة حالية تمر بها مع بويلان ويعرف بلوم ذات نفسه بحدوثها، بل تستذكر في الفصل الذي يخصصه لها جويس كل علاقاتها السابقة قبل وبعد زواجها من بلوم، هي لا تحاول الاستمتاع بالعلاقة التي تعيشها حاليًا والعيش في اللحظة اﻵنية فحسب.



تختم الرواية بالتداعي الحر للأفكار دون ضوابط لغوية ودون علامات ترقيم ودون التقيد بالعامل الزمني للرواية، لتكتمل الدوائر التي تجمع البشرية معا

بل تذكر على الدوام كيف كانت هي نفسها في سنواتها الغابرة، هناك الكثير من اﻷشياء التي تقيدها بالماضي كامرأة تتقدم في العمر دون توقف عن التطلع إليه كأيام مشرقة من وجهة نظرها، وتتراوح ذكرياتها عن زوجها بين الذكريات الجيدة والسيئة حتى تستقر بها الذكرى وتستكن لدى لحظة طلبه الزواج منها التي تتذكرها بشكل صاف تقرر معها منح فرصة جديدة من طرفها هي الأخرى.

لم يكسب بلوم فقط فرصة جديدة مع زوجته لا نعلم إلى ماذا ستؤول، بل كسب كذلك تعويضًا كبيرًا عن ذكرى ابنه الميت مع ستيفن ديدالوس الذي يواصل هو اﻵخر رحلته الشخصية نحو البحث عن صوته الفني الخاص منذ رواية «صورة الفنان في شبابه»، والذي يكتشف معه عددًا كبيرًا من المشتركات العقلية والفكرية، حتى مع اختلاف منظور كل منهما للحياة.

فمع نظرة بلوم المادية النابعة من ولعه بالعلوم الطبيعية، ينشد ديدالوس نظرة باحثة عن التناغم في العالم بحافز من اهتمامه بالفلسفة واﻷدب، وباتحادهما معًا يتكامل جانبا الحياة: اﻹبداعي المحسوس والمادي الملموس، وهو ما يأتي كنتيجة كل سلاسل اﻷفكار التي دارت في أدمغة بلوم وديدالوس منذ الصباح وصولًا إلى لحظة تشاور «حكومة الاثنين في تجوالهما» على حد قول جويس.

ومع اكتمال الجانبين معًا، يظل هناك مكون سري آخر، حاول الفنانون واﻷدباء لقرون التعبير عنه، وأفلت كثيرًا من قبضة التجريب والتحليل العلمي، وهو العاطفة، والتي تمثلها هنا مولي بلوم.

لذلك يأتي ختام الرواية بها، وفي أكثر حالاتها الخام من خلال التداعي الحر للأفكار دون ضوابط لغوية صارمة وبدون علامات ترقيم، وبدون التقيد بالعامل الزمني للرواية نفسها، لتكتمل بذلك أخيرًا الدوائر التي تجمع البشرية معًا وتتشابك في هيئة واحدة بعد كل هذا الوقت من التيه والبحث عن بعضها البعض، مشكلة ما يمكن أن تكون مرتكزات للروح الملحمية الجديدة للقرن العشرين في اﻷدب والحياة.


قراءات إضافية يوصى بها

جيمس جويس- أهالي دبلن، ت: أسامة منزلجي، صورة الفنان في شبابه، ت: ماهر البطوطي، أشعار، ت: ريم غنايمهوميروس- اﻹلياذة واﻷوديسة، ت: دريني خشبةت. س. إليوت- اﻷرض اليباب، ت: عبدالواحد لؤلؤةرمسيس عوض- جيمس جويس أمام المحاكم اﻷمريكيةآرثر باور- الغصن الذهبي: حوار ممتد مع جيمس جويس، ت: حسونة المصباحيHarry Blamires- The New Bloomsday Book: A Guide Through UlyssesDon Gifford- Ulysses AnnotatedDavid Norris and Carl Flint- Introducing Joyce: A Graphic Guide



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.