في أرض خياليةٍ عملتها الذكاء لا المال، تدور أحداث الرواية. بطل الرواية الشاب يبحث عن بطولةٍ يضعها في سجله الخالي إلا من شهادة البكالوريوس، هدفه من وراء السعي نحو المجهول هو الحب، وما سيعيده إلى المجهول هو الحب أيضًا.

بالتأكيد يمكنك تخيّل شعور السائح بالتيه والحيرة حين ينتقل من بلده إلى بلدٍ آخر، رغم أن تصفحًا سريعًا للإنترنت سيُخبره كل شيء عن البلد الذي يزوره. كما أنّ السائح سيكون محاطًا بالمرشدين السياحيين، وبترحيب سكان البلد المُضيف.

فهل يمكنك تخيل كيف يكون شعور شاب انتقل لأرض غريبة، لم يرها من قبل، ولا يعرف عنها سوى معلوماتٍ مبتورة من كتاب قديم؟ والأهم أنه لن يُستقبل بالترحاب، بل سيكون الهروب من الموت هو أول مهمة على رأس أولوياته أثناء زيارته للأرض الجديدة، ولا وجود لمرشد سياحيّ هنا، بل مجموعة من البشر يحاولون استغلاله بأقصى طاقتهم.

فالجميع في أرض زيكولا يحاول الهروب من الذبح في يوم زيكولا الوطني، وللنجاة من الذبح عليهم اكتناز أكبر قدرٍ ممكن من وحدات الذكاء. إذا كانت غاية جميع سكان أرض زيكولا واحدة، فإن ذلك لا يعني أن وسيلتهم لتحقيقها واحدة، ولا أنها شريفة أو قانونية، في جميع الأحوال، بل خليط من وسائل شتى يُعرّفنا عليها عمرو عبدالحميد في عالمه البِكر الذي لم ندخل إليه سابقًا.

ادخل في الموضوع مباشرة

صاغ عمرو عبدالحميد روايته من سلسلةٍ من الأحداث المشوقة تجعل الشعور بالملل احتمالية ضعيفةً أثناء القراءة، خاصةً مع الجو الغرائبي الذي أنشأ فيه الكاتب عالمه؛ أرض زيكولا التي يتعامل فيها الناس بوحدات الذكاء لا المال. إلا أنّ الكاتب استغرق وقتًا طويلًا في «تسخين» سيارته قبل الانطلاق بها، فمهد طويلًا لدخول البطل إلى أرض زيكولا، رغم أنّه لو بدأ بوجود البطل في السرداب أو مغشيًا عليه في أرض زيكولا لكان التشويق مضاعفًا.

أسلوب الكاتب المتسلسل والمنطقي في عرض الأحداث جعل التشويق مقتصرًا فقط على ما هو قادم، ماذا سوف يحدث في الصفحة القادمة؟ لكن لو أنّه انطلق بسيارته سريعًا، وحذف كثيرًا من الصفحات الأولى لكان التشويق فيما هو قادم، وفيما مضى، فيتساءل القارئ ماذا سوف يحدث، ويتساءل أيضًا ما الذي حدث حتى وصل بطلنا إلى هنا، لماذا غامر بحياته نحو المجهول؟

فإذا حذف الكاتب المقدمة التمهيدية الطويلة، ثم عاد ونثرها في قلب الرواية على هيئة ومضات من التذكر أو لحظات من مراجعة الذات يناجي فيها البطل نفسه أكان الأمر يستحق مخاطرته بحياته، لكانت الأحداث مكثفةً ومشوقة، دون أن يُخل ذلك بعدد صفحات الرواية أو بكمية الأحداث التي أراد الكاتب وضعها في النَص، فلن يحذف، بل سيُعيد توزيع الأحداث فحسب.

ربما كانت إعادة التوزيع لتضيف لشخصيات الكاتب بُعدًا ثالثًا نفسيًا، نتفهم منه صراعاتها بدلًا من سطحية الشخصيات. السطحية هنا لا يُقصد بها غياب النقاشات العميقة أو المحتوى الفلسفي، بل يُقصد بها غياب الصراع الداخلي. فقد قسّم الكاتب شخصياته ببساطة إلى أخيار وأشرار، يامن وأسيل الطيّبان اللذان يضحيان بكل شيء لخدمة صديقهما، وهلال الذي سيقتل أباه وأمه من أجل الميراث، ثم يستغل حاجة أخيه خالد للكتاب فيبعه له بكمية هائلة من وحدات الذكاء.

فالواقع يقول، إن البشر ليسوا على شاكلة هذه الثنائية البسيطة، طيب وشرير، بل نحتوي جميعًا الجانبين، صحيح أنّ هناك جانبًا منهما ينتصر في النهاية وبناءً عليه نتصرف، لكن مهمة الروائي ليست سرد الفعل النهائي، بل نقل القارئ للكواليس وتعريفه أن الأمور ليست بالبساطة التي تبدو عليها.

الروايات لا تُحاضِر بل تُحاور

غياب التركيز على الصراع الداخلي جعلنا لا نعرف الملامح المميزة لكل شخصية. إذا قرأت الرواية هل تتذكر شكل أسيل أو صفاتها سواء الجسدية أو النفسية؟ هل تذكر شيئًا عن يامن؟ الأهم، هل تذكر ملامح بطل الرواية ذاته؟ لن تذكر عنه سوى أنه شاب شهم و«جدع» رفض أن يقيم علاقة مع عاهرة تشتهيه لأنه «ليس رجلًا من الذين يأتون إليها».

هكذا ببساطة قرر شاب لا يجد طعامًا أو مسكنًا أو مرشدًا رفض امرأة حسناء قدمت له كل شيء بلا مقابل. لا يهم أيرفض البطل أم يقبل، المهم أن يظهر لنا الكاتب أن القرار لم يكن سهلًا، أن يجعلنا نتعاطف معه إذا وافق، ونصفق له إذا رفض، لكن بساطته جعلنا لا نلمح الشهامة في الموقف.

وقع الكاتب في مغالطة المحاضرة، فقد جعل الكاتب بطلَه يُحاضِر العاهرة عن شرفها وعن جمالها الذي سيذبل يومًا ولن تجد من يرعاها. المحاضرات والخُطب تعود للمؤلف لا للشخصية، فيمكن أن تتحول المحاضرة لحوار بين الطرفين، حوار على مستوى نفسي وفلسفي، لكن ذلك سيخطف اللحظة من الكاتب، اللحظة التي يقف فيها على المسرح وتتسلط عليه الأضواء وهو يُلقي محاضرته كاملة دون مقاطعة أو تشكيك أو أسئلة تعجيزية. لقد جنّب الكاتب بطله كل المتاعب الممكنة، حتى متاعب الحوار.

يختفى الصراع أيضًا عند الحديث عن شخصية أسيل، طبيبة الملك شديدة الثراء التي عشقت خالد لكنها لم تمنحه أي وحدات ذكاء ليستخدمها في العودة لوطنه. ربما نفسّر ذلك بأنها تحبه ولا تريده أن يرحل، لكنها حين رأته يكدّ شهورًا ليوفر وحدات ذكاء، وحين رأته يدفع آخر ما يملك من وحدات ليهرب، ألم يكن من الأولى بها مساعدته بدلًا من تركه يعرض نفسه لاحتمالية الذبح كونه أفقر أهل زيكولا؟

لا مشاعر، ولا انفعالات، ولا صراع

وفي لحظة مفصلية،يُقبض على خالد ويُعرض على أسيل ضمن الفقراء لتختار من بينهم أشدهم فقرًا ليُذبح، واختارت خالدًا رغم حبها له. كانت تلك اللحظة هى الذروة التي يمكن أن تسمع عندها أصوات الموسيقى ترتفع لأقصى حد، أو أن يجعلك الكاتب تبكي أو تلعن أسيل أو تتعاطف معها. كل ذلك لم يحدث، قرار بارد من شخصية باردة تلقاه خالد ببرود؛ لا مشاعر ولا انفعالات في المشهد. وإذا لم تجد المشاعر هنا، فهل تتوقع أن تجدها في مكانٍ آخر في الرواية؟

المفاجأة أنك لن تجد الصراع عند البطل شخصيًا، لذلك تمر الرواية دون أن تتعاطف مع البطل. كل تركيزك على قطع اللغز، لم تبكِ معه أو تحترق معه في حرّ الشمس، بل فقط تسأل كيف سيخرج، حتى أنه لو فشل في الهروب وذًبح في يوم زيكولا لن يبكي القارئ!

لعل ذلك يستدعي الحديث عن أسلوب السرد في الرواية، فقد جاءت الجمل مبتورة وناقصة. فكل الحوار الذي دار في الرواية تشعر أنه كان بحاجة إلى كلمة أو اثنتين كي تبدو الجُمل مكتملة، وكأن الكاتب كان يتدخل دائمًا لوضع نهاية الحوار بغض النظر عن حاجة النص إلى الحوار.

يمكن فهم الحوار المبتور بوضعه بجوار غياب البحث في أعماق الشخصيات، لم تُوضح أي شخصية تفسيرها لما تقوم به، أو شعورها بالندم أو بالفخر، فقط يقولون ما يفعلون. وفي أحيان كثيرة لا يتركهم الكاتب ليتحدثوا بل يتحدث واصفًا إياهم، بأوصاف أقرب لأدب الطفل منها لأدب البالغين.

الكاتب هو واضع القواعد

في إحدى اللحظات يقرر خالد أن يدعو عمال زيكولا للثورة على قاطعي طريق يسرقون منهم وحدتيّ ذكاء يوميًا كـإتاوة، بحوار بسيط قال لهم خالد عليكم أن تتحدوا وتوفروا وحداتكم لأنفسكم، وبوصف أبسط قال الكاتب:

هكذا استطاع خالد أن يُحرك عقول عمال زيكولا، وأن يقنعهم ألا يدفعوا تلك الوحدات مقابل حمايتهم مجددًا، حتى صاحوا فرحين بأنهم لن يدفعوا، وتراقصوا فرحًا بذلك، وزادت سعادة أسيل ويامن بما فعله خالد.

وصفٌ جليديّ
جامد، لا يبدو فيه العمال الفرحون أشخاصًا حقيقين بل شخصيات كرتونية تصيح بشكل
بهلواني. وأسيل ويامن لا يبدو عليهما التأثر الحقيقي بما فعل صاحبهما، ولا حتى
الفرح المشوب بالخوف من المواجهة الحامية التي ستحدث صباحًا بين الخاضعين طوال 50
عامًا لقطّاع الطريق وبين قطّاع طريق معروفين بشرّهم وأسلحتهم.

وقبل أن نعرف ماذا حدث في المواجهة، يجب التوقف عند طريقة الحديث، اللغة التي كُتب بها النص. النص مكتوب بلغة عربية فصيحة بسيطة، والحوارات تدور بالعامية المصرية. المعضلة أن الكاتب جعل العامية هي لغته، والفصحى هي لغة أهل أرض زيكولا، وفسّر ذلك بأن من أنشأ الأرض هم مصريون أصلًا وعلّموا أهل زيكولا العربية الفصحى، لكن أهل زيكولا لا يفهمون العامية فيُضطر خالد للحديث إليهم بالفصحى كي يفهموه.

قد تبدو مفارقة غير مقبولة، لكن في الروايات الخيالية نحن ندخل العالم الجديد بقواعد الكاتب ونلتزم بها، هو قال إن أهل زيكولا يفهمون الفصحى لا العامية، فإذن تصبح تلك قاعدة ومعلومة ثابتة عن تلك الأرض. لكن في مختلف أجزاء الرواية نرى خالد يتحدث بالعامية المصرية دون أن يسأله أهل زيكولا عن تفسير ما يقول، وفي أجزاء أخرى يسألونه مستفهمين عما يقول، فيبدو أن الكاتب ذاته هو من نسي القاعدة التي وضعها.

وكان بإمكانه
الهروب من المأزق بجعل كل الحوار بالفصحى، وقد فسرّ لنا سر حديث أهل زيكولا
بالفصحى، لذا لن توجد غرابة بأن يكون الحوار بينه وبين أهله في مصر بالعامية، وبين
أهل زيكولا بالفصحى، ثم ينقلب بعد عودته إلى العامية.

كذلك من المفارقات الغريبة أن بطل الرواية طوال شهور ينام في العراء بجانب البحيّرة، بلا غطاء أو مأوى، فلماذا لم يعرض عليه أصدقاؤه الأثرياء مأوى، ولماذا لم يستأجر لنفسه غرفة يسكن فيها؟

تجنّب الراحة والمصادفات

عودة
للمواجهة، حين حدثت المواجهة صباحًا انتهت في سطرين، لم يتردد الناس الذين اعتادوا
الخضوع، ولم يقاوم الذين يملكون السلاح والسلطة، بل هربوا وفاز الكادحون. تلك
المواجهة البسيطة تخبرنا أن الكاتب حاول تحاشي المتاعب قدر الإمكان، فكلما اقتربت
شخصيته الرئيسية من ورطة منحها الكاتب معجزة للحل، المعجزات أتت على هيئة كمية غير
معقولة من الصُدف.

يبحث البطل عن كتاب نادر في بلد بأكملها فيُصادف أن العاهرة التي أرادته هي من سمعت به، رغم أنها شابة صغيرة والشباب في الرواية لا يعرفون شيئًا عن الماضي. يبحث البطل عن أبيه وأمه الذين جاءوا لزيكولا من قبله، فيُصادف أنه أنقذ شابًا صغيرًا من الغرق فتأتي أم الشاب وتقول للبطل أنها رأت رجلًا يشبهه منذ 30 عامًا.

المصادفات تقتل الرواية، لأن الشخصيات لا تنضج إلا حين تُصب المصائب فوق رأسها صبًّا. فعلى الكاتب أن يبحث لشخصياته عن متاعب إضافية، صعوبات تأتي من ورائها صعوبات، لأن ذلك هو ما يخلق الرواية. أجل، يختلف ذلك عن الواقع، فقد تحدث المصادفات في الواقع، لكن لهذا يصبح الواقع مملًا، ولهذا يريد الناس قراءة الأدب.

حتى في لحظة النهاية، تحدث المصادفة غير المبررة حين يغير الملك قراره بمدخلات بسيطة. فأي حاكم هذا الذي لا يُبالي بتقليد سنوي مهم دشّنه. في سلسلة «ألعاب الجوع» نرى الحاكم متمسكًا بضرورة أن تبقى الألعاب مشتعلة بين المقاطعات، لم يفرح باللحظة الرومانسية التي قرر فيها حبيبان التمرد على اللعبة والموت معًا، ولم يفرح بنجاتهما معًا، بل أحضرهما في العام المقبل ليخوضوا صراعًا جديدًا يخرج منه فائز واحد. ذلك لأن الحاكم هنا يمتلك دافعًا حقيقيًا وسببًا وراء تقاليده، أما في أرض زيكولا فلا يبدو أن أحدًا يمتلك دافعًا لأي شيء.

رغم كل ذلك، تبقى الرواية قادرة على جذب قارئها وأسره في كل صفحة حيث يجد نفسه متشوقًا لقراءة الصفحة التالية. ربما قليل فحسب من الاستعداد لبذل وحدات الذكاء ما ينقص عمرو عبدالحميد لإصلاح عيوب «أرض زيكولا».