«أحمد زكي»، دون مقدمات يكفي اسمه لاستحضار كل ما يمثله من قيمه فنية جعلت معظم محبي السينما المصرية يضعونه في صدارة ممثلي جيله. كل ما يمكن أن يقال عنه سيكون مكررًا. حتى إن حاولنا الرد على الكلام المغلوط عن نجاحه رغم كونه لا يلائم المعايير الغربية للبطل السينمائي، لأن زكي كان وسيمًا حتى بهذه المعايير. بصوته المميز وعيونه الواسعة التي تشع ذكاء، ولأنه بالإضافة لكل هذا كان مصريًا أصيلاً، يعبر بقسماته وحركاته عن جمال خليط الأجناس التي سكنت مصر. كل هذا جعله جميلا بشكل إنساني وعالمي.

ولكن ربما ما يحتاج التكرار بشكل خاص هو لحظة الدفع الهائلة التي جمعت زكي بمخرج الواقعية المصرية الجديدة عاطف الطيب. خمسة أفلام بدأت بالتخشيبة في عام 1984، حينما كان زكي ينهي المرحلة الأولى في حياته السينمائية التي قدم فيها أدوارًا مساعدة كثيرة بالإضافة لمشاركته في أفلام بطولات ثنائية ذات قيمة كبيرة كأفلام «شفيقة ومتولي»، و«الراقصة والطبال» وغيرها.

في تلك اللحظة كان زكي في انتظار لحظة الدفع التي جعلته أحمد زكي الذي نعرفه. ثلاثية الطيب السياسية. «البرئ»، و«الهروب»، و«ضد الحكومة». ثلاثية جعلت من الفترة بين 1985 و 1992 هى الفترة الذهبية لزكي، تلك الفترة التي شهدت أيضًا تعاونهما المشترك في فيلم رومانسي اجتماعي عن قصة نجيب محفوظ هو «الحب فوق هضبة الهرم» في عام 1986.

اليوم نلقي الضوء بشكل خاص على هذه الثلاثية، والتي أثرت بشكل واع ولا واع على إدراكنا للحياة في مصر حتى اليوم. ثلاثية العسكري والمجرم والمحامي.


البريء: العسكري


في أغسطس/ آب 1986 كانت السينما تتحضر لعرض نبوءة «وحيد حامد»، و«عاطف الطيب» التي تحققت قبل عرض الفيلم بستة شهور، حينما ثار عساكر الأمن المركزي في فبراير/ شباط من نفس العام. الفارق الوحيد أن أسباب انتفاضة الأمن المركزي كانت سوء المعاملة وخفض المرتبات بالإضافة لتردد أخبار عن زيادة مدة التجنيد الإجباري من ثلاث لخمس سنوات. أما سبب ثورة العسكري «أحمد سبع الليل» في «البريء» كانت رفضه تعذيب المعتقلين السياسيين في سجون ومعتقلات مصر.

أحمد سبع الليل الذي أصبح بأداء أحمد زكى الصادق والعفوي أيقونة للعسكري القادم من الريف، لا يدرك معنى للوطن سوى أرضه ولا يعرف أن أعداء الوطن الذي يسقيهم مر العذاب بأمر قادته، ليسوا سوى شباب مصر المتعلم الذي يطالب بحياة أفضل له ولهم. في المظاهرات التي اجتاحت مصر في السنين الست الأخيرة كنا نشاهد المئات من أحمد سبع الليل ولكنهم للأسف لم يرفضوا ضرينا ولو لمرة واحدة.

أنهى الطيب وزكي فيلمهما بصراخ رافض للتعذيب ووابل من الرصاص صادر عن سبع الليل تجاه كل العسكريين المتواجدين في الكادر. حتى تخرج رصاصة جديدة من برئ جديد لتنهي حياة سبع الليل. هذه النهاية انتظرت حتى وفاة زكي في 2005 لتعرض لأول مرة للجمهور بعض رحيله.

حاول الطيب وزكي إذن أن ينهيا حكاية البرئ الذي تستخدمه السلطة كأداة للقمع بالتمرد ثم التطهر الفردي بالموت. ولكن اللجنة التي تشكلت في 1986 من وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الثقافة قررت أن تنهي حكاية البرئ بالاستسلام الفردي. بالصعود لبرج الحراسة والاكتفاء بالمقاومة الصامتة، وعزف الناي خلسة.


الهروب: المجرم


كان زكي في عام 1991 واحدًا من أبرز نجوم جيله. وفي حفل مهرجان إسكندرية احتفل بفيلمه الأخير «الراعي والنساء»، واجتمع مع «سعاد حسني» التي شاركته البطولة، و«نور الشريف» الذي احتفل بدوره المميز في «الصرخة»، و«محمود عبد العزيز» الذي انتزع جائزة أفضل ممثل بدوره العبقري في رائعة «الكيت كات» لداوود عبد السيد.

كان زكي مهددًا إذا بالتراجع خطوات للوراء وسط كل هؤلاء النجوم. خصوصًا أن منافسه الأبرز «عادل إمام» كان يستعد خارج هذا الكادر لبدء التعاون الذي وجد ضالته فيه مع وحيد حامد مؤلفًا وشريف عرفة مخرجًا. حينها عاد الطيب ليشارك زكي صناعة ما يعتبره الكثير فيلمهما الأفضل.

اقرأ أيضًا:

«قانون إيكا»: في وداع «محمود عبد العزيز»

نهاية الثمانينات وبداية التسعينات كانت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية تسير بخطى ثابتة نحو الأسوأ. كان المصريون البسطاء يلاحقون لقمة العيش في الخليج. و«مبارك» ينهي العشر سنين الأولى من رئاسته ويتحول شيئًا فشيئًا من الهدوء إلى العنف في اختيارته.

كان وزير الداخلية «زكي بدر» يسب المعارضة بالأم والأب ويلقن من يعارضه درسًا قاسيًا بلطمات متتالية بيده الغليظة. والجماعات الإسلامية تزداد عنفًا على جانب آخر. ووسائل الإعلام تصبح صاحبة السطوة والسلطة شيئًا فشيئًا. انتهت هذه المرحلة بالجلسات العرفية وتشتيت المواطنين من خلال قضايا إعلامية وهمية مصطنعة.

خلق «الطيب» من رحم هذا الظروف بطلاً شعبيًا تشبه سيرته سيرة «أدهم الشرقاوي». بطل تراه السلطة كمجرم، ويراه الجمهور كأمير الانتقام. بطلاً يتطهر من خطاياه بعد أن يتعرض للخيانة ثم يعود ليكشف عورات مجتمع ممسوخ.

من وراء كل هذا خرج أحمد زكي في دور منتصر. بشاربه الأسود وشاله الأبيض وصورته الأيقونية التي تعبر عن الوحدة فوق قطار الصعيد. لم يكتف زكي إذن بموهبته الفطرية ولكنه كان أيضًا مجتهدًا متفانيًا ومهتمًا بالتفاصيل لأقصى درجة ممكنة. لن تتذكر مثلاً لهجة منتصر الصعيدية لأنها كانت حقيقية ومتقنة للغاية، لدرجة أننا لم نشعر بها ولم ننشغل بها عن متابعة الحكاية والتفاصيل.

منتصر الذي يخرج من محبسه لينتقم من مدحت رجل الأعمال واللص الذي يقتات على أموال الفقراء ويصادق رجال الدولة ويشاركهم. مدحت زميله القديم في الجيش الذي شاركه العمل في مكتب للسفريات ثم دبر له مكيدة دخل على إثرها السجن.

منتصر الذي تستخدمه الشرطة كأداة إعلامية لإلهاء الناس عن قضايا الفساد والإرهاب وزواج رأس المال بالسلطة. منتصر الذي يحاول الرد بالانتقام الفردي ثم يتطهر من خطاياه القديمة بالموت برفقة صديقة الضابط الشريف الذي يكتشف أنه وحيد في مؤسسة تستخدم دماء أبنائها لإلهاء الناس، وليس لحمايتهم.

مرة أخري محاولة للانتقام الفردي بعد الصدمة ومعرفة الحقيقة، ومرة أخرى محاولة للتطهر من الخطايا القديمة من خلال الموت. ربما إذا كان سبع الليل زميلاً لمنتصر في الجيش في زمن سابق.


ضد الحكومة: المحامي

حسين ابن عم وهدان لا يمكن يكون من أعداء الوطن.


كلنا فاسدون لا أستثني أحدًا حتى بالصمت العاجز.

يختتم عاطف الطيب أعماله مع أحمد زكي في 1992. يضعه على قمة الهرم ثم يرحل بعدها بثلاث سنوات. في «ضد الحكومة» يقدم زكي شخصية المحامي «مصطفى خلف». المحامي الذي يقتات على أموال تعويضات ضحايا الحوادث.

مصطفي خلف نصاب آخر ولكنه يحترف القانون. يظل كذلك حتى تأتي مرحلة الصدمة حينما يترافع عن طفل تعرض لحادثة أتوبيس برفقة زملائه في المدرسة. يكتشف مصطفى فجأة أن هذا الطفل هو ابنه. تتبع هذه الصدمة مرحلتا الانتقام والتطهر.

ولكن الطيب يقرر أن تتغير المعادلة قليلاً هذه المرة. يتطهر مصطفي بعرض عيوبه على الملأ، بتفويت الفرصة على خصومه في ابتزازه، يتطهر مصطفى من خطاياه بقتل مصطفى القديم وكل ما يمثله. يتطهر مصطفى بالاعتراف.

على الجانب الآخر يقرر المحامي الانتقام من السلطة ممثلة في قادتها لا في جنودها. يطلب المحامي محاكمة الوزراء. لأن حادثة تصادم حافلة مدرسية هي مسئولية وزير النقل لا السائق ومسئولية وزير التعليم لا المدرسين المشرفين.

بمد الخط على استقامته فإن التعذيب في «البرئ» هو مسئولية وزير الدفاع، والقتل وفبركة القضايا في الهروب مسئولية وزير الداخلية لا الضباط عديمي الضمير. ومسئولية الوزراء ليست شخصية بالطبع. المسئولية هي مسئولية النظام ككل. من رأسه، من رئيس الجمهورية. المحامي يرفض شيوع الاتهام. المتهمون معروفون وإن كان لنا من خطيئة نتشاركها جميعًا فهي الصمت عن اتهامهم.

نحن إذن أمام نفس المراحل الثلاث في «البرئ» و«الهروب» و«ضد الحكومة». مرحلة الخطيئة، مرحلة الصدمة والانتقام، مرحلة التطهر. يتصرف مصطفى ومنتصر وسبع الليل بنفس الشكل، وفي حين نبدو أمام صداقة أو زمالة محتملة بين العسكري والمجرم، يبدو المحامي كشريك محتمل للدفاع عنهم سويًا ضد الحكومة.

نحن إذن أمام ثلاث شخصيات حية تتشارك العالم الذي صنعه الراحل عاطف الطيب وقام ببطولته الراحل أحمد زكي.