خلال القرون الأخيرة اقترن الحراك النسوي في الغرب -من حيث المطالبة بمساواة النساء بالرجال- بالحركات والهبات الشعبية، على اختلاف دوافعها وأهدافها. كأن النساء يتحين الفرصة لتنظيم أنفسهن والمطالبة بحقوقهن، سواء في التعليم والتملك والمشاركة السياسية وغيرها، بعدما يئسن من أن يبادر الرجال -حتى دعاة التنوير والثوار منهم- بمنحهن إياها. فأصدرت الكاتبة المسرحية والناشطة «أوليمب دو جوج» بيان حقوق المرأة والمواطنة عقب الثورة الفرنسية عام 1789، ونشطت النساء البيض والسود خلال الحرب الأهلية الأمريكية في ظل الحراك المناهض للعبودية.

وبالفعل، جنت المرأة ثمار هذا الكفاح على مختلف الأصعدة، وخضع المجتمع والقانون ولوائح العمل وغيرها للنقد النسوي، ومن ثَمَّ للتعديل والإصلاح. لكن تظل الأسرة النووية (Nuclear Family)، المكونة من أب وأم وأطفالهما -بوصفها مؤسسة اجتماعية- من أكثر المجالات التي خضعت للتنظير النسوي، بعد اعتبارها لفترة مجالًا خاصًّا، تشكل بصورة طبيعية، موافقًا للفطرة، يحقق المنفعة القصوى للأفراد، وللمجتمع الصناعي الحديث.

ولعل الدور الوظيفي المهم الذي تلعبه الأسرة النووية لصالح المجتمعات الصناعية الرأسمالية، لا سبيل إلى إنكاره. لكن الفرضية السابقة، أي تحقيقها المنفعة القصوى لأفراد الأسرة، هي ما دأبت التيارات النسوية على رفضها وانتقادها، بشكل متواصل، من منطلقات عدة، حتى اليوم.

إلا أن لكل تيار نسوي انتقاداته الخاصة، ورؤيته المختلفة، لدور مؤسسة الأسرة، ومدى ضررها، وكيفية إصلاحها. وسنعرض فيما يلي لأبرز هذه الآراء، لدى التيارات النسوية الثلاث الرئيسية: النسوية الراديكالية، والنسوية الماركسية، والنسوية الليبرالية.


النسوية الراديكالية: «كفاكن نومًا مع العدو»

تؤمن النسوية الراديكالية أن التمييز على أساس الجنس هو أقدم أشكال التمييز وأكثرها تجذرًا في العقل الجمعي. حتى أن النظام الأبوي Patriarchal –المسئول عن كل المظالم التي تقاسيها المرأة- قد أفسد بسمومه جميع أشكال العلاقة بين الرجل والمرأة، في المجال العام، مثل الحياة المهنية والعمل السياسي، وكذلك المجال الخاص أيضًا.

لذا يتخذ أغلب هذا التيار موقفًا معاديًا لمؤسسة الأسرة، في صورتها النووية. ففيها يستغل الرجل المرأة من جميع الأوجه، فتقوم بالواجبات المنزلية، وتقدم له الدعم العاطفي، ويستغلها جنسيًّا، وتنجب له أطفالًا تتولى رعايتهم، كل ذلك «مجانًا». ناهيك بأن الأبناء يشهدون في الأسرة التمييز بين الجنسين، منذ أيامهم الأولى، فيتشربون هذه الثقافة على أنها حقيقة بدهية وسنة كونية، ليورثوها رجالًا ونساءً إلى الأجيال التالية.

كذلك لا يرى هذا التيار أي جدوى للحلول الوسط أو الإصلاح التدريجي من داخل المنظومة. بدليل أن اقتحام النساء لسوق العمل نتيجة ضغوط نشطاء النسوية الليبرالية لم تزد النساء -في رأي النسوية الراديكالية- إلا بؤسًا، إذ صارت ملزمة بمعظم الواجبات المنزلية التقليدية، إلى جانب أعباء الوظيفة، والدعم العاطفي والإشباع الجنسي للزوج المستغل.

يعتقد قطاع واسع من هذا التيار، مثل الأمريكية «شولاميث فايرستون»، أن سبب التمييز الجنسي بيولوجي في أساسه، حيث تضطر المرأة نتيجة لمشقة الحمل والرضاعة ورعاية الأطفال، إلى الاعتماد على الرجل، مما يؤثر سلبًا على استقلالها الاقتصادي، ويضعف منافستها لأقرانها من الذكور في سوق العمل. فالأمومة بطبيعتها تقهر المرأة وتؤذيها.

لكن اليوم، يمكن للمرأة التحرر من هذا التمييز والظلم البيولوجي، بفضل التقدم الكبير في تقنيات التناسل مثل الأرحام الاصطناعية. بينما يرى آخرون أن العلاقات الجنسية المغايرة -في جوهرها- مسيئة ومؤذية للمرأة، بل الأسرة النووية التقليدية، من زوج وزوجة، أداة سياسية لقهر المرأة واستغلالها من قبل الرجل.

لذا ينادي تيار السحاقية السياسية بالاستقلال الأسري التام عن الذكر، وابتكار أشكال جديدة للأسرة، مع رفض جميع العلاقات الجنسية المغايرة -بين الذكر والأنثى– باعتباره خيارًا سياسيًّا، فكل شأن شخصي هو شأن سياسي أيضًا.[1]


النسوية الماركسية: «فتش عن الرأسمالية»

ليست الأسرة النووية عند النسوية الماركسية إلا ترسًا في آلة شر عملاقة تدعى الرأسمالية، تطحن الرجال والنساء، بدرجات متباينة، وتفسد حياتهم. فشقاء المرأة في المنزل، بأعبائه المختلفة، يلعب دورًا مهمًا في تسيير الآلة الصماء.

النساء قوة عاملة احتياطية، تؤدي دورها في أزمنة الازدهار وتسارع خطوط الإنتاج، ثم تعود إلى ثكناتها، تُطهي الطعام وتُهيئ البيت، عند الكساد، وتقدم المرأة الدعم العاطفي المجاني للرجال، الذين يعانون اغترابًا كفيلًا بدفعهم إلى الثورة، لولا هذه الرعاية والدفء الأسرى، إلى جانب المسئولية التي تُكبل كاهل رب الأسرة، وتجبره على الرضوخ، طلبًا لرزق يسد به رمق الجوعى الذين يعولهم.

كما تعتني المرأة بالمرضى، وتخدم العجائز، وتربي الأطفال -عمال المستقبل البؤساء- تهيئهم للرضوخ، والسير على خطى الوالدين، في حلقة شقاء مفرغة. تفعل المرأة جل ذلك بالمجان، مما يعين الرأسمالية على خفض الأجور للحد الأدنى، وتعظيم الربح قدر الإمكان.

أما السبيل الوحيد للفكاك من هذا الكابوس، فهو اتحاد الجنسين، وشلّ التروس، لإيقاف هذه الآلة الشيطانية، في خطوة ضرورية وفاصلة نحو تحقيق المساواة وتشييد مجتمع مثالي، تختفي فيه الفروق بين الطبقات كافة، وبين الجنسين أيضًا. حتى العناية بالأطفال وتربيتهم، ستصبح خدمة مجتمعية، لا شأنًا فرديًّا. وإن كانت هذه المساواة بين الجنسين لم تتحقق في أي من التجارب الاشتراكية التاريخية.

على الجانب الآخر، لا تعفي النسوية الماركسية الرجال من الذنب. فهم يستغلون المرأة لصالحهم، حتى اعتبر «فريدريك إنجلز» الزواج بصورته آنذاك نوعًا من البغاء، تضطر فيه المرأة إلى بيع جسدها وجهدها للرجل، في مقابل الأمن الاقتصادي والحياة المطمئنة قدر الإمكان، بعيدًا عن المجتمع الرأسمالي المتخم بالصراع والتطاحن.

لكن في حالة غياب أي علامة على ثورة عمالية على المدى القريب، يتوجب على النساء المطالبة بمقابل مادي مناسب لجهودها في المنزل، كنوع من الضغط على النظام الرأسمالي.


النسوية الليبرالية: «الإصلاح من الداخل»

بشكل عام، لا تعادي النسوية الليبرالية مؤسسة الأسرة من أساسها. وترى أن أكثر الرجال لا يسعون إلى استغلال المرأة، بل يمكن للجنسين العيش معًا، في أسرة نووية، مغايرة جنسيًّا، بكل سعادة وهناء. وليست ربة المنزل التي اختارت هذه الحياة بحريتها، أقل من المرأة العاملة في شيء. إنه خيار مشروع، لا عبودية فيه ولا مازرخية.

كما ترى أن ترشيد المحتوى الإعلامي، والإصلاح التدريجي عبر التوعية والتعليم اللائق والنشاط الحقوقي، وتأهيل النساء وتوفير فرص العمل المناسبة، كفيل بإصلاح المجتمع وتحقيق المساواة بين الجنسين. على أن يتم ذلك بالتوازي مع مناهضة العنف الأسرى، والضغط من أجل المساواة في الأجور، وغير ذلك من القضايا النسوية التقليدية.

يرفض هذا التيار صراحة أي نظرة احتقارية للحمل والإنجاب وغريزة الأمومة. بل يرى أن هذه النظرة، مع الدعاوى الراديكالية المنفصلة عن الواقع، المخالفة لميول عامة الإناث في مختلف البلاد -الراغبات في شريك حياة مغاير جنسيًّا وأسرة نووية سعيدة- يضر بالكفاح النسوي ويُنفر منه.

كما يتهم هذا التيار التيارات الأخرى بإغفال المكاسب الحقوقية الهائلة التي نالتها النساء خلال العقود الأخيرة، خارج المنزل وداخله. إلى درجة شجعت كثير من النساء على مطالبة الرجال بالمساعدة في الأعباء المنزلية، وهي ترى في ذلك حقًّا لها، لا منة من رب الأسرة.

لكن تظل النسوية الليبرالية، المهادنة الإصلاحية في معظم تاريخها، أشد ارتباطًا بحقوق النساء البيض من أفراد الطبقة الوسطى والعليا في الغرب. وقد غلب عليها تجاهل التفصيلات الأسرية، وندرة النقد الموجه إلى دور الرجل داخل المنزل. حتى أنها حين دفعت النساء إلى الاشتباك بالمجتمع، وشغل الوظائف في المجال العام، لم تهتم بدعوة الرجال إلى المشاركة في أعباء المنزل.[2]


إلى جانب هذه التيارات الثلاثة، تدرس تيارات نسوية مختلفة مؤسسة الأسرة، وتقدم رؤيتها المختلفة. مثل النسوية الاشتراكية، التي ترى ضرورة انفصال السلطة الأبوية عن النظام الرأسمالي، ومن ثَمَّ يتوجب مواجهة المشكلتين، كل على حدة. كذلك تضم هذه التيارات داخلها تنظيرات أكثر تنوعًا، وأصواتًا مختلفة لا يسع المجال لذكرها.

وتظل الأسرة النووية مجالًا مهمًا للدراسة، تؤثر طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة فيها على المجتمع بأكمله. لكن يتوجب الانتباه -مثلما تنادي بعض الأصوات النسوية بالفعل- إلى حساسية وخصوصية هذه العلاقة، المفترض قيامها على أساس الحميمية والمودة والتراحم، لا التقسيمات الجامدة للأدوار، والتناطح والجدال.


المراجع




  1. acqueline Scott, Judith Treas & Martin Richards. “The Blackwell companion to the sociology of families”. Blackwell Publishing Ltd. 2007.

  2. “Feminism”. Britannica Academic, Encyclopedia Britannica, 28 Dec 2017.